26/08/2020

فتاة فضولية

 

سمعت القصة التالية من شابة تتحدث في برنامج وثائقي ، عن تاريخ الكمبيوتر. وخلاصة القصة انها كانت في المرحلة الثانوية ، يوم طلبت مدرستها بحثا في 1000 كلمة عن الذاكرة العشوائية للحاسب ، التي تسمى اختصارا "رام". واخبرتهم ان تقديم بحث متقن ، يعني النجاح القطعي في مادة الحاسب للفصل الدراسي باكمله. 

تقول الشابة انها سألت زملاءها ثم أباها وأمها ، فاكتشفت انهم جميعا لا يعرفون شيئا عن الرام ، مع انهم يستعملون الكمبيوتر في البيت والعمل او المدرسة. على ضوء هذا الاخفاق ، وضعت جدولا يحوي 50 سؤالا ، وبدأت في القراءة بحثا عن اجوبة ، كما راسلت بعض الخبراء. واستغرق هذا العمل نحو شهر ، قدمت في نهايته موجزا من 1000 كلمة ، وشرحا عليها في نحو 6000 كلمة. ومن ضمن ما احتواه الشرح ، مقترحات لمنع خسارة البيانات ، حين يحصل تذبذب في الطاقة.

   تقول هذه الشابة ان موضوع ال "رام" بات شغلها الشاغل طيلة العقد التالي ، وانها ركزت عليه خلال  دراستها الجامعية في مرحلتي البكالوريوس والماجستير. وهي اليوم من أبرز الخبراء في هذا المجال. سألها المذيع: لماذا احبت ان تروي القصة؟. فقالت انها تحوي جوهر فكرة التعليم التي لا يعرفها أغلب الآباء. ولو عرفوها لعلموا اولادهم فوق مايحصلون عليه في المدرسة.  الفكرة ببساطة ، ان المعلمة كانت تريد اثارة فضولهم للمعرفة. كانت تريدهم ان لايمروا بشيء دون التوقف عنده والتأمل فيه. وكانت تخبرهم أن العباقرة لايملكون ادمغة اكبر من سائر الناس ، لكن ميزتهم هي الفضول والتخيل. بداية العبقرية هي الالتفات الى كل شيء حولك.

 الفرد العادي لايلتفت للاشياء البسيطة المألوفة.   نحن – في العادة – نهتم بالاشياء الغريبة فقط ، بل ربما نمعن النظر فيها. لكن ، لاننا عودنا عقولنا على عدم التفكير في الاشياء ، فان التفاتنا يكون انطباعيا احساسيا ، اي انه لايتضمن "تفكيرا" في الشيء ، بل يقتصر على التفاعل العاطفي.  

دعني اقترح على اعزائي المعلمين فكرة مماثلة: اسألوا طلابكم عن التفاصيل الفنية لمكيفات الهواء في بيوتهم: اسالوهم عن موديل المكيف وسنة صنعه والشركة التي صنعته ، وكفاءة استهلاكه للطاقة وعدد الوحدات الحرارية والمساحة التي يشغلها ، والمساحة التي يخدمها ، ومعنى المصطلحات السابقة ، وكيفية الحصول على خيارات افضل.. الخ. اسألوهم عن سياراتهم: كيف يقيسون قوتها ومعنى ان تكون 200 حصان او اقل او اكثر ، والفرق بين السيارة الكهربائية والعادية ، وكم يكلف اقتناء السيارة حتى نهاية عمرها الفني. هذه الاسئلة ستثير عقولهم وتجعلهم يفكرون كثيرا كلما مروا بواحدة ، وستجعلهم يقرأون حولها ، واذا كان  ثمة من يواصل ارشادهم ، فقد يكونوا ممن يقدم افكارا جديدة في عالم المكائن والسيارات ، في قادم الايام.

