05/07/2023

من دربند الى ستوكهولم: خط التحول المنتظر

صباح عيد الاضحى ، اقامت الشرطة السويدية خطا أمنيا أمام المسجد الكبير في العاصمة ستوكهولم ، لحماية سلوان موميكا ، الذي أعلن انه سيحرق نسخة من المصحف ويدوسه بقدميه ، تأكيدا على انضمامه لتيار اليمين المتشدد. ومعروف ان الرجل لاجيء من العراق ، يسعى لاقناع الطيف المعادي للمسلمين بدعم محاولاته للدخول مبكرا في الحياة السياسية.

بعد هذا بساعات كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يزور الجامع الكبير بمدينة دربند ، على ساحل بحر قزوين ، حيث ظهر امام كاميرات التلفزيون وهو يضم نسخة من مصحف قديم الى صدره ، ويحيطه بيديه ، بينما يحدث مستقبليه عن احترام الدولة الروسية للقرآن وكافة الكتب المقدسة ، ورفضها اي اهانة او جرح لمشاعر أتباعها "خلافا لما يجري في دول أخرى حيث يهان الكتاب المقدس ، ولا تفعل الدولة اي شيء للتعبير عن احترام معتقدات سكانها".

بوتين خلال زيارته الجامع الكبير في دربند 29 يونيو 2023
جريمة حرق المصحف ، قد تتحول الى حجر زاوية في السياسات الأوروبية الخاصة بالتعدد الثقافي والهجرة والاندماج. نعلم ان هذا ليس الحادث الأول من نوعه. فقد جرى بنفس التفاصيل تقريبا في ابريل 2020 ، ثم في يناير من العام الجاري. وفي المرة الأولى اثمرت الحادثة عن صدامات واسعة بين الشرطة ومهاجرين محتجين ، وسجلت اصابات واحرقت سيارات ، واعتقل عدة اشخاص.

الجديد في الحادث الأخير ، هو تزامنه مع الصدامات الواسعة التي شهدتها فرنسا بعد مقتل الشاب الجزائري ، نائل المرزوقي على يد الشرطة يوم 27 يونيو المنصرم. لكن هناك ايضا عدة حوادث تساهم جميعا في تحويل هذا الحادث الى قضية متشعبة الانعكاسات ، ونشير خصوصا الى موقف الرئيس الروسي ، الذي سيجير دون شك للصراع السياسي الموازي للحرب في اوكرانيا ، وهو – كما نعتقد - حلقة من حلقات الصراع الاوسع نطاقا ، الذي يدور حول عودة نظام القطبية الثنائية (روسيا والصين من جهة والدول الصناعية الاخرى في الجهة المقابلة).

ويظهر ان رسالة بوتين قد وصلت فعلا ، حيث تحدث بيان للجامع الازهر بامتنان ، عن موقف الرئيس الروسي ، بينما ندد بما يمكن اعتباره موقفا سلبيا من جانب الحكومة السويدية. لا اعتقد ان روسيا قد كسبت – بشكل نهائي – تعاطف العالم الاسلامي ، فلديها – هي الاخرى – مشكلاتها. لكن كلمة الرئيس بوتين في الجامع القديم ، قدمت جوابا للسؤال الذي يدور في أذهان الكثير من المسلمين ، سؤال: من يقف معنا اذا تعرضت هويتنا او مقدساتنا للتهديد او الاهانة.

جواب كهذا لا بد ان يزعج التحالف الغربي ، لأنه ببساطة يمهد الطريق لعودة التحالفات القديمة بين موسكو والعالم الثالث. وهو يشي بتحول جوهري في نظام العلاقات الدولية.

الحوادث التي تزامنت مع حرق المصحف ، تشكل في مجموعها اطارا تحليليا جديدا ، لا بد ان يؤخذ بعين الاعتبار في الدوائر الأوروبية. واحتمل ان نقاشاتهم التالية لن تتمحور حول حرية التعبير أو احترام المقدسات ، كما حصل في المرة السابقة ، بل حول الانعكاسات التي يمكن ان يقود اليها حادث من هذا النوع ، نظير اضطرابات باريس ، أو استثمار سياسي عالمي النطاق ، كما يظهر من توجهات الرئيس الروسي.

هذه اذن لحظة مواتية للمسلمين في اوربا. احتمل ان الخطاب السياسي للنخبة الحاكمة ، لن ينشغل في الأيام القادمة بمفهوم الدمج الثقافي الجبري ، كما جرت العادة في الاشهر الماضية ، بل سيدور غالبا حول الاستيعاب السياسي في اطار تعددي ، كما فعلت بريطانيا والولايات المتحدة من قبل.

