؛؛ شرط
الموضوعية هو تحرر البحث العلمي من القيود. وصف الواقع ونقده يجب ان يبنى على
قواعد علمية موضوعية بحتة متجردة عن كل قيد ديني او غيره؛؛
زميلنا
المهذب د.عبد العزيز قاسم رأى في دعوة هذا الكاتب للفصل بين الدين والعلم تكرارا
لدعاوى علمانية اكل الدهر عليها وشرب وتركها اهلها فضلا عن غيرهم (عكاظ 28 فبراير
2008). وهو يخلص في مناقشته المختصرة لتلك الدعوة الى ان "كل الطروحات التي
نادت بفصل الدين باءت بالفشل الذريع، لأن ثمة حقيقة تتمثل في أن محاولة استنساخ
التجربة الغربية كاملة في بيئتنا العربية هو استنساخ شائه وبليد لا يصمد أمام بيئة
أشربت ثقافتها الدين".تركيا الجديدة: شرق وغرب
هذا الاستنتاج الذي صيغ في لغة خطابية يحتمل معاني
عديدة، فهو قد يكون تقريرا لحقيقة كما ادعى في السياق. وقد يكون وصفا لواقع قائم،
بغض النظر عن سلامة هذا الواقع او خطله. وقد يكون تكثيفا لموقف مسبق هو رد فعل على
مواقف مضادة، فهو اقرب الى السجال منه الى المناقشة العلمية.
اتفق
تماما مع د. قاسم في ان بيئتنا العربية قد فشلت تماما في استنساخ التجربة الحضارية
الغربية. واضيف اليه ان الفشل في استنساخ تجربة الغرب اقترن بفشل مماثل في استنباط
مسار حضاري بديل ينبعث من ثقافتها الخاصة. لهذا فإن أمة الاسلام ضائعة بين فشلين:
فشل في الابداع وفشل في الاتباع.
ويحتاج
الامر الى مناقشة في سلامة الدعوى على المستوى النظري، وعرض التجارب التي تمثل
تقريرا عن واقع مرتبط بالدعوى النظرية. فالصواب والخطأ انما يعرفان بالناتج الفعلي
القابل للاختبار والمقارنة، وليس بالتأملات الذهنية المجردة.
يفخر
المسلمون بتجربة ماليزيا التي جربت المزاوجة بين المحافظة على الهوية واستنساخ
تجربة الغرب، وحاولت استنباط مسار وطني يجمع بين الاثنين. اتبع الماليزيون النموذج
الغربي في الاقتصاد والتعليم والسياسة، وحاولوا في الوقت نفسه تطوير مكونات هويتهم
التاريخية كي تستوعب مستجدات العصر، من منظومات القيم الاجتماعية الداخلية الى
العلاقة مع اتباع الملل الاخرى، وابدعوا نظاما يتسع للكثير مما يتطلع اليه عقلاء
الناس، وان لم يخل من عيوب.
يفخر
بعض المسلمين ايضا بتجربة حزب
العدالة والتنمية في تركيا، الذي طور خطابا سياسيا يستلهم القيم
الدينية ولا يتنكر لقيم الحداثة. ونجح هذا الخطاب في الاقتصاد والسياسة، كما وفر
فرصة لمصالحة تاريخية بين هوية تركيا المسلمة وواقعها العلماني. معظم البرامج التي
تبناها الحزب هي إعادة انتاج لاستراتيجيات عمل طورت في الاطار الحضاري الغربي. لا
نريد الاستطراد في هذا، لكن نضيف على سبيل الاشارة ان انجح الدعاة المسلمين
المعاصرين هم اولئك الذين تبنوا او استثمروا نتاج الحضارة الغربية من مفاهيم او
مناهج علمية او عملية او منتجات مادية. نجاح هؤلاء واولئك دليل على سلامة المزاوجة
المطلوبة بين المحلي والاجنبي.
يقودنا
هذا الى جوهر المزاوجة التي ندعو لها. تحدث د. قاسم عن "استنساخ" يعتبره
فاشلا، ولا نجادله في رأيه. اما الذي يدعو اليه هذا الكاتب فليس الاستنساخ، بل
اعادة الانتاج من خلال العلاقة النقدية. كمثال على ذلك فان نسخ مقال او كتاب هو
نقله كله والاقتصار على تغيير الاسم او العنوان او الشكل الخارجي، وهذا ما يفعله
الضعفاء والفارغون. اما اعادة الانتاج فهي عملية نقدية، تتضمن قراءة ناقدة للاصل،
ومقارنة بالاشباه والنظائر، وبحثا عن نقاط القوة والضعف، وتقديم علاجات بديلة
والاستدلال عليها، ثم تجربتها على ارض الواقع وعرضها للنقد والمراجعة. هذه هي
طريقة الباحثين الجادين، وهي قد تثمر ابداعا جديدا مختلفا عن الاصل، او تعديلا على
الاصل، وربما تكرارا وتعضيدا. لكن في كل الاحوال فان التطور يبدأ من هذه النقطة.
اذا اردنا استنباط مسار حضاري جديد فلا بد من البدء بما احرزه الانسان من تطور في
العلوم والمفاهيم والفلسفة والمنهج وادوات العمل. ولو اغفلناه لاي مبرر فسوف يكون
سعينا عبثا لا خير فيه. الامم تتكامل والحضارات تتكامل وتجربة الانسان تتكامل، فهي
جميعا حلقات متواصلة، يبدأ اللاحقون من حيث وصل سابقوهم. لهذا السبب فإن التفاعل
مع الغرب واعادة انتاج معرفته ليس خيارا بل هو ضرورة، الا اذا شئنا ان نبقى قرنا
آخر اسرى بين فشلين كما اشرت سابقا.
اما
دعوى الفصل بين الدين والعلم التي اغضبت الزميل العزيز فخلاصتها ان الكاتب يرى ان
العمل الفكري والبحث العلمي يجب ان يتحرر ويتجرد من كل قيد، وان وصف الواقع ونقده
يجب ان يبنى على قواعد علمية موضوعية بحتة متجردة عن كل قيد، فاذا وصلنا الى
نتائج، فنحن احرار في توجيهها صوب الوجهة التي تقتضيها الظروف، وهذا فحوى القول
المشهور "ما كل ما يعلم يقال، ولا كل ما يقال حان وقته او حضر صاحبه".
الاصل اذن هو البحث العلمي المتجرد. ولنا عودة الى الموضوع في وقت لاحق.