احتمل ان اكثر ابنائنا لايعرف غير "ماركة" السيارة. وهم يمرون بها وبالثلاجة والمكيف وجدار البيت والباب والهاتف والطاولة والكتاب والمصباح ، لكنها لاتثير فضولهم ولاتدفعهم للتأمل فيها ، لان التفكير والتأمل في المسلمات والعاديات ليس عادة دارجة في ثقافتنا  ، مع ان مساءلة المسلمات وتفكيكها (اي التفكير فيها) هي اهم تجليات العقل المبدع.  من اراد التمييز بين اهل الذكر والغافلين ، فليتوقف الآن عند اي شيء يمر عليه ، وليتأمل فيه ، وليفكر في ما تراه عينه وما تخفيه (لان العين ترى اشياء ثم تخفيها عنك). عندئذ سيكتشف الفارق بين الذاكرين والغافلين.

الشرق الاوسط الأربعاء - 8 محرم 1442 هـ - 26 أغسطس 2020 مـ رقم العدد [15247]

https://aawsat.com/node/2469316

مقالات ذات علاقة

 اول العلم قصة خرافية

بين النهوض العلمي والتخصص العلمي

تدريس العلوم بالعربية.. هل هذا واقعي؟

تطوير التعليم من الشعار إلى المشروع

تعريب العلم ، ضرورة اقتصادية ايضا

تعزيز التسامح من خلال التربية المدرسية

التعليم كما لم نعرفه في الماضي

التمكين من خلال التعليم

الحق أولا

حقوق الانسان في المدرسة

حول البيئة المحفزة للابتكار

دعـــــوة الى التعــــليم الخــــــيري

سلطة المدير

شكوك في العلاقة بين الثقافة والتقدم

صناعة الشخصية الملتبسة

كتب الطبخ هي الاكثر رواجا في معارض الكتب

المدرسة وصناعة العقل

المدرسة ومكارم الاخلاق

معنى ان يكون التعليم العام واسع الافق

مكافحة الفساد بدء من المدرسة

الوطن هو الناس وليس الجغرافيا

يوكل علم ؟ ... يعني مايفيد !

19/08/2020

معنى ان يكون التعليم العام واسع الافق



ركز مقال الاسبوع الماضي على حاجتنا لتطوير النظام التعليمي ، على ضوء التحولات التي سيشهدها العالم مع نضج "الثورة الصناعية الرابعة". مع هذه الثورة سنرى عالما جديدا واقتصادا غير ما عهدناه. وأذكر هنا بما شهد العالم من تحول في الثقافة والاقتصاد بعد الثورة الاولى ، يوم صنع المحرك البخاري في اواخر القرن الثامن عشر ، وما حصل عقب الثورة الصناعية الثانية ، التي تنسب الى ظهور الكهرباء ومكائن الاحتراق الداخلي ، والثورة الثالثة التي ترتبط بظهور الكمبيوتر والانترنت والادوات الرقمية عموما. نحن الان نفهم التحولات الهائلة في حياة البشرية التي أثمرت عنها هذه الثورات ، ونعلم ان الثورة القادمة ستحمل تحولات اعمق واوسع ، ليس فقط في الاقتصاد ، بل في الاخلاق والثقافة أيضا.