انها فرصة لمن استوعب معناها. واظن ان على المسلمين المسارعة في اغتنامها ، بالانخراط الواسع في الحياة السياسية والمشاركة الفاعلة في الانتخابات العامة والمحلية ، لانها الطريق الوحيد للحصول على ما يطالبون به ، في اطار القانون.

الشرق الاوسط الأربعاء - 17 ذو الحِجّة 1444 هـ - 5 يوليو 2023م     https://aawsat.com/node/4416236

مقالات ذات صلة

ابعد من تماثيل بوذا

حرب الرموز

استنهاض روح الجماعة

الاسئلة الباريسية

الاسئلة التي تزيدنا جهلا

تلميذ يتعلم وزبون يشتري

ثقافة العيب

حديث الغرائز

الحر كة الا سلامية ، الغرب والسيا سة ( 2 من 3 )

حول طبيعة السؤال الديني

خطباء وعلماء وحدادون

داريوش الذي مضى

الدرس الباريسي

دعوة لمراجعة مفهوم الامة/القومية/الوطنية

الشيخ القرني في باريس

العلاج الجذري لفتن العنصريين

عن العولمة والبقالين والحمالين و السمكرية و

قادة الغرب يقولون دمروا الاسلام ابيدوا اهله

المسلمون البريطانيون ومشكلة الهوية

وهم الصراع بين الحضارات

اليوم التالي لزوال الغرب

28/06/2023

الغائب الكبير في السودان وروسيا


اكتب هذه السطور استدراكا على فكرة لصديقي الأستاذ عثمان العمير ، فكرة هي اشبه بالنبوءة عند بعض الناس ، وهي ترتيب منطقي للحوادث عند آخرين. في اوائل مايو المنصرم كتب العمير معلقا على تصريحات قائد ميليشيا فاغنر ، يفغيني بريغوجين ، الذي انتقد فيها وزارة الدفاع الروسية. وتساءل: هل يفضي هذا الى مشهد شبيه بما جرى في السودان ، أي تمرد الميليشيا على حكومة موسكو؟. وهو ما جرى فعلا في الاسبوع الماضي ، وفاجأ الجميع.

المحللون الذين تابعوا الحدثين الروسي والسوداني ، ركزوا على ثنائية القوة العسكرية. فهم يعتقدون ان وجود قوى مسلحة خارج اطار الجيش ، سيفضي – طال الزمن ام قصر – الى صراع بين القوتين. هذا تحليل يسنده تنظير علمي متين ، فضلا عن التجارب الواقعية المتكررة.

لكني أود النظر في زاوية أخرى ، هي حاجة كل بلد لما يسمى في الفلسفة السياسية "المجال العام" الذي يسهم في تحييد القوى المسلحة ومنعها من القفز على السلطة ، او الانخراط في الصراعات السياسية الاهلية.

لا بد من القول ابتداء ان نقاشا كهذا ، يفترض توفر سياق اجتماعي وثقافة سياسية ونظام علاقات ، لا تتوفر عادة في المجتمعات التقليدية. ولهذا فقد يكون النقاش غير ذي صلة بالأوضاع التي نناقشها. لكنني مع ذلك ارى ان طرح الموضوع سيستثير السؤال البديهي: لماذا نجح الآخرون في الوصول الى هذه النقطة ، ولماذا اخفقنا في ذلك؟. ان تفكيرنا في هذا السؤال سيحملنا خطوة الى الأمام. وهذا بذاته جزء من عملية التطور التي نتمناها في مجتمعاتنا.

المجال العام هو الفضاء الذي يتيح للناس مواجهة بعضهم ، ليتشاركوا في الرأي او يختلفوا من دون جبر ولا خديعة. ان السمة الاولى التي تسمح بقيام هذا الفضاء المشترك وانسياب التعاملات فيه ، هو عدم انفراد اي جهة أهلية بقوة فائقة او سلطة مادية او معنوية ، تمكنها من اقصاء الاطراف التي تتبنى رأيا او مصلحة مخالفة للبقية.

وفقا لرأي الفيلسوف المعاصر يورغن هابرماس ، فان المجال العام هو الرحم الطبيعي لما نسميه اليوم "الرأي العام" الذي ينمو ويتبلور في سياق التبادل المتواصل للأفكار والآراء بين المواطنين ، حول القضايا العامة ، بما فيها تلك القضايا الخاصة التي يرى بعضهم ان لها بعدا عاما ، او انها تؤثر على المصالح المشتركة. لا يستطيع المواطنون جميعا ممارسة السلطة ، وليس من الحكمة ان يفعلوا. لكن من المهم ان يشاركوا بالراي في القضايا التي تؤثر عليهم ، او التي يكون أشخاصهم او مصالحهم جزء من موضوعها.

