‏إظهار الرسائل ذات التسميات ازمة الهوية. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات ازمة الهوية. إظهار كافة الرسائل

05/10/2023

أزمة هوية؟


كرس د. محمدالرميحي مقالته المنشورة بهذه الصحيفة ، يوم السبت الماضي ، للتعليق على جدل عنيف ، نتج عن موقفه من دعوة بعض البرلمانيين لالغاء الفصول المختلطة في التعليم الجامعي. اتسم هذا الجدل بعنف لفظي واضح من جانب الذين يدعون الدفاع عن الفضيلة. عنف لا يقف عند تسفيه الرأي المخالف ، بل يتعداه الى شتم صاحب الرأي ، واتهامه بالخيانة والجهل والمروق من الدين ، وما اشبه.

وقد سبق للرميحي وغيره من أهل الرأي ، ان تعرضوا لاتهامات من هذا القبيل. لكن المقال اثار نقطة جوهرية ، تستحق المزيد من المعالجة ، وهي إشارته الى ان هذا الجدل وأمثاله يعبر عن "أزمة هوية" ، تتجلى كلما برزت على سطح الحياة اليومية ، تحديات الانتقال من عصر التقاليد الى عصر الحداثة.


وفقا لتعريف أريك اريكسون ، عالم النفس الأمريكي ، فان ازمة الهوية تعبير عن اخفاق الشباب في الموازنة بين تطلعاتهم الشخصية ومتطلبات الحياة الاجتماعية ، خصوصا في المجتمعات التي تمر بتحولات متسارعة ، ثقافية واقتصادية ، تؤدي بالضرورة لتغيير مواقع الأشخاص ودوائر علاقاتهم ، والأعراف التي تنظم هذه العلاقات.

وقد لاحظت ان أهم تحولات الهوية الفردية في مجتمعنا ، نتج عن انفتاحه على مصادر تأثير ثقافي وانماط حياة جديدة ، تعارض ما ورثناه عن الاسلاف. وأميل للاعتقاد بأن بداية التحول العميق يرجع للعقدين الأخيرين من القرن العشرين ، وساهمت فيها بشكل متوائم برامج تحديث الاقتصاد وتغيير سياسات التعليم ، إضافة للتوسع في الحاق الطلاب بالجامعات الأجنبية. اما ذروة التحول فقد حدثت – وفق تقديري – في السنوات الخمس الماضية ، نتيجة لوصول الانترنت السريع الى كل قرية وبلدة في انحاء المملكة.

وفر الانترنت فرصة للشباب للانفتاح المباشر على عوالم جديدة. ولم يعد للعائلة والمدرسة والنظام الاجتماعي بمجمله ، الا القليل من التأثير على ذهنية الفرد ، اما المساهم الأعظم فقد بات هو الفرد نفسه ، الذي يختار بوعي ومن دون وعي ، من موائد لا أول لها ولا آخر ، موائد بعيدة تماما عن التجربة التاريخية لمجتمعنا.

كل من هذه التغيرات يواجه الذهنية التقليدية بتحد جديد ، يدعمه نمط حياتي اكثر تقدما واكثر يسرا وجاذبية ، الامر الذي يضع الفرد على المحك: إما التخلي عن عالمه القديم او الحرمان من ثمرات الحياة الجديدة.

وفقا لرؤية اريكسون ، فان التحول المشار اليه ، يؤدي لعسر في التفاهم بين جيل الشباب وآبائهم ، ليس لأنهما يرفضان التفاهم ، بل لأن اختلاف المشارب الثقافية يجعل كلا من الآباء والأبناء ينطلق من خلفية مختلفة ، بل عالم مفهومي ومعنوي مباين للآخر. ان حاجة الاب والابن للحفاظ على العلاقة القائمة ، يؤدي بالضرورة الى قدر من التكلف والعناء ، الذي ينعكس على شكل أزمة نفسية ، هي ما نسميه أزمة الهوية.