ان السمة الابرز في التحولات الجارية اليوم ، هي اتساع الأفق. التكامل الفائق بين الآلات في احجامها الصغيرة ، مع انظمة الذكاء الصناعي والاتصالات العالية السرعة ، ادى فعليا الى توسيع المساحات التي يراها الانسان ويستوعبها ، على نحو غير مسبوق. الواقع ان انتشار الانترنت خلال العقدين الماضيين ، قد مهد هذا الطريق ، فبات كل انسان قادرا على رؤية أجزاء من العالم ، لم يتخيل وجودها سابقا.
لكن ما نعرفه حتى الآن هو نموذج مصغر ، عما سيعرفه العالم في السنوات القادمة. مع توفر انظمة الاتصال الفوري بكلف منخفضة ، فان كافة شرائح المجتمع ستكون متصلة بالعالم الافتراضي ، ولن تعود مصادر المعلومات قصرا على المثقفين او المهندسين او من يتقن اللغات الاجنبية.
كل شخص على هذا الكوكب ، سيكون قادرا على التفاعل المباشر مع أسواق ومجتمعات ، ومصادر عيش ووسائل عمل وترفيه ومصادر معلومات ، لم يتواصل معها سابقا بسبب حواجز اللغة او المال او القيود السياسية. هذه كلها ستزول تدريجيا ، ان كثافة المعلومات وسرعة الاتصال ، سوف تجعل المراقبة والحجب المادي مكلفة وغير فعالة ، اما حاجز اللغة فهو زائل بالتأكيد مع تطور برامج الترجمة الفورية الذكية.
ان غالبية الناس يهتمون بالتعليم ، لأنه الطريق الوحيد تقريبا لضمان حياة مستقرة لابنائهم. التقديرات المتوفرة فعلا ، تشير الى ان الثورة الصناعية الرابعة ستلغي 700 نوع من الوظائف ، او تحولها الى الآلات. هذا يعني ان على الآباء ان يفكروا في وظائف لابنائهم ، من نوع مختلف عما اعتادوا عليه.
في ظني ان الموضوع الذي ينبغي ان يشغل القائمين على التعليم هو  "سعة الافق" اي السمة الرئيسية للثورة الصناعية الرابعة. سعة الافق تعني مثلا الاستعداد التام للتكيف ، مع اقتصاد جديد واشخاص جدد وثقافات مختلفة ، وانماط عيش غير مألوفة. ومنها أيضا اعداد الشباب كي "يخلقوا" مصادر عيشهم ، ولا ينتظروا وظيفة في دائرة حكومية او شركة. هذا يعني ان يركز التعليم على تعزيز كفاءات التفكير والابداع عند كافة الشباب ، كي لا تكون الوظيفة بالمعنى التقليدي غاية ما يطمحون اليه.  
تطور التقنية سيلغي مئات الوظائف التي نعرفها. لكنه سيأتي أيضا بفرص جديدة كثيرة جدا. المهم في كل الاحوال هو تجهيز ابنائنا بوسائل احتواء التحدي ، ومن أهمها التفكير العلمي ، حيوية الذهن ، الابداع  ، الاعتماد المطلق على الذات والرغبة في التعلم.
ان الخطوة الاولى في تطوير التعليم ، هو تحريكه بهذا الاتجاه ، اي مساعدة الشبان كي يكونوا مستقلين ، راغبين في التعلم ، ومستعدين للمغامرة.
الشرق الاوسط الأربعاء - 29 ذو الحجة 1441 هـ - 19 أغسطس 2020 مـ رقم العدد [15240]

