‏إظهار الرسائل ذات التسميات معنى التسامح. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات معنى التسامح. إظهار كافة الرسائل

17/05/2023

الحق ليس واحدا


||التعددية الدينية تبدو غريبة على اسماعنا ، لأننا تعلمنا منذ نعومة اظفارنا على ان الدين مطابق للتعريف الفقهي||

نشرت هذا الأسبوع تدوينة قديمة حول التسامح الديني. فأثارت نقاشا غير متوقع. وجدت الأسئلة الرئيسية تكرارا لما عرفناه قبل عقد من الزمان ، مع انها تطرح الآن بلغة لينة. وهذا يكشف عن حقيقتين متزاحمتين نوعا ما: فمن ناحية نستطيع القول ان مجتمعنا يتحرك بصورة ملموسة ، نحو تقبل الاختلاف وتداعياته. لكنه – من ناحية ثانية – غير قادر على حسم بعض الإشكالات الرئيسية في هذا الموضوع نفسه ، الأمر الذي يستدعي نقاشا اكثر تركيزا على نقاط التوقف.

أبرز أسباب الجدل في ظني هو مبدأ تعدد الحق. أي ان نكون على أديان أو مذاهب مختلفة أو حتى غير متدينين ، لكننا نعيش جميعا في توافق وسلام. ولهذا سوف اخصص مقال اليوم لتوضيح الفكرة ، وتمهيد ارضيتها لمن أحب المزيد من النقاش.


نفهم تعدد الحق على وجهين:

الوجه الأول: ان الحق في طبعه الاولي ، لا ينحصر في تطبيق واحد ، بل يتجلى في صور عديدة ، يمكن لكل منها ان يكون طريقا الى الله. فالذي آمنت به هو أحد احتمالات الحق او تجلياته. والذي آمن به غيري هو احتمال آخر للحق أو صورة ثانية. وهناك صورة ثالثة ورابعة وخامسة.. الخ. بمعنى ان كل الناس متجه الى الحقيقة المطلقة ، وهي الخالق سبحانه ، عبر الطريق الذي يراه أقرب وأوضح. وكل شخص مسؤول عن خياراته. لن يقف أحدنا نائبا عن غيره يوم الحساب ، ولن يحمل أوزاره. وهذا هو مذهب ابن عربي ، الفيلسوف والمتصوف المعروف.

الوجه الثاني: ان الحق هو الصورة المثلى للحياة الفاضلة ، وليس شيئا منفصلا عن الحياة او مختلفا عنها. وهو يتجلى في كل فعل انساني خير. ان اختلاف الاعمال والمشارب وسبل العيش ومصادر القوة والمعرفة ، هو الحيز الحيوي لتجلي قيمة الحق ، بوصفها المستوى الارفع في كل مجال ، الارفع موضوعيا واخلاقيا. ان الاختلاف الطبيعي بين سبل الحياة – وبالتبع تجليات الحق في كل منها - عامل مؤثر في ارتقاء الانسان والعمران.

في هذا المعنى ، يتطابق مفهوم الحق مع سعي الانسان لاتقان عمله. ونعتبر هذا المسعى جزء من التجربة الدينية الواسعة ، التي نسميها عمران الأرض. الفلاح يسعى الى الكمال من خلال توفير الغذاء للناس ، والطبيب يسعى من خلال حمايتهم من الامراض ، وهكذا البناء الذي يبني البيت ، والصانع الذي يوفر السيارات وأجهزة الاتصال ، والفقيه الذي يعلم الناس الشعائر ، والفنان الذي يحول الفكرة الى مشهد للتأمل من خلال لوحة او مقطوعة موسيقى.. الخ.