رؤية اريكسون تنطبق على الشباب. لكني وجدت أزمة الهوية عند شريحة واسعة من الآباء أيضا. وهي تتجلى في صورة رفض داخلي للقديم مع قبوله في الظاهر ، أو رفض داخلي للحديث مع رغبة قوية في التمتع بخيراته. ينتج هذا التنافر ازدواجية في القيم ، تمثل مظهرا آخر لازمة الهوية.

اظن ان مرجع التأزم عند كلا الطرفين: الشباب والآباء ، هو بطء التفاعل بين تراثنا الثقافي ، الديني وغير الديني ، وبين متغيرات العصر الثقافية ، ولا سيما منظومات القيم الجديدة ، وما يترتب عليها من علائق بين الناس وتموضعات اجتماعية مختلفة عما ساد في الماضي.

اعتقد ان شريحة واسعة من ابناء مجتمعنا ، من الآباء خصوصا ، يعانون من عسر شديد في التوفيق بين قناعاتهم القديمة وحياتهم الجديدة. ولو نظرنا للسبب العميق وراء كل هذا ، لرأيناه في حقيقة ان تراثنا الثقافي يريد للفرد ان يكون تابعا مطيعا ، لا مشاركا او صانعا للقيم التي تقود حياته. وهكذا يتوجب عليه البقاء منفعلا ومتأثرا ، ان أراد التمتع بفضائل النظام القديم.

الشرق الاوسط الخميس - 20 ربيع الأول 1445 هـ - 5 أكتوبر 2023 م https://aawsat.com/node/4585886/

مقالات ذات صلة

 اشكالية الهوية والتضاد الداخلي

اعادة بناء القرية .. وسط المدينة

الاقليات والهوية : كيف تتحول عوامل التنوع الى خطوط انقسام في المجتمع الوطني

الاموات الذين يعيشون في بيوتنا

أن نفهم الآخرين كما هم لا كما نتصورهم

بين هويتين

تأملات في حدود الفردانية

تكون الهوية الفردية

جدل الهوية الفردية وتأزماتها

حزب الطائفة وحزب القبيلة

حول أزمة الهوية

حول الانقسام الاجتماعي

الخيار الحرج بين الهوية والتقدم

الدين والهوية ، خيار التواصل والافتراق

سجناء التاريخ

عن الهوية والمجتمع

فيديو : نادر كاظم وتوفيق السيف حول اشكالات الهوية

القبيلة والطائفة كجماعات متخيلة

الهوية المتأزمة

07/09/2022

مسيرة الهويات القاتلة


التفكير في قضايا الهوية الفردية ونظيرتها الجمعية/الوطنية ليس جديدا. وقد وردت تعبيرات عن المسألة ، ومعالجات لبعض اشكالياتها في التراث القديم للعديد من الأمم ، ومنها الإسلام. لكن دراستها بشكل معمق ومتخصص ، ترجع الى النصف الثاني من القرن العشرين فحسب.

اريك اريكسون (1902-1994)
ومع كل حديث عن مسألة الهوية ، يقفز الى ذهني ثلاثة مفكرين ، اشعر انهم رسموا خريطة هذا الحقل.  سوف اتحدث اليوم عن اثنين ، واترك الثالث ، وهو بنديكت اندرسون ، لمقال آخر. أما الأول فهو إريك اريكسون ، الطبيب النفسي الذي اعتقد انه وضع الأساس العلمي لبحوث الهوية الفردية في الاطار السيكولوجي ، وحدد مسارات تشكلها والعوامل المؤثرة فيها. وقد اتخذ من حياته الشخصية ، بين المانيا والدانمرك والولايات المتحدة ، مادة لدراسة تحولات الهوية لدى شخص مختلف عن المحيط (يهودي بين البروتستانت/علماني بين متدينين). درس اريكسون الكيفية التي تتشكل فيها ذهنية الشخص ، ورؤيته للعالم ، من خلال تفاعله مع المحيط: كيف يتأثر بارادات الناس في محيطه وبطريقة تعبيرهم عنها ، وكيف يستجيب لهذه الإرادات ، التي لا يصرح بها أحد ، لكنها واضحة جدا في التعاملات اليومية.

