مهرجانات "مزايين الابل" وما
قيل فيها وعلى حواشيها اعادت احياء النقاش القديم/ الجديد حول التنوع الاجتماعي
وعلاقته بالهوية الوطنية، فكتب الاستاذ عبد المحسن الماضي في "الجزيرة"
حول العلاقة بين القبيلة والدولة، وكتب الاستاذ جبرين الجبرين حول المسألة ذاتها
في "الوطن" وكتب عنها زميلنا الانيق العبارة احمد فقيهي في "عكاظ". واتفق الجميع – وكتاب اخرون
من قبل – على الحاجة الى احتواء الهويات الفرعية، ومنها القبلية في الاطار الاوسع
للهوية الوطنية. وركز الاستاذ الماضي على اهمية دور الدولة في ردم الفجوات التي
تفصل بين الاطياف الثقافية والجماعات التي يتشكل منها المجتمع، من خلال ترسيخ قيمة
المواطنة المتساوية.
ولعل بعض القراء قد التفتوا
الى الروح الجديدة التي تسود هذه المعالجات، مقارنة بتلك التي شهدناها حينما اثيرت
المسألة ذاتها قبل عامين. اتسمت معالجات المرحلة الماضية بقدر ملحوظ من الضيق
بالتعدد ورغبة مبطنة في التخلص منه او تهميشه، مع دعوة اخلاقية الى الاعتراف
بالمختلف ومعاملته بالتي هي احسن.
اما كتابات اليوم فهي تنظر
الى التعدد كتجسيد للحالة الطبيعية للمجتمع. وهي تتحدث صراحة عن هوية وطنية تحترم
الهويات الفرعية، سواء كانت مناطقية او قبلية او طائفية، وتجمعها تحت سقف واحد
يتسع للجميع ولا ينفي احدا. كما انها – من
ناحية اخرى – تقرر مسؤولية الدولة عن تعزيز الهوية الوطنية الواحدة كاطار جامع،
خلافا لبعض ما كان يطرح قبل عامين، من تحميل المجتمع وحده مسؤولية التخلص من اعباء
تاريخه.
هذه المعالجات المتطورة دليل
على ان النقاش العلني للمسائل الوطنية العامة هو الطريق الى عقلنة الاراء وتعميقها
والاقتراب من الجوهر، بدل التحويم حول الحقيقة او الاكتفاء بالاعتذار عن الاخطاء
او تبرير القصور ثم الخروج بدعوات محض اخلاقية تعوم المسؤولية بين جميع الناس حتى
لا يشك احد في احتمال كونه بين المعنيين او المسؤولين.
نحن بحاجة الى المزيد من
النقاشات حول المسائل التي تشكل خلفية فلسفية او مفهومية للاجماع الوطني. ولعل
اولى المسائل الجديرة بالنقاش هي وجوه العلاقة بين الهويات الفرعية والهوية
الوطنية الجامعة. وقد سبق ان اقترحت في هذه الجريدة فكرة "شراكة التراب"
كقاعدة مفهومية للبحث في تلك المسألة.
والفكرة باختصار هي ان كل
مواطن شريك في كل ذرة من تراب الوطن، وان مجموع المواطنين مالكون لمجموع البلد
ملكية اصلية غير قابلة للنزع او التنازل. واضيف على ما سبق ان تلك الملكية هي مصدر
جميع الحقوق الثابتة لكل مواطن بمفرده ولمجموع المواطنين في مجموع الامور العامة.
وهي ملكية سابقة لقيام القانون، وعندئذ فان القانون لا يوجدها بل يحميها وينظمها.
جدير بالذكر ان فقهاء
المسلمين لم يتعرضوا لمفهوم الوطن في معناه الثقافي والقانوني الذي نعرفه اليوم،
لكنهم ناقشوا الحقوق المرتبطة بالموارد العامة في بحوثهم حول الخراج بانواعه.
والخراج هو التسمية القديمة للاملاك العامة، اي كل ما لم يتملكه الناس بالعمران او الشراء او سواه
من وسائل التملك.
ويشمل جميع المشتركات مثل الاراضي
البائرة والبحر وما فيه، والثروات التي في باطن الارض، والغابات والجبال والانهر
والمراعي.. الخ. وذهب كثير من الفقهاء الى ان هذه الموارد عائدة لمجموع المسلمين،
لاجيالهم الحاضرة ومن ياتي بعدها، وان الحاكم الشرعي مكلف بادارتها والتصرف فيها
نيابة عن مجموع اهل البلد ولمصلحتهم فقط، تصرفا يوصل اليهم جميعا اكبر قدر ممكن من
المنفعة.
هذا التصوير، رغم سبقه لظهور
فكرة الوطن، ولا سيما في صيغته الحديثة، هو نفسه الذي توصلت اليه الفلسفة السياسية
الاوربية في القرن السابع عشر وما بعده، كما نراها في فكرة الكومنولث (وهي المعادل
اللغوي لمفهوم الموارد المشتركة)، التي صاغها الفيلسوف الانكليزي جون لوك واصبحت
قاعدة لمفهوم الوطن القومي الذي نعرفه اليوم.
اظن ان الانطلاق من هذه
القاعدة في مناقشة العلاقة بين الاجزاء المكونة للمجتمع الوطني، وكذلك في مناقشة
العلاقة بين المجتمع والدولة، سوف تسهم في تفكيك العديد من النقاط الاشكالية، ولا
سيما في تحديد مكان الفرد باعتباره "مواطنا قائما بذاته" لا عضوا في
قبيلة او طائفة او منطقة.
من ناحية اخرى فان المفهوم
يحدد علاقة تفاعلية بين الوطن والمواطن. يحصل المواطن على حقوق معلومة مصدرها
شراكته في ملكية، وفي المقابل فهو شريك في تحمل مسؤولية بلده، شريك في بنائه
وادارته وحتى الموت من اجله.
اخيرا فانه يؤسس لفكرة
المساواة القانونية، لا كدعوة اخلاقية محضة، بل ايضا كاداة عقلائية لتنظيم العلاقة
بين المالكين على ارضية المعروف والانصاف.
29 / 11 / 2007م