جوهر الحق في الوجه الأول علاقة واعية بين الخلق والخالق. مركزها هو الخالق ، والطريق اليه هو نية التقرب. اما في الوجه الثاني فالحق يتجلى في تفاعل البشر مع بعضهم ، تفاعلا بناء واخلاقيا ، يؤدي – موضوعيا – الى تطور حياة الانسان وارتقاء الجوهر الانساني ، اي العقل/العلم والاخلاق. وهذا – في اعتقادي – هو الغرض الجوهري للرسالات السماوية وجهود المصلحين في كل المذاهب والمشارب.

كلا المفهومين يبدو غريبا شيئا ما ، لأننا تعلمنا منذ نعومة اظفارنا على ان الدين مطابق للتعريف الفقهي. وهو تعريف ينطلق - بالضرورة – من التزام بمذهب محدد واطار اجتماعي وعرفي خاص ، لا يتعداه من اراد السلامة. لكنه – رغم غرابته – ليس جديدا. وقد اشار الى جانب منه غالبية المفسرين حين وصلوا الى الآية المباركة "ولو شاء ربك لجعل الناس أمَّة واحدة ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم". وفحواها ان الاختلاف اصل في الخلق وضرورة للحياة. وهكذا اراده الله. فهل ارادنا ان نقتتل مثل حيوانات الغابة ، ام نتسالم – رغم اختلافنا – كما يحكم العقل السليم؟.

الشرق الاوسط الأربعاء - 27 شوّال 1444 هـ - 17 مايو 2023 م    https://aawsat.news/y4mfr  

مقالات ذات صلة

ايزايا برلين ... حياته وفكره

اين ينجح الاسلاميون واين يفشلون

الحق الواحد والحق المتعدد: هل تراه معقولا؟

الخلاص من الطائفية السياسية: إعادة بناء الهوية الوطنية الجامعة

دعوة لمنهج جديد في الاجتهاد واستنباط الاحكام

الديمقراطية في بلد مسلم- الفصل الرابع

كلمة السر: كن مثلي والا..!

من الراي الواحد الى التعددية الدينية

 

 

 

21/12/2022

كل عام وانتم بخير

الغرض من هذه الكتابة هو تذكير القراء الأعزاء ، بأن عيد الميلاد المجيد الذي يصادف الاسبوع القادم ، يوفر فرصة للتأكيد على فضيلة من أعظم الفضائل الإنسانية ، وهي التسامح. في سنوات سابقة ، كان الأسبوع الأخير من العام الميلادي ، أشبه بسوق موسمي تعقده احدى الجماعات السياسية/الدينية للتعبئة وكسب الأنصار ، وتدريب الأعضاء والمحازبين على مقارعة الخصوم. وكانت مادة عملهم في هذا الموسم هي الخطب والكتابات التي تشكك في صحة الميلاد المجيد ، وصحة انتماء المسيحيين المعاصرين الى دعوة نبي الله عيسى. وتختتم بالتأكيد على حرمة تهنئة المسيحي بعيد الميلاد او السنة الجديدة ، والتنديد بالمسلمين الذين أحسنوا الى جيرانهم من أهل الأديان الاخرى او تلطفوا معهم.


الحمد لله ان تلك السوق ما عادت قائمة. ولم يعد ثمة حرج في دعوة القراء الاعزاء لاغتنام الفرصة ، ولو بأدنى ما يستطيعونه ، مثل تقديم التهاني بالمناسبة ، لكل من يفرح في عيد الميلاد او يحتفل به ، سواء كان باعثه دينيا او دنيويا.

اعلم طبعا ان الامر محرج لبعض الناس ، نظرا لما يعرفون من فتاوى لفقهاء معاصرين وقدامى تؤكد على ذلك التحريم. لكني أعلم أيضا انه لم يرد نص صريح في الكتاب او السنة الشريفة ، يدعم ذلك التحريم على نحو ينفي الاختلاف والجدل فيه.