اما الثاني فهو امين معلوف ، الاديب اللبناني الذي هاجر الى فرنسا فرارا من الحرب الأهلية ، فاستعاد في سلامها نفسه التي أرادت مصالحة المختلفين ، من خلال تخيل احوالهم وادراك معنى الحياة في عيونهم وعقولهم. اختار معلوف اسم "الهويات القاتلة" لكتابه المتعلق بمسألة الهوية ، وهو رسالة صغيرة الحجم عظيمة القيمة ، بل استطيع القول انها نادرة في بابها. وأظن ان أبرز العناصر التي أوضحت قدراته التحليلية الباهرة ، هو تفسيره لتحول الهويات العادية ، الى هويات صلبة ، ثم تحولها من مظاهر تنوع واختلاف عادي ، الى متراس لحماية الذات ومصارعة الآخرين. لم تكن الحرب الطائفية ممكنة – وفق تصوير معلوف – لولا نجاح امراء الطوائف في تحويل الفارق الطائفي الى حدود سياسية واجتماعية ، تشدد على خصوصية "الجماعة" وتبالغ في استذكار حقوقها ، والتشديد على اغتصاب هذه الحقوق من قبل الآخرين.

تصليب الهوية هذا يبدأ مساره بإعادة تعرف الفرد على نفسه ، من خلال انتمائه الأكثر عرضة للتهديد. لو كان الانتماء القبلي هو الذي يتعرض للتحدي ، فسوف يجري تصليب الانتماء الى القبيلة ، وتتحول الهوية القبلية الى مزاحم لكافة الهويات الأخرى. ولو كان التحدي متجها للانتماء الديني او المذهبي او القومي او العرقي ، فسوف تنطلق عملية تصليب لهذا الانتماء ، حتى يتحول الى هوية حاكمة.

تولد الهوية القاتلة – وفقا لهذا التصوير – حين يتحول التحدي الى خطر فعلي ، له آثار مادية ملموسة. ففيها يتحول الدفاع عن الهوية الى دفاع عن الوجود. وينطلق سياق جديد يركز على تضخيم الذات ، وتسقيط الطرف الآخر ونفي فضائله ، بحيث تتحول مواجهته بالعنف المادي او اللفظي ، الى عمل مشروع او مقبول أخلاقيا.

الواقع ان معظم الصراعات العنيفة ، يجري تبريرها بهذه الطريقة: تضخيم صورة الخطر الذي يتهدد الجماعة ، واستخدام الرموز الثقافية ، سواء كانت قومية او دينية او حتى أدبية وفولكلورية ، في اقناع افراد الجماعة بأن كلا منهم مستهدف في شخصه وفي عائلته ، وان الدفاع عن الانتماء الجمعي هو دفاع عن الذات الفردية. ولو رجعت الى الادبيات المستعملة في الصراع ، لوجدتها تركز على تضخيم الذات ، وتضخيم الخطر الخارجي ، وتحقير الطرف المقابل وتسويغ العدوان عليه. هذه ببساطة مسيرة الهويات القاتلة.

الشرق الاوسط الأربعاء - 11 صفر 1444 هـ - 07 سبتمبر 2022 مـ رقم العدد [15989]

https://aawsat.com/node/3859316

31/08/2022

جدل الهوية الفردية وتأزماتها

لاحظت في هذه الأيام انبعاثا مستجدا للنقاش حول الهوية. وقد وصلتني أسئلة من أصدقاء ، أثار اهتمامهم ما كتبه الروائي المعروف عبد الله بن بخيت ، حول الفردانية والاستقلال والهوية الفردية ، وقابليتها للتمييز عن الهويات الأخرى ذات البعد الجمعي.