دعنا نتخيل ان هذا المجال كان موجودا في روسيا ، فهل كان بوسع الرئيس بوتين ان يشن الحرب على اوكرانيا ، دون ان تسمع مليون صوت محتج؟. او لنذهب الى الجنوب ، الى الخرطوم التي انتفضت فمهدت الطريق للاطاحة بالرئيس السابق عمر البشير ، اما كانت تستطيع فعل الشيء نفسه مع الذين امسكوا بالزمام بعده ، ولو حصل هذا فهل كانت البلاد تنزلق الى الحرب الأهلية التي نقترب منها اليوم؟. بل لو ذهبنا مسافة ابعد زمنيا: هل كان صدام حسين سيغزو ايران ثم الكويت ، لو كان المجتمع قادرا على الاعتراض العلني على قرار كارثي كهذا؟.

هذه الأمثلة كلها تشير الى مواقف ضرورية من حروب كارثية. لكني اريد الاشارة ايضا الى ان كل مجتمع يحوي العديد من اصحاب الافكار والكفاءات والاشخاص الذين لديهم رؤية مستقبلية ، يمكن ان يكون احدها او بعضها مفتاح الباب نحو التحولات التاريخية الكبرى في مجال العلم او الاقتصاد او غيره.

لا يمكن لهذه الرؤى العظيمة ان تظهر أو تتبلور ، ما لم يكن ثمة فضاء آمن وسليم ، يمنح الاحترام اللازم والقيمة المناسبة لكل رأي او فكرة ، سواء كانت عظيمة حقا او كانت بسيطة.  

الشرق الاوسط الأربعاء - 10 ذو الحِجّة 1444 هـ - 28 يونيو 2023م  https://aawsat.com/node/4405426

مقالات ذات صلة

اربع سنوات ونصف على اقرار نظام الجمعيات الاهلية

ترمب على خطى يلتسن

الجمعيات الاهلية : الترخيص في غياب القانون

حان الوقت كي يقيم المثقفون نواديهم المستقلة

سوريا قد تكون بوابة الحرب الباردة

عرب اوكرانيا وعرب روسيا

في الطريق الى المجتمع المدني

كي تستمر المنتديات الأهلية رافدا للحياة الثقافية

مجتمع الاحرار

المجتمع المدني كاداة لضمان الاستقرار

من المبادرات الثقافية الى الحياة الثقافية

من المجتمع الطفل الى المجتمع المدني: تأملات في معاني اليوم الوطني

21/06/2023

ماذا جرى للسودان ، اين الميل للمسالمة واللين؟




لو سألني أحد عن أكثر العرب ميلا للتسالم وابعدهم عن التنازع ، لما اخترت غير السودان. لا اقصد بطبيعة الحال كل فرد في هذا البلد ، ولا كل فرد في غيره. انما أشير الى السمة العامة التي نطلقها على البلد كمجموع ، دون خشية الاتهام بالمبالغة او التفريط. اظن ان كثيرا من القراء يوافقني في هذا.

مع ذلك ، فان هذا البلد ينزلق الان نحو حرب أهلية ، لا سمح الله.

هل الميل للتسالم مجرد صبغة خارجية ، هل الذي امامنا واقع لا نعرف تفاصيله: مجتمعات عديدة بعضها خشن وبعضها لين ، بعضها ظاهر وبعضها مجهول؟.

هذا سؤال يتعلق بطبائع المجتمعات. وهي – كما نعرف - ليست صفات تنتقل عبر الجينات ، من الآباء للابناء ، كما اعتقد كتاب الازمنة القديمة ، بل هي انعكاس للعقل الجمعي أو الذهنية العامة ، أي محصلة التفاعل المتواصل بين مستخلصات التجربة التاريخية والتوجيه الثقافي او الديني ، إضافة الى تأثيرات الواقع المعاش ، لا سيما الوضع الاقتصادي والسياسي.

حسنا.. لو افترضنا ان الذهنية العامة تتشكل بتأثير عوامل عديدة ، فما هي هذه العوامل وما هو نصيب كل منها في تكوينها النهائي؟. هذا السؤال ضروري كي نفكر في اهداف المعالجة وكيفيتها.