أستطيع القول – مع شيء من التحفظ – ان غالبية المنادين بالتحريم ، يرجعون لاجتهاد فقهي يصنف الفعل المذكور ضمن التشبه بغير المسلم ، او ابداء الرضى بالباطل ، او المساعدة على اشاعته ، وما الى ذلك. وهذه الاستدلالات كلها تكلف بلا ضرورة ، فهي لا تنطبق على فعل التهنئة ، وقياسها لا يستند الى تسلسل منطقي سليم ، ولا تدعمها تجربة واقعية قديمة او معاصرة. بل الامر على عكس ما قيل. فقد ثبت بالتجربة الواقعية المتكررة في بلاد المسلمين وغيرها ، ان الاحتفال بعيد الميلاد او التهنئة به لم يخلف اي ضرر ملموس ، بل لعله لا يخلو من منفعة. وعلى أي حال فان مفاهيم مثل نصرة الباطل او التشبه بالكافر ، لا تنطبق على أي فعل الا اذا عرف تعريفا جامعا مانعا ، اذا ان التحريم حكم عظيم لا يصح التساهل في إصداره او تطبيقه الا على اضيق نطاق ، لا يترك عذرا لمن تجاوزه.

ويظهر لي ان الميل الفقهي للتشدد في العلاقة مع غير المسلمين ، ليس ناتجا عن دراسة محايدة للنصوص المتعلقة بالموضوع ، ولا بموازنات المصالح التي ينبغي للفقيه ان ينظر فيها قبل اصداره للفتوى ، بل هو تعبير عما أسماه بعض المعاصرين "فقه المحنة" الذي يربط صفاء العقيدة والسلوك باعتزال المخالفين والمختلفين.

هذه اذن فرصة للتاكيد على فضيلة التسامح ، وتطبيقها فعليا. وقد أوضحت فيما سبق ان التسامح لا يعني اللين في المعاملة ، كما يتكرر على السنة الناس ، بل الإقرار بان لكل انسان ، منا وممن يخالفنا ، حقا أصيلا وغير قابل للمزاحمة ، في اختيار الدين الذي يرى فيه نجاته ، وطريقة العيش التي تضمن سعادته. لقد اخترنا ديننا واختاروا دينهم. وليس لاحد منا او منهم أن ينكر حق الآخر في اختيار طريقه للخلاص او السعادة. لا يجوز لك ان تزاحمهم ، كما لا يجوز لهم ان يزاحموك في خياراتك. هذا ببساطة معنى التسامح.

آمل ان نبادر جميعا لتهنئة شركائنا في هذا الكوكب بعيد الميلاد المجيد ، تأكيدا على احترامنا لحقوقهم وخياراتهم ، على أمل ان نكون ممن ينال فضل المبادرة بالقاء السلام. ان اردت نشر الاحترام في عالمك ، فكن صانعه الأول.

 الأربعاء - 27 جمادى الأولى 1444 هـ - 21 ديسمبر 2022 مـ رقم العدد [16094]

