‏إظهار الرسائل ذات التسميات دمشق. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات دمشق. إظهار كافة الرسائل

16/02/2022

في معنى التعصب


عمر هذه القصة يزيد عن ثلاثين عاما. وقد جرت في فندق بسيط قرب محطة سكة حديد الحجاز بمدينة دمشق. جئت الفندق زائرا شاعر العرب عبد الله البردوني. فوجدت عنده زائرا آخر من أهل العلم والأدب ، لا أذكر اسمه الآن. وقد رأيت على طاولة الغرفة كتابا للشيخ محمد سعيد البوطي ، ويبدو انه التقى البردوني من قبل. فهمت هذا من خلال حديث الرجلين عن آرائه. ومن بين ما بقي في ذاكرتي قول الضيف بان البوطي شديد التعصب ، وضرب مثلا برأيه في حجاب النساء وتقليد الأئمة. وبالغ الرجل في نقد البوطي ، حتى وصفه بالتخلف وقلة العلم. فقاطعه البردوني متسائلا: ما هو التعصب الذي نتحدث عنه .. متى يكون الانسان متعصبا؟.

المرحوم عبد الله البردوني

لقد نسيت بقية الحديث. لكني التقيت البوطي بعد بضع سنين ، فوجهت له نفس هذا السؤال ، فأجابني بان التحول من نقد الرأي الى ذم اصحاب الرأي ، وجه من وجوه التعصب. ثم قارن بين حالتين من البيئة الدمشقية: حالة المتعصب الذي لا يقبل رأيا غير الذي اعتاد عليه. لكنه لا يجادل الناس ولا يلزمهم برأيه. وحالة المتعصب الذي يشن معارك على الآخرين ويحاربهم ، لمجرد الاختلاف في صغريات المسائل. وذكر أمثلة عن نقاشات خاضها مع هؤلاء وأولئك ، وقال انها لم ترجع بفائدة ، بل ربما أججت عداوات لم يكن لها أي داع.

قفزت هذه القصة القديمة الى ذهني ، قبل بضعة أيام ، حين سألني أحد الاصدقاء ذات السؤال: من هو المتعصب ، وما هو نقيض التعصب؟.

 في كل الاوقات هناك من يوصف بأنه متعصب للدين او المذهب. ولابد ان كلا منا قد عرف أو سمع عن شخص متعصب لدينه او مذهبه او قومه ، أو لعله فكر في شخص ما باعتباره نموذجا للتعصب. لا يخلو مجتمع من اشخاص متمسكين بمعتقدات وآراء يرفضون مساءلتها كليا. ولا يخلو من اشخاص يتبنون قضايا ومذاهب يدعون الناس اليها ويهاجمون من يخالفها.

لكن... ما الذي نعنيه حين نطلق صفة التعصب على واحد من الناس.. ما هو معنى التعصب على وجه التحديد؟. هل هو مجرد التمسك بفكرة ، ام الدعوة اليها ، أم محاربة أفكار الآخرين؟.

 لقد نظرت في الشروحات التي كتبها من يصفون غيرهم بالتعصب ، فلم أجد وصفا جامعا مانعا. بل لقد رأيت بينهم من ينتقد هذا ، ثم – في مكان آخر - يمتدح سلوكيات تدل على تعصب. لكنها منسوبة لمن يسمون في القانون "شخصيات محمية" اي يمنع نقدها. من ذلك مثلا ان احد اهل العلم من اصدقائي ، انتقد بشدة جماعة سياسية قتلت بعض اعدائها او نكلت بهم. ثم انتقد بشدة تدوينة لي دعوت فيها لالغاء عقوبة الاعدام ، واحتج بان الله اوجب القتل لتطهير الارض من الفاسدين. ثم امتدح صحابيا جلد احد العصاة ، وقتل آخر من دون حكم قضائي ، وقال انه شجاع ولا تأخذه في الله لومة لائم. وقد لفت نظره الى هذه المفارقات ، فأجابني باسما: لكل مقام مقال.

لا استطيع وضع تعريف جامع للتعصب. لكني وجدت أن جميع السلوكيات التي توصف بالتعصب ، تبدأ من منطلقات متماثلة ، ابرزها عدم التسامح ، وقد سبق ان عرفت التسامح بانه الاقرار بحق كل انسان في اتباع املاءات عقله او ارثه المعرفي. ويظهر لي الآن ان التسامح هو النقيض السلوكي للتعصب.