عبد الله بن بخيت
وقد لقي مقال الأستاذ بخيت المنشور بجريدة "عكاظ" يوم الاحد الماضي ، اهتماما استثنائيا بين القراء ، واحسب انه طرق بشدة على وتر حساس ، في نقاشات يريد الخليجيون ، ان يجدوا لها نهاية مريحة. لكن غالبيتهم يواجهون خيارات صعبة ، نظرا لارتباط المسألة بما يعتبر تحولا في مفهوم التدين او حدوده. ليس سرا ان هذا الجانب هو الجزء الأكثر إثارة ، في جدل الهوية في مجتمعات الشرق الأوسط. ان محرك هذا الجدل ، هو ميل قطاع معتبر من الجيل الجديد ، لتعريف انفسهم كأفراد مستقلين ، يختارون شروط تدينهم ومقدار تأثيره على حياتهم اليومية.

هذه الرغبة تبدو بسيطة واعتيادية في أيامنا هذه ، ولا سيما بالنسبة للطبقة الوسطى التي تلقت تعليما حديثا. لكنها مع ذلك تثير قلقا كبيرا ، وربما أثارت نزاعات عائلية واجتماعية. السبب معروف لدى معظم الناس ، وخلاصته ان المنطقة شهدت طيلة العقود الخمسة الماضية ، تشديدا على أولوية الهوية الدينية ، وكونها مزاحمة للهويات الموازية ، الفردية والجمعية. وقد تعمق هذا الاتجاه في السنوات الأخيرة من القرن الماضي ، واستخدمت فيه الموارد العامة ، فتحول الى نوع من القسر الثقافي والاجتماعي ، الذي لا يترك مجالا لأي تعبيرات موازية او بديلة.

وفي هذا السياق ، بات كل مواطن مطالبا بأن يحدد موقفه الثقافي/الديني وموقعه الاجتماعي ، مع التيار الديني القوي النفوذ او ضده. والضد يشمل بطبيعة الحال اتباع الأديان الاخرى ، والمنتمين لتيارات ثقافية او اجتماعية صنفت معادية ، مثل انصار الحداثة في الادب والحركة النسوية ، فضلا عن اتباع المذاهب الإسلامية التي صنفت كمبتدعة.

مسألة حقوق النساء هي المثال الأكثر بروزا في الصراع حول الهوية الفردية. فخلال الفترة المذكورة أعلاه ، جرى تحديد اطار ضيق نسبيا لحياة النساء ، يتضمن اعتبارهن مواطنات من الدرجة الثانية ، وإقناع المجتمع كله بان المشاركة الاقتصادية والاجتماعية للمرأة ، تعني انخراطها في مؤامرة عالمية يتزعمها مركز الأبحاث الأمريكي "راند" ، وهدفها القضاء على دين الله.

فيما يخص التمايز الاجتماعي ، يقول بن بخيت انه عايش كثيرا من زملاء العمل الشيعة ، لكنه نادرا ما تنبه للفارق المذهبي. أما في الفترة المشار اليها أعلاه (والتي يطلق عليها اجمالا اسم الصحوة) فقد بدأ يتحسس ويتعرف على نقاط الفرق ، في الكلام العابر وفي الأسماء والملابس والاهتمامات ، بدأ يشعر انه واياهم لا يشكلون مجتمعا واحدا ، كما تخيل في الماضي. يرجع السبب الى كثافة التوجيه الديني ، الذي يؤكد على الفوارق والحدود ويحذر من التماهي والاندماج.

خلال السنوات الأخيرة ، باتت الدعوة لانهاء تلك الحقبة وما جاء في سياقها ، فكرة ثابتة في أعمال المثقفين والكتاب الخليجيين. كما ان تسارع التحول الى الحداثة في السنوات الأخيرة ، وعودة نحو ربع مليون مبتعث للجامعات الأجنبية ، ساهم في تعميق هذا الاتجاه.

لكنه – كأي تحول اجتماعي – يلقى مقاومة من جانب شريحة مستفيدة من الحال السابق ، وأخرى قلقة من ان يؤدي هذا التحول ، الى الاضرار بالصبغة المحافظة للمجتمع.

يبدو لي ان الانتقال الى الحداثة غدا قدرا لا مفر منه ، وان التحول الاجتماعي يتسع ويتعمق يوما بعد يوم. لكن – كما اسلفت – سيكون ثمة كبوات واثمان ، وهذي من طبائع الأمور.