أعلم ان بعضنا سيبادر بتوجيه اللوم للتراث ورواته ودعاته. ولعله يندد بتقصيرهم في حث الناس على التسالم ونبذ العنف. وفقا لهذا الرأي ، فالميل للمسالمة او العنف حالة ذهنية ، واعية او عفوية ، قابلة للتعديل بواسطة التوجيه والإرشاد. البعض الآخر سيختار الاتجاه المعاكس ، فيكرر القول المنسوب لأبي ذر الغفاري "عجبت لمن لا يجد قوت يومه كيف لا يخرج في الناس شاهرا سيفه". وهذا يربط الميول العنفية بالتوتر النفسي المتصل بالفقر المدقع. أي ان الميل للعنف تعبير عن ضعف سيطرة العقل على المشاعر. ثمة فريق سيربط التوتر بالانقسام الطبقي ، لاسيما جمود الحراك الطبقى وفشل الشريحة المتعلمة في انهاء التصنيف القسري ضمن الطبقة الدنيا.

والحق ان هذه جميعا احتمالات واردة. لكن يصعب تحديد أي منها كمؤثر تام. ان السوداني مشهور بالميل للمسالمة واللين. لكن دراسات اجتماعية تظهر ان السودانيين يختزنون – على المستوى الفردي – ميلا قويا للمنازعة. في نهاية 2017 مثلا أظهرت احدى الدراسات ان 60% من السودانيين يفكرون في الهجرة ، وهي نسبة تتجاوز حتى البلدان المنخرطة فعليا في نزاع داخلي ، مثل اليمن والأراضي الفلسطينية وليبيا. ولاحظت الدراسة ان حوالي نصف الذين يفكرون في الهجرة ، لا يمانعون من السفر دون وثائق رسمية ، بعبارة اخرى فهم غير متحفظين ازاء مغامرة ربما تودي بهم للسجن أو الموت ، كما حصل تكرارا لقوارب المهاجرين عبر البحر المتوسط ، والمتسللين عبر الحدود الشمالية الغربية الى ليبيا.

هذا النوع من التفكير لا يعبر عن "عقل جمعي" بل عن شعور فردي بالاحباط واليأس. لكن المشكلة ان هذا الشعور ينتشر بين مئات الآلاف  ، سيما الشباب ، بحيث يتحول تدريجيا الى ظاهرة عامة ، يمكن ان تغير الصورة اللينة التي ذكرتها سابقا ، او على الاقل تشكل ظاهرة فرعية موازية لها.

ما يحدث اليوم في السودان من عنف متصاعد ، قد يكون ثمرة لتفاقم الشعور الفردي بالاحباط. واذا صح هذا الاحتمال ، فان البلد مقبل على انهيار تام للأمن الداخلي ، وتفاقم الاعتداءات على الاملاك الشخصية والعامة ، بشكل غير مسبوق.

الفارق بين التحولات النفسية العامة والفردية ، ان المجتمع يحافظ في الحالة الاولى على قدر من التضامن بين الجميع ، بحيث لا يعتدي احد على الاملاك الخاصة للاخرين. اما في الحالة الثانية فان الانفلات الاخلاقي يجعل الفرد متجردا من اي قيد ، لا يردعه سوى الخوف من السلاح المقابل. 

الشرق الاوسط الأربعاء - 03 ذو الحِجّة 1444 هـ - 21 يونيو 2023        https://aawsat.news/b4gz5

مقالات ذات صلة

 استعادة الايمان بالذات

استمعوا لصوت التغيير

ان تكون سياسيا يعني ان تكون واقعيا

 بحثا عن عصا موسى

تفكيك التداخلات

حق الأكثرية

حين تتحول العلمانية الى ضرورة

سجالات الدين والتغيير في المجتمع السعودي (كتاب)

عالم افتراضي يصنع العالم الواقعي

الفقر والإحباط والغضب

في معنى "الدروشة" وتطبيقاتها

ما الذي يجعل الانترنت مخيفا للزعماء التقليديين ومحبوبا للشباب ؟

المال كوسيلة لتبريد التوترات المحلية

مباديء اهل السياسة ومصالحهم

من الحلم الى السياسة

من تديين السياسة الى تسييس الدين

من جيل الى جيل

هكذا نتغير... مختارين او مرغمين

هوية سائلة؟

وعي المستقبل

وقت للأسى: نهاية السودان كما عرفناه

 

07/06/2023

حول العلاقة بين الثقافة والاقتصاد

 || المجتمعات العربية تفرط في مواردها الموروثة ، ثم تعيد استيراد وسائل انتاجها او منتجاتها من السوق الدولية. هذه مشكلة ثقافة||

حين تنظر في الخريطة الاقتصادية للعالم العربي ، ربما يلفت انتباهك الانحسار المتواصل للاقتصادات القديمة ، والتوسع المتسارع لأنماط الاقتصاد الحديث. بعض هذه الانماط يملك مقومات ذاتية او موضوعية تسمح له بالتجذر في البيئة المحلية ، وبعضها الآخر مجرد نسخ سطحي من أسواق العالم.