https://aawsat.com/home/article/4054571/

مقالات ذات علاقة

ابعد من تماثيل بوذا

ان تكون مساويا لغيرك

بل التقارب قائم ومتواصل بين السنة والشيعة

تجريم الكراهية

التسامح وفتح المجال العام كعلاج للتطرف

التعايش أو التقارب.. طريق واحد

تعزيز التسامح من خلال التربية المدرسية

ثقافة الكراهية

حقوق الانسان في المدرسة

سؤال التسامح الساذج

سؤال الى البابا

العالم ليس فسطاطين

فرصة لتطبيق ما ندعو اليه: فوائد التسامح

فلان المتشدد

في التسامح الحر والتسامح المشروط

في ان الخلاف هو الاصل وان الوحدة استثناء

في انتظار عيد الميلاد المجيد

في بغض الكافر

كن طائفيا او كن ما شئت .. لكن لا تضحي بوطنك

وجهات "الخطر" وقهر العامة

16/02/2022

في معنى التعصب


عمر هذه القصة يزيد عن ثلاثين عاما. وقد جرت في فندق بسيط قرب محطة سكة حديد الحجاز بمدينة دمشق. جئت الفندق زائرا شاعر العرب عبد الله البردوني. فوجدت عنده زائرا آخر من أهل العلم والأدب ، لا أذكر اسمه الآن. وقد رأيت على طاولة الغرفة كتابا للشيخ محمد سعيد البوطي ، ويبدو انه التقى البردوني من قبل. فهمت هذا من خلال حديث الرجلين عن آرائه. ومن بين ما بقي في ذاكرتي قول الضيف بان البوطي شديد التعصب ، وضرب مثلا برأيه في حجاب النساء وتقليد الأئمة. وبالغ الرجل في نقد البوطي ، حتى وصفه بالتخلف وقلة العلم. فقاطعه البردوني متسائلا: ما هو التعصب الذي نتحدث عنه .. متى يكون الانسان متعصبا؟.

المرحوم عبد الله البردوني

لقد نسيت بقية الحديث. لكني التقيت البوطي بعد بضع سنين ، فوجهت له نفس هذا السؤال ، فأجابني بان التحول من نقد الرأي الى ذم اصحاب الرأي ، وجه من وجوه التعصب. ثم قارن بين حالتين من البيئة الدمشقية: حالة المتعصب الذي لا يقبل رأيا غير الذي اعتاد عليه. لكنه لا يجادل الناس ولا يلزمهم برأيه. وحالة المتعصب الذي يشن معارك على الآخرين ويحاربهم ، لمجرد الاختلاف في صغريات المسائل. وذكر أمثلة عن نقاشات خاضها مع هؤلاء وأولئك ، وقال انها لم ترجع بفائدة ، بل ربما أججت عداوات لم يكن لها أي داع.

قفزت هذه القصة القديمة الى ذهني ، قبل بضعة أيام ، حين سألني أحد الاصدقاء ذات السؤال: من هو المتعصب ، وما هو نقيض التعصب؟.

 في كل الاوقات هناك من يوصف بأنه متعصب للدين او المذهب. ولابد ان كلا منا قد عرف أو سمع عن شخص متعصب لدينه او مذهبه او قومه ، أو لعله فكر في شخص ما باعتباره نموذجا للتعصب. لا يخلو مجتمع من اشخاص متمسكين بمعتقدات وآراء يرفضون مساءلتها كليا. ولا يخلو من اشخاص يتبنون قضايا ومذاهب يدعون الناس اليها ويهاجمون من يخالفها.

لكن... ما الذي نعنيه حين نطلق صفة التعصب على واحد من الناس.. ما هو معنى التعصب على وجه التحديد؟. هل هو مجرد التمسك بفكرة ، ام الدعوة اليها ، أم محاربة أفكار الآخرين؟.

 لقد نظرت في الشروحات التي كتبها من يصفون غيرهم بالتعصب ، فلم أجد وصفا جامعا مانعا. بل لقد رأيت بينهم من ينتقد هذا ، ثم – في مكان آخر - يمتدح سلوكيات تدل على تعصب. لكنها منسوبة لمن يسمون في القانون "شخصيات محمية" اي يمنع نقدها. من ذلك مثلا ان احد اهل العلم من اصدقائي ، انتقد بشدة جماعة سياسية قتلت بعض اعدائها او نكلت بهم. ثم انتقد بشدة تدوينة لي دعوت فيها لالغاء عقوبة الاعدام ، واحتج بان الله اوجب القتل لتطهير الارض من الفاسدين. ثم امتدح صحابيا جلد احد العصاة ، وقتل آخر من دون حكم قضائي ، وقال انه شجاع ولا تأخذه في الله لومة لائم. وقد لفت نظره الى هذه المفارقات ، فأجابني باسما: لكل مقام مقال.