الشرق الأوسط الأربعاء - 4 صفر 1444 هـ - 31 أغسطس 2022 مـ رقم العدد [15982]

https://aawsat.com/node/3846461

 مقالات ذات علاقة 

الاموات الذين يعيشون في بيوتنا

الخروج من قفص التاريخ

سجناء التاريخ

اشكالية الهوية والتضاد الداخلي

الدين والهوية ، خيار التواصل والافتراق

اشكالية الهوية والتضاد الداخلي

الاقليات والهوية : كيف تتحول عوامل التنوع الى خطوط انقسام في المجتمع الوطني

تأملات في حدود الفردانية

تكون الهوية الفردية

حول الانقسام الاجتماعي

الخيار الحرج بين الهوية والتقدم

عن الهوية والمجتمع

كيف تولد الجماعة

من القطيعة الى العيش المشترك

الهوية المتأزمة

04/08/2021

المساومة والتنازل والانتصار


لا أبالغ لو قلت ان معظم بلدان العالم ، قد واجه سؤال "الاجماع الوطني" ، لاسيما في الثلاثين عاما الاخيرة. ان تحديد هذا التاريخ يرجع لظاهرة "انفجار الهوية" التي شهدها العالم بعد تفكك الاتحاد السوفيتي في 1991. لقد قيل الكثير حول اسباب هذه الظاهرة. لكن لو اغفلنا – مؤقتا – مسار تشكلها ، وركزنا على اجزاء وتفاصيل الظاهرة بذاتها ، فلربما نجد ما يكفي من المبررات التي تخبرنا عن التحولات التالية ، والتي لازال بعضها نشطا في بعض البلدان ، حتى اليوم.

برز عناصر الظاهرة المذكورة هو نهوض الهويات الصغرى او الفرعية ، ومزاحمتها في حالات عديدة للهوية الوطنية الجامعة. نعلم ان هذا التحول قد ادى الى استقلال معظم القوميات ، التي كانت منضوية في اطار "اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية". ثم تمدد في بلدان عديدة ، من آسيا الى اوربا وأفريقيا. ومن بين الأمثلة الحديثة عليها ، التمرد في اقليم التيغراي - اثيوبيا ، وقبله بفترة وجيزة ، التظاهرات المطالبة باحترام حياة السود في الولايات المتحدة الامريكية ، والتي كانت عاملا هاما في هزيمة الرئيس السابق دونالد ترمب.

ونستطيع القول (بكلام مجمل) ان هذه الظاهرة اتخذت مسارا لينا نسبيا في القارة الاوربية ، بينما اتسمت في المجتمعات الافريقية والآسيوية بطابع خشن ، وفي بعض الاحيان شديد العنف. واحتمل ان هذا يرجع لسببين ، اولهما سياسي يتمثل في تلبس الهويات الفرعية ببعضها ، وتحولها من تعارض احادي (عرقي على سبيل المثال) الى ثنائي او متعدد الابعاد ، تتداخل فيه العوامل المعيشية والدينية والطبقية والعرقية وربما غيرها (وهذا ما حصل لشعب الاويغور شمال غرب الصين ، وشعب الروهينغيا في غرب ميانمار).

اما السبب الثاني فهو بنيوي ، يتمثل في عجز اطراف المجتمع الوطني عن التفاوض والمساومة ، التي لاتنجح – كما نعلم – دون استعداد مسبق لتقديم تنازلات. اني اعتبر هذا العجز بنيويا ، لأنه مرتبط بالتراث الثقافي والمنظومة القيمية والاخلاقية ، التي ترجح الصراع حتى لو ادى الى الخسارة الكلية ، على المساومة ، ولو أدت الى المعادلة المعروفة رابح-رابح ، اي المعادلة التي لا تنتهي بالسقوط التام للطرف المقابل.

اعتقد ان الثقافة السائدة في عالمنا العربي (وغالب البلدان الاسلامية التي نعرفها) تنحو هذا المنحى. فهي تعلي من شأن الحرب والصراع العنيف وتدمير العدو ، وتقلل من قيمة التفاوض والمهادنة ، التي تنتهي باقتسام المكاسب مع العدو او تقليل الخسائر المنتظرة.