12/08/2020

التعليم كما لم نعرفه في الماضي


مع اقتراب العام الدراسي الجديد ، يتكرر التاكيد على ان مستقبل البلد ومصيرها ، يتقرر في هذه المباني التي يرتادها ابناؤنا صباح كل يوم.
ولمناسبة استمرار الاحتياطات الخاصة بمواجهة وباء كورونا ، قالت الصحف المحلية ان مسؤولي التعليم يناقشون فكرة التعليم عن بعد ، لتلافي مخاطر اجتماع الطلاب في مكان واحد.
واجد في هذا مناسبة لعرض فكرة تلح على ذهني ، منذ أن ظهرت الى السطح فكرة "الثورة الصناعية الرابعة". سوف أبدأ بسؤال قرائي الاعزاء ، واعلم ان فيهم طلاب وآباء لطلاب وعاملون في قطاع التعليم. سؤالي هو: هل هناك علاقة جوهرية بين التعليم والمباني المدرسية؟.
الواضح انه حين نذكر المدرسة ، فان صورة "مبنى" المدرسة هي اول ما يقفز الى الذهن. فهل نتحدث – حقيقة – عن المدرسة ام عن مبناها. بعبارة اخرى: هل نعتقد في اعماقنا ، ان المبنى اساس العملية التعليمية ، فان لم يجتمع الطلاب فيه ، فان العملية التعليمية ناقصة او حتى منتفية؟
لعل بعض القراء سيقول في نفسه: هذا جدل لاجدوى منه ، فليس في العالم من يفكر في الاستغناء عن المباني. البعض الاخر سيقول ان ترك المبنى يشبه ترك الشركة لمكاتبها واعتمادها العمل من المنزل بشكل كامل. قاريء ثالث ربما يهمس ساخرا: لماذا لا نلغي الشوارع ايضا ، كي تسير السيارات حيثما شاءت؟!.
حسنا. انا اتفهم الاشكالات المحيطة بالموضوع. لكن دعني أطرح خلفية السؤال: من المفهوم ان انشاء المباني المدرسية ، كان على الدوام ضروريا لقيام عملية تعليمية منتظمة وموحدة. لكن هذا المفهوم يرجع الى عصر سابق ، يوم كان العالم جزرا متباعدة جدا. اما عالم اليوم فهو اقرب الى قرية متواصلة. من ناحية اخرى فان حضور المعلم مع الطلبة في غرفة واحدة ضروري ، يوم كان توصيل المادة والفكرة رهن بالنقل المباشر من شخص الى شخص ، وكانت متابعة المعلم للطلبة تقتضي التأكد من مذاكرتهم ، وادائهم للامتحان ورؤية اوراقهم وتصحيحها. وكان انضباط الطالب والتزامه ، يتجلى في سجل الحضور والغياب.
لكن العالم اليوم لم يعد كعالم الامس. ان العملية التعليمية آخذة في التحول بشكل جوهري ، فلم يعد دور المعلم كما كان في الماضي ، ولا الكتاب المدرسي ولا الادوات المساعدة ولا فكرة الانضباط. ومن هنا فاننا بحاجة الى مناقشة موضوع جديد ، دعني اسميه "التعليم الموازي للثورة الصناعية الرابعة" اي التعليم المتوائم مع احتياجات مستقبل العالم.
يهمني جدا التمييز بين هذا المفهوم وبين المفهوم الذي يناقش في الصحف ، اي الذي يركز على التعليم عن بعد ، تلافيا لمخاطر وباء كورونا. ما اقترحه لا يرتبط بموضوع كورونا ، رغم ان هذا الوباء الكريه قد وفر الارضية اللازمة لطرح الفكرة وتنفيذها. انني ادعو للبحث عن منهجية تعليم تعتمد فلسفة جديدة ، مختلفة عما اعتدناه حتى الآن. في إطار هذه المنهجية ، يمكن ان يلعب "المبنى" دورا ، لكن: أ) لا ينبغي ان يكون هو المحور ، بحيث تتعطل الدراسة اذا تعطل المبنى. ب) وان لايكون للمدرسة مبنى واحد قسري. المدرسة هي اي مكان يجتمع فيه الطلاب: ربما في شارع ندرس فيه التخطيط العمراني ، أو مسجد ندرس فيه الثقافة الاسلامية ، او متحف للتاريخ ، او جبل ندرس فيه طبقات الارض او مصنع او معسكر او مستشفى ..الخ.
احسب ان المفهوم قد اتضح الان. ولعلي اعود لتفصيل بعض النقاط في وقت لاحق.
الشرق الاوسط الأربعاء - 22 ذو الحجة 1441 هـ - 12 أغسطس 2020 مـ رقم [15233]  
 https://aawsat.com/node/2443051/

رحلة البحث عن الذات

  قلت في الاسبوع الماضي ان كتاب الاستاذ اياد مدني " حكاية سعودية " ليس سيرة ذاتية بالمعنى الدقيق ، وان بدا هكذا. وسألت نفسي حينئذ...