لا استطيع وضع تعريف جامع للتعصب. لكني وجدت أن جميع السلوكيات التي توصف بالتعصب ، تبدأ من منطلقات متماثلة ، ابرزها عدم التسامح ، وقد سبق ان عرفت التسامح بانه الاقرار بحق كل انسان في اتباع املاءات عقله او ارثه المعرفي. ويظهر لي الآن ان التسامح هو النقيض السلوكي للتعصب.

الشرق الاوسط الأربعاء - 15 رجب 1443 هـ - 16 فبراير 2022 مـ رقم العدد [15786]

https://aawsat.com/node/3477671

16/12/2020

في انتظار عيد الميلاد المجيد


الاسبوع الاخير من العام الميلادي هو الاسبوع العالمي للسعادة والسرور. المسيحيون يحتفلون بذكرى ميلاد السيد المسيح ، وغيرهم ‏يحتفل بالعام الجديد.  وبقية الناس يتفرجون على هذا الحراك البهيج ، مسرورين بهذا المهرجان الكوني.‏

أنا واحد من اقلية صغيرة على مستوى  العالم ، اختارت هذه المناسبة على وجه الخصوص ، كي تشغل نفسها بتكرار الجدل القديم الذي عنوانه‏: هل يجوز تهنئة النصارى بيوم الميلاد وسائر الايام التي يتخذونها مناسبات للسعادة العامة؟

اني واثق تماما انكم ستسمعون من يذكركم بهذه المسألة العتيقة في الأسبوع القادم. هذه عادة ابتدعناها ثم استأنسنا بتكرارها في نهاية كل عام. وقد زاد التأكيد عليها خلال نصف ‏القرن الأخير ، حتى بات الواحد منا يظن ان أسلافنا ماكان يشغلهم شيء في مثل هذه الأيام ، سوى التاكيد مجددا على الحدود الفاصلة ‏بينهم وبين جيرانهم المسيحيين.‏

أما الداعي لهذا الحديث ، فهو رغبتي في دعوة القراء الاعزاء للتخلي عن هذه العادة التي رسختها نزاعات السياسة ،  حتى غدت دينا او شبه دين.

والصحيح ان العلاقة بين بني آدم ليست مسألة دينية على الاطلاق. بل هي مسألة اخلاقية بسيطة ، يدرك كل العقلاء موقعها من سلم القيم وحكمها الأخلاقي. كلنا نفهم بالفطرة ان الله خلق البشر كي يتعارفوا ويتعايشوا بالمعروف. وحين يكون جارك مختلفا عنك ، فالاولى ان تداريه وتحسن اليه ، مهما كان دينه او عرقه او لونه. واذا كان عدوا  لك ، فسوف تتباعد عنه كي تتلافى الصدام معه. هكذا يأمر العقل وهكذا يتصرف العقلاء.

ومع وضوح المسالة وكونها من البديهيات ، فليس ثمة حاجة لحكم شرعي. بل لو حكم الشارع فيها على نحو المنع  او الالزام ، لكان تكلفا وقولا زائدا في غير ضرورة. ولو جاء بخلاف حكم العقل ، لانكر العقلاء صدوره عن خالق العباد ، الذي جعل العقل حجة عليهم.

كنت قد أثرت هذه المسألة في وقت سابق ، فسألني قاريء عزيز: اذا كان الامر بهذا الوضوح ، فلم اجتمع الكثير من قومنا عليه؟.

وقد اخبرته يومها ان القائلين بذلك الرأي الغريب أقلية على مستوى العالم. ثم ان التشارك العاطفي جزء من فطرة الله التي فطر الناس عليها. لهذا ترى ان الانسان ينفعل بشكل عفوي ، حين يرى الفرح او الحزن على وجوه الآخرين ، حتى لو لم يعرفهم. بل ان اظهار الشماتة او الفرح في أحزان الآخرين ، ومثله اظهار الحزن في افراحهم ، يعتبره كافة العقلاء علامة للضعة وسوء الخلق ، لأنه نقيض الفطرة والطبيعة الخيرة.