لدينا تجربة مزدوجة من بلدين افريقيين ، توضح الفرق بين المنهجين ، المساومة والتشدد. ان تجربة جمهورية جنوب افريقيا ملهمة بحق ، في مقابل التجربة المحزنة لجمهورية زمبابوي. في 1980 انتصرت جبهة تحرير زمبابوي بقيادة الرئيس موغابي ، فكان اول قراراته تفكيك قوة البيض الذين احتكروا حكم البلاد قبله ، فانتهى الامر بهذه البلاد الى الجوع والخوف والاضطراب ، وهرب الاف السكان الى دول الجوار بحثا عن لقمة العيش. اما في جنوب افريقيا ، فقد قرر زعيم السود نيلسون مانديلا اقتسام السلطة والثروة مع البيض ، بعدما انتصر عليهم في 1994. ان هذه الدولة هي اقوى الدول الافريقية اليوم ، واكثرها ثراء واحتراما على المستوى الدولي. وتظهر المقارنة بين التجربتين المتجاورتين ان نصف انتصار هؤلاء ، اعظم من الانتصار الكامل لاولئك ، واكثر انسانية ونفعا لكافة الاطراف.

هذه التجارب وامثالها تخبرنا ان الخطوة الأولى لترسيخ الاجماع الوطني هي بناء الثقة ، من خلال التاكيد على قيمة التراضي والتنازل والمساومة ، حتى لو كنت تملك الحق كله ، وحتى لو كنت تملك القوة كلها.

الأربعاء - 25 ذو الحجة 1442 هـ - 04 أغسطس 2021 مـ رقم العدد [15590]

https://aawsat.com/node/3113951

 

مقالات ذات صلة

اشكالية الهوية والتضاد الداخلي

الاقليات والهوية : كيف تتحول عوامل التنوع الى خطوط انقسام في المجتمع الوطني

أمين معلوف... الهويات القاتلة

بين هويتين

تأملات في حدود الفردانية

تكون الهوية الفردية

حزب الطائفة وحزب القبيلة

حول الانقسام الاجتماعي

الخيار الحرج بين الهوية والتقدم

عن الهوية والمجتمع

القبيلة والطائفة كجماعات متخيلة

من باريس الى التغراي .. العالم يواجه ازمة هوية

النقلة الحتمية : يوما ما ستنظر الى نفسك فتراها غير ما عرفت

الهوية المتأزمة

 

25/11/2020

حول أزمة الهوية


هذه تكملة لمقال الاسبوع الماضي ،  الذي تعرضت فيه لما ظننته هوية متأزمة ، يعانيها كثير من المسلمين المعاصرين ، لاسيما هؤلاء الذين استوطنوا في اوربا ، حيث الثقافة والأعراف غير ما عرفوه في بلدانهم ، او ما ظنوه أصدق تمثيلا لمرادات الدين الحنيف.

كتبت تكرارا عن مشكلة الهوية في السنوات الماضية. وظننت انها باتت مفهوما واضحا لغالبية الناس. لكن النقاشات التي أطلعت عليها هذه الأيام ، أوضحت لي ان الغموض المحيط بالفكرة لازال كما  تركته قبل بضع سنين. ليس هذا بالأمر الغريب ، فمفهوم "الهوية" جديد على الثقافة العربية ، ولو راجعت المعاجم القديمة  لما وجدت له عينا ولا أثرا.

انه مثال عن مئات التعابير التي نتداولها ونظنها عربية صميمة. لكنها ليست كذلك ، فهي مستوردة من إطار معرفي مختلف. ولهذا فان حمولتها المفهومية والقيمية متباينة بين شخص وآخر ، تبعا لقبوله بمغازيها.  وكنت قد التفت لهذه المشكلة ، حين وجدت من يدعو الناس لاختيار حرج بين الدين والوطنية والقومية ، ووجدت الناس مضطرين للقول بانهم مسلمون فقط او مسلمون أولا ، خشية ان يكون القول بالهويات الثلاث معا ، خادشا لصفاء الاعتقاد.