لو تأملنا حال أي مجتمع عربي في بداية القرن العشرين ، من 1901 الى 1920 مثلا (هذا اختيار عرضي لمجرد المقارنة) وتساءلنا عن مصادر الإنتاج الأكثر تأثيرا ، ونمط المعيشة الذي يتبعه غالبية الناس ، وبموازاة هذين ، نظرنا في طبيعة الثقافة السائدة يومذاك. ثم وضعنا هذه المعلومات على طاولة المقارنة ، مع نظيرتها في نفس الفترة من القرن الجديد ، أي الفترة من 2001 الى 2020. فما هي الصورة التي نتوقع ان تولد من تلك المقارنات. وفي الأساس ، لماذا نحتاج هذه المقارنة وماذا نستفيد منها؟.

انا لست خبيرا في الاقتصاد ، ولذا لا اطالع الموضوع من زاوية اقتصادية بحتة. لكني اعلم ان الاقتصاد ليس عالما مستقلا بذاته ، بل هو جزء من المنظومة الحياتية الشاملة التي نسميها "النظام الاجتماعي" ، والذي يلتزم بمقولاته وحدوده غالبية اعضاء المجتمع. من هنا فان السؤال عن مصادر الإنتاج وانماط المعيشة ، يشكل مدخلا لفهم الثقافة السائدة وكيفية تفاعلها مع الحياة اليومية للافراد ، وكيف يعاد انتاج تلك الثقافة او بدائلها ، بتأثير التحولات التي يمر بها المجتمع في جانبه الاقتصادي او السياسي. اما مقارنة نظام الحياة بين زمن وآخر ، فهي تساعدنا على فهم التحولات التي جرت في هذا المجتمع ، والعوامل التي حركتها او تلك التي تسهم في استمرارها وتحدد اتجاهاتها.

بديهي ان حديثنا يتناول الثقافة بالمعنى السوسيولوجي ، أي بوصفها الخلفية الذهنية التي توجه 90% من السلوك اليومي للفرد ، وهي بالتالي جزء مما نسميه بالعقل الجمعي. الثقافة العامة لاي مجتمع هي التي تحدد المقبول والمرفوض من أنماط العيش ، ما يستحق التقدير وما يستوجب اللوم ، وبالتالي فهي مؤثرة جدا في تحديد نوعية الحياة والإنتاج ، أي الحياة الاقتصادية لهذا المجتمع او ذاك. وعلى الجانب الآخر فان هذه الثقافة لا تبقى على حال واحد ، فهي أيضا تتحول باستمرار ، ولكن ببطء. وحين تتحول ، سنرى انعكاس هذا التحول على شخصيات الافراد وعلاقتهم ببعضهم ، وعلى نوعية الاعمال التي يميلون اليها او ينفرون منها.

لقد اثرت حتى الآن قضايا كثيرة ، لا يتسع المجال لشرح أي منها ، وهذا عيب معروف في تناول القضايا العامة. لكن يهمني الإشارة الى اننا بحاجة فعلا الى دراسة الأنماط الاقتصادية المستمرة منذ القدم ، في مقابل الأنماط التي كانت ثمرة للانفتاح على اسواق العالم.  وفدت بعد اتصاله بالعالم او تغير ظروفه الاقتصادية والسياسية.

دراسة هذه الأنماط مفيدة جدا في تحديد ما هو راسخ الجذور. ثم تطويره ان كان قابلا للتطوير ، بحيث يتحول الى مصدر انتاج رئيسي قابل للتطور المستمر اعتمادا على تفاعلات محلية. يمكن ان نضرب مثالا على هذا بالسياحة (بمختلف اغراضها) والزراعة والتعدين ، إضافة الى الصناعات التي كانت في الماضي متميزة.

الذي أرى ان العديد من المجتمعات العربية تميل الى التفريط في هذه الموارد ، ثم تعيد استيراد وسائل انتاجها او منتجاتها من السوق الدولية. نحن الان نستورد مفاهيم صناعة السياحة والفنادق ، كما نستورد أساليب الزراعة وعناصر انتاجها ، وامثال ذلك من البدائل الحديثة لقطاعات الإنتاج القديم ، البدائل التي تطورت في مجتمعات مختلفة ، وكان الأمثل هو تطويرها كجزء من نظام الحياة في مجتمعاتنا.