والذي اميل اليه ان ذلك الميل لاستنكار المشاركة في افراح الاخرين واتراحهم ، الدينية منها والدنيوية ، جزء من توجه أوسع محوره الانكفاء على الذات خوف التأثر بالغالب.

زبدة القول ان تهنئة المسيحيين بعيد الميلاد ، وتهنئة بقية الناس براس السنة الميلادية ، ليست مسألة شرعية ، ولايتعلق بها حكم شرعي ، حتى القول بانها حلال. ولذا فهي ليست مما يطلب فيه رأي الفقيه. ولو سئل وأجاب فجوابه ليس فتوى ، بل حديث في موضوع عام ، لايحتمل الالزام ولا التحريم.

اني أرى في مشاركة الاخرين افراحهم سببا لتعميم السلام والسعادة في الكون. ولذا ادعو كافة القراء الأعزاء لتهنئة معارفهم من غير المسلمين ، في اعيادهم ومناسباتهم ، والتخلي عن تلك العادة التي لايقبلها العقل ولا تنسجم ودواعي الفطرة السليمة.

الشرق الاوسط الأربعاء - 2 جمادى الأولى 1442 هـ - 16 ديسمبر 2020 مـ رقم العدد [15359]

https://aawsat.com/node/2685156

مقالات ذات علاقة

ابعد من تماثيل بوذا

ان تكون مساويا لغير: معنى التسامح

بل التقارب قائم ومتواصل بين السنة والشيعة

تجريم الكراهية

التسامح وفتح المجال العام كعلاج للتطرف

التعايش أو التقارب.. طريق واحد

تعزيز التسامح من خلال التربية المدرسية

ثقافة الكراهية

 حقوق الانسان في المدرسة

سؤال التسامح الساذ: معنى التسامح

فرصة لتطبيق ما ندعو اليه

فلان المتشدد

في التسامح الحر والتسامح المشروط

في ان الخلاف هو الاصل وان الوحدة استثناء

في بغض الكافر

كن طائفيا او كن ما شئت .. لكن لا تضحي بوطنك

وجهات "الخطر" وقهر العامة

 

03/04/2019

هكذا خرج العقل من حياتنا


ادهشني ان بعض الناشطين في التيار الديني ، لم يرض بالاطراء الذي نالته جاسيندرا ارديرن رئيسة الحكومة النيوزيلندية ، نظير موقفها التضامني مع مواطنيها المسلمين ، اثر فاجعة مسجد النور منتصف مارس الماضي. وقال بعض الناقدين ان موقف رئيسة الحكومة سياسي في المقام الاول. وقال آخرون ان عينها على الانتخابات ، او انه تعبير عن موقف ايديولوجي للتيار اليساري الذي تنتمي اليه ، في مقابل اليمين المتطرف الذي ينتمي اليه القاتل. وسمعت قولا طريفا لأحدهم فحواه انه كان الأولى دعوتها الى الدين الحنيف بدل امتداحها ، فلعل الله يشرح صدرها للاسلام. وأطرف منه من كتب ان السيدة الجليلة لاتستحق المدح ، لأنها "كافرة سافرة ، قبلت ولاية لاتسوغ لجنسها".
 