هذا الشعور المرتبك يكشف جانبا من مشكلة الهوية التي يعانيها المسلم اليوم. وهي قليلة الخطورة في ظني ، مع انها تثير التباسا غير محمود. انها مشكلة نظرية ،  فردية غالبا. اما الجانب الأصعب من المشكل ، فيتجسد في حالة المسلمين الذين استقروا في البلدان الصناعية. هؤلاء يعيشون أزمة مضاعفة ، دينية وثقافية. 

فالمجتمعات التي استوطنوها لا تقيم للدين اعتبارا خاصا ، كحال مجتمعاتهم الاصلية ، وبالتالي فان العرف والقانون لا يقف في صفهم. وهم يواجهون كل يوم تقريبا سلوكيات مزعجة ، وقد تنطوي على مضمون عدواني (هذا يظهر خصوصا في المظهر الشخصي والعلاقات بين الجنسين). 

ولعل بعض القراء قد تابع الجدالات الواسعة ، التي أعقبت منع النقاب في دول اوربية ، مثل الدانمارك وبلجيكا هولندا. ان عدد الذين يستعملون النقاب قليل جدا ، لكن منعه كان إشارة الى تغيير (قانوني) لعلاقة الآباء المسلمين مع نسائهم. وهو يولد ضغطا شديدا على نفوسهم ، وربما يودي بهم الى مزيد من الانكماش على الذات.

حسنا.. لماذا نذكر هذه الامثلة في سياق الحديث عن "أزمة هوية"؟.

يقودنا هذا السؤال الى جوهر المشكلة. لقد افترض بعض الناس ان الهوية الدينية متمثلة في النموذج الاجتماعي الذي يشمل خصوصا موقع الفرد في نظام العلاقات الاجتماعية ، مظهره الشخصي ، والتزامه بالاعراف السائدة. ويعج التراث العربي بنصوص وشروح حول كل من هذه العناصر ، وثمة تأكيد على علاقتها بالدين او حتى كونها جزء منه ، كحال النقاب الذي ذكرته آنفا.  

حين تكون في مجتمع يطلب هذه المظاهر او يتقبلها ، فلن يكون ثمة مشكلة. لكنها ستبرز حتما حينما تعيش في مجتمع يعارضها او يفضل غيرها ، كحال المجتمعات الاوروبية اليوم. اقول ان هذا يعيد طرح السؤال من جديد: هل الزي (بما فيه الشكل المسمى حجابا شرعيا) وبقية المظاهر ، وكذلك الاعراف الحياتية ، هل هذه جميعا من جوهر الدين ، وان الدين لا يقوم الا به ، ام انها من اعراض الحياة التي اكتسبت لونا  دينيا ، او احتملت لونا دينيا ، مع انها ليست من جوهر الدين؟.

اني اعلم بنوعية الاجوبة التي تقابل سؤالا كهذا. لكن الجواب الانطباعي او العاطفي المألوف ، لا يفيدنا كثيرا. مانحتاجه هو التأمل العميق في الاشكال الحقيقي ، اعني جدل العلاقة بين الاسلام والعصر ، وان تمظهر اليوم في اطار ما نسميه "ازمة الهوية".

الشرق الأوسط الأربعاء - 10 شهر ربيع الثاني 1442 هـ - 25 نوفمبر 2020 مـ رقم العدد [15338]

https://aawsat.com/node/2645236/

مقالات ذات صلة

اشكالية الهوية والتضاد الداخلي

الاقليات والهوية : كيف تتحول عوامل التنوع الى خطوط انقسام في المجتمع الوطني

أمين معلوف... الهويات القاتلة

تأملات في حدود الفردانية

تكون الهوية الفردية

حزب الطائفة وحزب القبيلة

حول الانقسام الاجتماعي

حول المضمون القومي للصحوة الدينية

الخيار الحرج بين الهوية والتقدم

عن الهوية والمجتمع

القبيلة والطائفة كجماعات متخيلة

الهوية المتأزمة

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...