هل أدى هذا السلوك المزدوج الى اضعاف روحية الإنتاج في ثقافتنا العامة (العقل الجمعي)؟. هل عزز ميلنا للاستهلاك والتفاخر بالاستهلاك ، ام ساعدنا على التحرر من عقلية قديمة؟.

الشرق الاوسط الأربعاء - 19 ذو القِعدة 1444 هـ - 7 يونيو 2023 م https://aawsat.news/2n5wp

 مقالات ذات صلة

 عجلة التنمية المتعثرة

 اختيار التقدم

ارامكو واخواتها : الشفافية الضرورية في قطاع الاعمال

اعادة بناء القرية .. وسط المدينة

الأمل الآن وليس في آخر الطريق

بعد الإعلان عن غزال

البيئــة .. حاجــة اقتصــادية ايضــا

تفكيك التداخلات

التقدم اختيار.. ولكن

 تلميذ يتعلم وزبون يشتري

 التمكين من خلال التعليم

التنمية على الطريقة الصينية : حريات اجتماعية من دون سياسة

الحداثة تجديد الحياة

حـديـث النــــــــاس

حول برنامج التحول الوطني

خطباء وعلماء وحدادون

 شكوك في العلاقة بين الثقافة والتقدم

الطريق الى 2030

ظرف الرفاهية واختصار الكلفة السياسية للاصلاح

العدالة الاجتماعية كهدف للتنمية

 العدالة الاجتماعية وتساوي الفرص

العلاقة الاشكالية بين السوق والسياسة

فكرة التقدم باختصار

الفكرة القائدة ، مثال الواتس اب

في معنى "الدروشة" وتطبيقاتها

قرش الخليج الابيض

قرشنا الابيض ليومنا الاسود

كي نتحول الى دولة صناعية

كي نتخلص من البطالة

كي نحول العولمة الى فرصة

كيف نتقدم.. سؤال المليون

لا بد من تغيير المسار

ماذا تفعل لو كنت غنيا ؟

متى تملك بيتك؟

المجتمع السري

معالجة الفقر على الطريقة الصينية

المكنسة وما بعدها

من غزال - 1 إلى غزال - 2

نحو نماذج محلية للتنمية

النموذج الصيني في التنمية

هل نحتاج حقا إلى طريق ثالث ؟

هيروهيتو ام عصا موسى؟

31/05/2023

حول العلاقة بين الثقافة والنهضة


||فرضية كون الدين ضرورة للنهضة ، فرضية لا يدعمها دليل ، وفرضية ان الدين الصحيح هو دين الاقدمين ، لا يدعمها دليل ، كما ان انكار دور الانسان الفرد في صنع تجربة الحياة الدينية وصوغ تفاصيلها ، هو الاخر بلا دليل||.

بين يدي كتاب "إعادة التفكير في التنمية الثقافية" ، وهو دعوة لاحياء الدور المحوري للثقافة العامة ، في الحراك الاجتماعي - الاقتصادي الذي ينشده عرب اليوم. بذل الكاتب د. محمد حسن جهدا فائقا في الربط بين الأساس النظري للموضوع والتطبيقات التي يدعو اليها. لكنه – مثل العديد من الدراسات العربية ، أخفق في التحرر من مؤثرات الانتماء الاجتماعي ، وإيفاء الجانب العلمي حقه. للمناسبة فهذه مشكلة يواجهها كثير منا ، حين نقارب قضايا متصلة بالتراث أو القيم الدينية. في حالات كهذه يتراجع المنظور العلمي لصالح ما يعتقد الكاتب انه حقيقة دينية ، مع انها قد تكون مجرد انطباع عام او فهم من الأفهام المحتملة.

لايضاح هذه الإشكالية سوف أركز على مسألتين ، تكررت الإشارة اليهما في الكتاب ، وشكلا خلفية لجانب من طروحاته ، وهما مسألة العلاقة مع الغرب ، وربط صلاح المستقبل بالرجوع للماضي.

د. محمد محمود عبد العال حسن

يظهر واضحا ان الكاتب منتبه لكون العلاقة مع الغرب عنصر محوري ، في أي نقاش جاد حول عصرنة الثقافة العربية. لكنه لم يبذل جهدا مناسبا في معالجة المسألة ، بل أراد الجمع بين الاضداد كما يقال. وهذا يظهر في دعوته للتمييز بين ما اسماه "الغرب الثقافي والغرب الاستعماري العدواني". هذه الفكرة تمثل بالتأكيد خطوة متقدمة على نظيرة لها شائعة في العالم الإسلامي ، تدعو لتقبل التكنولوجيا والعلوم التجريبية ، بموازاة نبذ الثقافة والفلسفة التي تطورت في الغرب ، لأن الأخيرة راس جسر للنفوذ والهيمنة الاجنبية.