الشرق الاوسط الأربعاء - 15 رجب 1443 هـ - 16 فبراير 2022 مـ رقم العدد [15786]

https://aawsat.com/node/3477671

04/12/2019

من بوذا الى ابن سينا وكارل ماركس



سمعت باسم روجيه جارودي في دمشق ، صيف العام 1984. كنت أذهب كل أربعاء الى "مقهى الهافانا" ، ملتقى محبي الأدب والثقافة يومذاك. ويقع المقهى على الضلع الغربي لشارع بورسعيد ، على بعد امتار من تمثال يوسف العظمة الذي يتوسط ساحة تحمل اسمه أيضا.
تمثال يوسف العظمة وسط دمشق

اخبرني احد زملاء المقهى عن كتاب "ما يعد به الاسلام" الذي صدر حديثا[1] وقدم فيه جارودي الرؤية التي تبرر اختياره للاسلام ، بعدما بدأ بروتستناتيا ثم مناضلا ومفكرا شيوعيا ، ثم كاثوليكيا. اثار الكتاب فضولا شديدا عندي ، فقد وجدته – خلافا لما اعتدت – يدعو لاسلام مفتوح ، واسع الافق ، يحتمل كل الناس وكل الافكار ، من بوذا الى غاندي وابن سينا والحلاج وحتى كارل ماركس. والحق اني بقيت يوما كاملا ، لا تفارق عيناي الصفحة التي نقل فيها الابيات المنسوبة للعارف الشهير محي الدين بن عربي :

وقـد صـار قلبي قابلا كل صورة         فمرعى لغزلان ودير لرهبان
وبيـت لأوثان وكعبةُ طائـــفٍ            وألواحُ توراةٍ ومصحفُ قرآن
أدين بدين الحب انى توجهت        ركائبه فالحب ديني وايماني

وزاد في جاذبية المقاربة ، انها جاءت وسط جدل محتدم يومذاك ، حول الامكانية العلمية والعملية لتجاوز المذاهب ، الى اسلام متحرر من الانتماءات الاجتماعية والتاريخية. وفي هذا الاطار صدر اكثر من كتاب يدعم أحد الاتجاهين او نقيضه ، واشهرها في ظني كتاب "اللامذهبية اخطر بدعة تهدد الشريعة الاسلامية" للمرحوم محمد سعيد البوطي ، الذي طبع عشر مرات خلال عقد الثمانينات وحده. واريد الاشارة هنا الى ان الصراع العنيف بين النظام السوري والاسلاميين ، لم ينعكس على الاعمال الثقافية ، كما لم تنعكس عليه الخلافات المتكررة مع الشيوعيين ، فكنت ترى الكتاب الاسلامي معروضا في المكتبات الى جانب الماركسي والليبرالي وغيره.

اقول اني قرأت كتاب جارودي على خلفية الجدل الذي شغل الساحة يومئذ ، حول امكانية الفصل بين الدين ، وبين دوائره الاجتماعية واطاره المرتبط بالهوية التاريخية ، أو "بين الجوهري والعرضي في الاديان" حسب تعبير المفكر المعاصر عبد الكريم سروش. في ذلك الحين ، كان الميل العام ينحو لاعتبار الهوية والانتماء الاجتماعي والشكل الخارجي ، لوازم للحقيقة الدينية ، لانها بذاتها اوامر دينية ، او لأنها تدعم هيمنة الدين على الحياة.

أما جارودي فرأى عالما يواجه مشكلات ، لم تفلح في علاجها الاديان والايديولوجيات: "المسيحية والاشتراكية بمختلف انواعها تبقى خميرة للتدافع والفرص ، لكنها لم توقف سعي الغرب الى حتفه". ولذا ظن ان رؤية كونية ، تشمل كل ما أنتجه البشر وما آمنوا به ، قد تكون بداية جدية للتعامل مع المشكلات الكونية من منظور كوني غير أناني. هذا يتطلب وفق رأيه ، نسخة من الاسلام أعمق مما ورثناه عن عصور التخلف والتنازع والانكماش: "اذا كنا نريد للاسلام أن يشارك في ابتكار المستقبل ، فعلينا ان نحول دون اختصاره في المواقف المتصلبة والتوترات والانفلاتات التي تحجب الفكر".

استرجع احيانا آراء هذا الفيلسوف المناضل ، وأتساءل ان كانت علاجا لبعض أدوائنا اليوم. اعلم انها لم تلق القبول المناسب في وقتها ، لكن لعل اليوم غير الامس. ولعله قدر الرؤى العابرة لقيود الحاضر والزاماته الى شرفات المستقبل وما ينطوي فيه من فرص وامكانات.

اعلم ان كتاب "ما يعد به الاسلام" كان موجها للقاريء الأوربي. لكني أجد فيه وفي طروحات جارودي الاخرى ، نداء لنا من زمن غير هذا الزمن.

الشرق الاوسط الأربعاء - 7 شهر ربيع الثاني 1441 هـ - 04 ديسمبر 2019 مـ رقم العدد [14981]



[1] روجيه جارودي: مايعد به الاسلام ، ترجمة قصي أتاسي وميشيل واكيم ، دار الوثبة (دمشق 1983م). وصدرت ترجمة ثانية للكتاب باسم "وعود الاسلام" ترجمة ذوقان قرقوط ، مكتبة مدبولي (القاهرة 1985).




اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...