ورايي ان تلك الاقوال باطلة جملة وتفصيلا. في ذاتها وفي ارضيتها الفلسفية. لكن موضع اهتماهي ليس هنا. بل لأنها ذكرتني بجدل قديم اشتهر باسم "مسألة الحسن والقبح العقليين". وقد اثيرت في الاطار الاسلامي خلال القرن الثامن الميلادي ، مع انها ترجع الى ازمان ابعد بكثير. وكانت تدور حول قابلية العقل لادراك الحقيقة وتمييزها عن الوهم. 
ركز الجدل الاسلامي على سؤال: هل في الافعال معنى وقيمة ذاتية ، يمكن للعقل اكتشافها وتحديدها ، ام ان تحديد معنى الفعل وقيمته ، متروك للشارع ، ان شاء اعتبره حسنا وان شاء اعتبره قبيحا. كانت الغلبة يومذاك للراي القائل بعجز  العقل عن تحديد الوجه الشرعي للحسن والقبح. ومعنى هذا انه يمكن لعقلك اكتشاف ان العدل حسن وان الظلم قبيح ، لكنه لايستطيع القول بان هذا القبح او ذلك الحسن له قيمة ، او يمكن ان يكون اساسا لامر شرعي. هذه الفكرة هي اساس نفي العقل واستبعاده ، ليس عن دائرة التشريع فحسب ، بل عن حياة المسلمين ككل.
ان السبب الذي يدعوني للتذكير بهذا الجدل اليوم ، هو اعتقادي بأن عدم ثقة المسلمين بالعقل وقدرته ودوره ، هو الذي قاد الى الانفصال المشهود بين الدين والحياة ، بين الدين والاخلاق ، بين الدين والقانون ، وهو الذي جعل المسلمين مضطرين للعيش حياة مزدوجة: عقلانية تماما في محيط العمل ، حيث يستعملون منتجات العقلاء واجهزتهم وانظمتهم ، وخرافية كليا او جزئيا حين يعودون الى حياتهم العادية ، او يعملون في اطار تقاليدهم الثقافية وارثهم القيمي.
منذ ان اصبح العقل هامشيا في حياتنا ، فقد بات ممكنا ان يأتينا شخص ليقول: أن عقولكم لاتستطيع اكتشاف الحقائق ، أو لاتستطيع تحديد معناها وقيمتها. وحتى لو  كنتم اذكياء بما يكفي لفهم حقيقة الاشياء ، فان ذكاءكم واجتهادكم لاقيمة له عند الشارع. الشارع هو الذي يحدد قيمة الافعال ، اما انتم فدوركم مقصور على السمع والطاعة دون تفكير او مناقشة.
اني اعجب ، لان فينا من لازال يقول بان دين الله لايدرك بالعقول ، فاذا جادلته ، اعاد عليك الحجة التي عمرها مئات السنين ، والقائلة بانه لو كان الدين بالعقل فما الاساس العقلي للمسح على ظاهر القدم دون باطنه ، وما الاساس العقلي لجعل هذه الصلاة ركعتين وتلك ثلاث ركعات ، وامثال ذلك من الحجج الباردة.
إني آمل ان يشاركني القراء الاعزاء في اظهار الاسف لتعطيل العقل باسم الدين. مع علمنا جميعا بانه لولا العقل لما كان ثمة حياة ولا دين ولاتكليف ولا ثواب ولاعقاب ولا جنة ولا نار. ولعلنا نعود الى الموضوع في قادم الايام.

الأربعاء - 27 رجب 1440 هـ - 03 أبريل 2019 مـ رقم العدد [14736]
https://aawsat.com/node/1662191
  مقالات ذات صلة

الاستدلال العقلي كاساس للفتوى

تأملات في حدود الديني والعرفي

جدل الدين والتراث ، بعد آخر

حول الفصل بين الدين والعلم

حول تطوير الفهم الديني للعالم

دور الفقيه ، وجدلية العلم والحكم

الـدين والمعـرفة الدينـية

شرع العقلاء

عقل الاولين وعقل الاخرين

عن الدين والخرافة والخوف من مجادلة المسلمات

كي لايكون النص ضدا للعقل

كيف تتقلص دائرة الشرعيات؟

ماذا يختفي وراء جدل العلاقة بين العلم والدين

مثال على طبيعة التداخل بين الدين والعلم

نسبية المعرفة الدينية

نقاشات "عصر التحولات"

هكذا خرج العقل من حياتنا

هيمنة الاتجاه الاخباري على الفقه


اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...