هذه فكرة متقدمة نسبيا ، لكنها لا تخلو من العلة الأكبر ، أي التعامل مع القيم ككائنات ناجزة ومهيمنة ، خارج الوعي الإنساني. وقد وجدت هذا المنهج انعكاسا لتصور عليل عن الانسان ، ينطلق من اعتباره كائنا منفعلا متأثرا ، تصوغ حياته عوامل خارج وعيه وخارج اختياره. وهذا يعاكس أولى أسس النهضة ، أي اعتبار الانسان عدلا كاملا مريدا خالقا لعالمه ، صانعا لمستقبله ، مسؤولا عن أقداره ، أو على أقل التقادير شريكا في كل ذلك.

يتصل هذا المعنى بالمسألة الثانية التي أشرت اليها ، وهي النظر للماضي كمرجع ونموذج. وقد شاعت كلمة الامام مالك بن انس رحمه الله "لا يصلح آخر الامة الا بما أصلح أولها" حتى ظنها الناس من كلام النبي. وذهبوا في تفسيرها كل مذهب. والمفهوم انه يقصد ان صلاح الامة بالدين. لكن تكررت التجارب ، بما فيها تجربة الامام مالك نفسه ، فما ظهر في الواقع تصديقا لهذا القول. والاصل ان التجربة المتكررة هي الدليل على صحة الرأي.

ولنا في حقيقة ما جرى في الماضي حديث طويل ، لا يتسع له المقام. لكني اريد التركيز على جوهر المسألة أي النظر للإنسان باعتباره وعاء فارغا ، تلقى فيه القيم والأفكار والايديولوجيات ، فيتلقاها كما هي. واظن هذا قياسا على مكانة الدين ، حيث افترض غالبية الإسلاميين ان الانسان لا دور له في هندسة حياته الدينية ، بل هو متلق منفعل ، يتلقى القيم والتعاليم كما هي فيطبقها تعبدا وتسليما ، بلا نقاش ولا مراجعة.

هذا تصور عن العلاقة بين الدين والمؤمنين ، اراه فاسدا ، بل سببا لاخفاق العديد من المحاولات النهضوية. ان فرضية كون الدين ضرورة للنهضة ، فرضية لا يدعمها دليل ، وفرضية ان الدين الصحيح هو دين الاقدمين ، لا يدعمها دليل ، كما ان انكار دور الانسان الفرد في صنع تجربة الحياة الدينية وصوغ تفاصيلها ، هو الاخر بلا دليل.

النهضة – في هذا الزمن بالذات – مستحيلة ، مالم يسترجع الفرد مكانته ككائن حر عاقل وأخلاقي. لا يمكن للدين ان ينهض على اكتاف المنفعلين السلبيين ، بل على يد صناع الحياة المتفاعلين مع تجارب البشرية في الغرب والشرق ، في الماضي والحاضر ، دون انبهار او استسلام ، ودون ارتياب او ترفع.

الشرق الاوسط الأربعاء - 12 ذو القِعدة 1444 هـ - 31 مايو 2023 م  https://aawsat.news/4496j

مقالات ذات صلة

أول الاصلاح عقلنة القيم

الخيار الحرج بين الهوية والتقدم

 ظرف الانتقال العسير

العالم ليس فسطاطين

العودة إلى ثقافة الزمن المنقضي

المكنسة وما بعدها

الموت حلال المشكلات

اليوم التالي لزوال الغرب

وهم الصراع بين الحضارات

17/05/2023

الحق ليس واحدا


||التعددية الدينية تبدو غريبة على اسماعنا ، لأننا تعلمنا منذ نعومة اظفارنا على ان الدين مطابق للتعريف الفقهي||

نشرت هذا الأسبوع تدوينة قديمة حول التسامح الديني. فأثارت نقاشا غير متوقع. وجدت الأسئلة الرئيسية تكرارا لما عرفناه قبل عقد من الزمان ، مع انها تطرح الآن بلغة لينة. وهذا يكشف عن حقيقتين متزاحمتين نوعا ما: فمن ناحية نستطيع القول ان مجتمعنا يتحرك بصورة ملموسة ، نحو تقبل الاختلاف وتداعياته. لكنه – من ناحية ثانية – غير قادر على حسم بعض الإشكالات الرئيسية في هذا الموضوع نفسه ، الأمر الذي يستدعي نقاشا اكثر تركيزا على نقاط التوقف.

