شهدت أول مظاهرة شعبية في حياتي يوم
الاول من مايو 1973 ، وكانت المناسبة هي احتفال العراقيين بعيد العمال العالمي. كان
الميدان غاصا بالناس الذين يهتفون بشعار وحيد "عمال وفلح فدوه لابو
هيثم" ، اي كلنا – عمالا وفلاحين –
فداء لابي هيثم ، وهي كنية اللواء احمد حسن البكر ، رئيس الجمهورية يومئذ.
في الاسبوع التالي طلب منا معلم اللغة
العربية الكتابة عن تلك المناسبة. ولسوء الحظ ، كلفني المعلم مع خمسة زملاء آخرين
بشرح مطالب العمال. فلم يستطع احد منا استذكار اي مطلب غير الشعار السابق. فكتبنا
جميعا ان المطلب الوحيد للعمال هو التضحية بأرواحهم فداء للرئيس.
تذكرت هذه القصة في منتصف العام 1992. كنت
في مقهى على شاطيء طرابلس ، اتبادل الحديث مع استاذ في جامعة الفاتح. خلال اقامتي
القصيرة في ليبيا ، لاحظت نفورا شديدا من اي نقاش سياسي. وحين يتحدث احدهم فلن تميز
مايقوله عما سبق ان قرأته في صحيفة ذلك اليوم او ما سمعته في التلفزيون. من ذلك
مثلا اني شكوت لمسؤول حكومي ، ويسمى عندهم "أمين اللجنة الشعبية" ، انتشار
الاوساخ في وسط العاصمة على نحو يوحي بأن البلدية لاتعمل. فرد علي بمحاضرة مختصرة
حول اللجان الثورية ومؤتمر الشعب الأساسي في فكر القائد ، اي العقيد القذافي.
ذكرت القصة للصديق الجامعي فضحك ، وقال لي
ساخرا ان جوابي يوجد في نظرية "الكلاب الضالة" ، وهو الوصف الرسمي لمن
يعارضون "فكر القائد". ثم اخرج محفظته واراني صورة القائد ، وعلق باسما:
انها "حرز من الموت".
ذهبت هذه القصص وامثالها في تجاويف
الذاكرة سنوات ، حتى قرأت كتابات حنا ارندت عن الحكم الشمولي ، وكيف يؤدي الى
تجويف المجتمع ويفكك روابطه الداخلية ، ويحول اعضاءه الى ذرات هائمة تعيش ليومها ،
وتفقد كل اهتمام بالشأن العام او المستقبل خارج اطار المنفعة الشخصية.
لعلها مصادفة غريبة ان تستعمل ارندت مصطلح
"المجتمع الجماهيري" في وصف الناتج الاجتماعي للانظمة الشمولية. وهو ذات
المسمى الذي اختاره العقيد القذافي لنظريته السياسية في 1977. يتميز المجتمع المدني بالتعددية والاختلاف وتنوع
المصالح والاهتمامات وحرية التعبير عنها والنقاش فيها. اما المجتمع الجماهيري ، تقول
ارندت ، فهو فارغ مفكك ، اعضاؤه ذرات منعزلة ، يفكر كل منهم بمفرده ، وينظر
للاخرين كذئاب تسعى لاستغلاله او كفرصة للاستغلال.
سطوة الاستبداد الشمولي تدمر ثقة الناس ببعضهم ، وتميت الأمل في الاصلاح ، ويميل
الكبار الى تحذير ابنائهم من التعبير الصريح عن ارائهم او السعي للتغيير ، كما
يبالغون في تصوير الخطر المحدق بمن يعارض سياسات الدولة. ينعكس هذا على الجيل
الجديد فيكون مثاله البارز هو الفرد المتوحد والمهمش ، المنكر لكل شيء والغاضب من
كل شيء. الفرد الذي يبحث عن الاستقرار واليقين ، لكنه لا يستطيع رؤية المسارات
الطبيعية ، لا يستطيع تحديد مصالحه ولا يستطيع تنظيمها ، كما لا يستطيع الثقة في
الاخرين كي يعمل معهم على مصلحة مشتركة.
تتميز النظم الشمولية بقوة واستقرار
بالغين. لكنها تزرع – ربما دون قصد – ميكروب التفكك وانعدام الثقة في المجتمع الذي
تحكمه. وحين ينكسر السقف ، نجد انفسنا فجأة في مجتمع يفتقر تماما الى الاجماع على
اي شيء ، ويسعى افراده لضمان مصالحهم ومستقبلهم الشخصي بقوة السلاح لا القانون ،
مجتمع سمته الرئيسية "حرب الجميع على الجميع" ، كما قال توماس هوبز قبل
اربعة قرون.
الشرق الاوسط 14 سبتمبر 2016 http://aawsat.com/node/737491