أبرز أسباب الجدل في ظني هو مبدأ تعدد الحق. أي ان نكون على أديان أو مذاهب مختلفة أو حتى غير متدينين ، لكننا نعيش جميعا في توافق وسلام. ولهذا سوف اخصص مقال اليوم لتوضيح الفكرة ، وتمهيد ارضيتها لمن أحب المزيد من النقاش.


نفهم تعدد الحق على وجهين:

الوجه الأول: ان الحق في طبعه الاولي ، لا ينحصر في تطبيق واحد ، بل يتجلى في صور عديدة ، يمكن لكل منها ان يكون طريقا الى الله. فالذي آمنت به هو أحد احتمالات الحق او تجلياته. والذي آمن به غيري هو احتمال آخر للحق أو صورة ثانية. وهناك صورة ثالثة ورابعة وخامسة.. الخ. بمعنى ان كل الناس متجه الى الحقيقة المطلقة ، وهي الخالق سبحانه ، عبر الطريق الذي يراه أقرب وأوضح. وكل شخص مسؤول عن خياراته. لن يقف أحدنا نائبا عن غيره يوم الحساب ، ولن يحمل أوزاره. وهذا هو مذهب ابن عربي ، الفيلسوف والمتصوف المعروف.

الوجه الثاني: ان الحق هو الصورة المثلى للحياة الفاضلة ، وليس شيئا منفصلا عن الحياة او مختلفا عنها. وهو يتجلى في كل فعل انساني خير. ان اختلاف الاعمال والمشارب وسبل العيش ومصادر القوة والمعرفة ، هو الحيز الحيوي لتجلي قيمة الحق ، بوصفها المستوى الارفع في كل مجال ، الارفع موضوعيا واخلاقيا. ان الاختلاف الطبيعي بين سبل الحياة – وبالتبع تجليات الحق في كل منها - عامل مؤثر في ارتقاء الانسان والعمران.

في هذا المعنى ، يتطابق مفهوم الحق مع سعي الانسان لاتقان عمله. ونعتبر هذا المسعى جزء من التجربة الدينية الواسعة ، التي نسميها عمران الأرض. الفلاح يسعى الى الكمال من خلال توفير الغذاء للناس ، والطبيب يسعى من خلال حمايتهم من الامراض ، وهكذا البناء الذي يبني البيت ، والصانع الذي يوفر السيارات وأجهزة الاتصال ، والفقيه الذي يعلم الناس الشعائر ، والفنان الذي يحول الفكرة الى مشهد للتأمل من خلال لوحة او مقطوعة موسيقى.. الخ.

جوهر الحق في الوجه الأول علاقة واعية بين الخلق والخالق. مركزها هو الخالق ، والطريق اليه هو نية التقرب. اما في الوجه الثاني فالحق يتجلى في تفاعل البشر مع بعضهم ، تفاعلا بناء واخلاقيا ، يؤدي – موضوعيا – الى تطور حياة الانسان وارتقاء الجوهر الانساني ، اي العقل/العلم والاخلاق. وهذا – في اعتقادي – هو الغرض الجوهري للرسالات السماوية وجهود المصلحين في كل المذاهب والمشارب.

كلا المفهومين يبدو غريبا شيئا ما ، لأننا تعلمنا منذ نعومة اظفارنا على ان الدين مطابق للتعريف الفقهي. وهو تعريف ينطلق - بالضرورة – من التزام بمذهب محدد واطار اجتماعي وعرفي خاص ، لا يتعداه من اراد السلامة. لكنه – رغم غرابته – ليس جديدا. وقد اشار الى جانب منه غالبية المفسرين حين وصلوا الى الآية المباركة "ولو شاء ربك لجعل الناس أمَّة واحدة ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم". وفحواها ان الاختلاف اصل في الخلق وضرورة للحياة. وهكذا اراده الله. فهل ارادنا ان نقتتل مثل حيوانات الغابة ، ام نتسالم – رغم اختلافنا – كما يحكم العقل السليم؟.

الشرق الاوسط الأربعاء - 27 شوّال 1444 هـ - 17 مايو 2023 م    https://aawsat.news/y4mfr  

مقالات ذات صلة

ايزايا برلين ... حياته وفكره

اين ينجح الاسلاميون واين يفشلون

الحق الواحد والحق المتعدد: هل تراه معقولا؟

الخلاص من الطائفية السياسية: إعادة بناء الهوية الوطنية الجامعة

دعوة لمنهج جديد في الاجتهاد واستنباط الاحكام

الديمقراطية في بلد مسلم- الفصل الرابع

كلمة السر: كن مثلي والا..!

من الراي الواحد الى التعددية الدينية

 

 

 

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...