‏إظهار الرسائل ذات التسميات نقد التراث. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات نقد التراث. إظهار كافة الرسائل

12/09/2024

لماذا يرفضون دور العقل؟

 

ليس هناك – على حد علمي – من ينكر دور العقل بصورة مطلقة. لو فعل أحد ذلك فلربما عده العقلاء مجنونا أو ساذجا. لكننا نعرف أناسا كثيرين ينكرون دخالة العقل في نطاقات معينة ، دينية او أخلاقية او سلوكية. وحجتهم في ذلك ان العقل ليس ميزانا وافيا في هذه المسائل ، او انه ليس المصدر الوحيد للمعرفة او القيمة. وقد لاحظت مثلا ان الذين يتحدثون في أمور الشريعة الاسلامية ، يشددون على عقلانية الاسلام وتمجيده لما ينتج العقل من علوم ، بل واستحالة التعارض بين ما يسمونه العقل الصريح والنقل الصحيح. لكن هؤلاء انفسهم ، يتناسون هذه المقولة حين يصلون للنقاط الحرجة ، مثل التعارض بين المقولات العلمية الثابتة بالتجربة وبين ظاهر النص. وقد أوضحت في كتابات سابقة ، ان التعارض ثابت في الواقع ، وان النفي النظري لا يغير شيئا فيه. لكن دعنا نحاول فهم العوامل التي تقف وراء الارتياب في دور العقل او حتى رفضه.

سوف اركز على عامل واحد ، هو اختلاط الشريعة بالتاريخ الثقافي لاتباعها. وأحسب ان هذه المسألة واضحة عند معظم القراء. وهي تظهر بصورة مركزة في قناعة شاعت بين الاسلاف وانتقلت الينا مع تراثهم ، وفحواها ان الشريعة قد أسست عقلانيتها الخاصة ، بحيث لا يصح تطبيق احكام العقل العادي على مسائلها. ومعنى العقلانية الخاصة ان الشريعة انشأت ما يمكن وصفه بالعقل المسلم ، المتمايز عن العقل العام غير المقيد بالدين او الجغرافيا.

ترتب على هذه الرؤية نتائج عديدة ، من ابرزها انشاء علم الدين ، كمنهج مدرسي قائم بنفسه ، مستقل عن قواعد ومناهج العلوم الأخرى ، بحيث لم يعد ممكنا تطبيق قواعد الفلسفة او الطب او اللغة او التاريخ ومناهجها ، على المسائل التي صنفت كمسائل دينية. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد ، بل تعداه الى ترجيح علم الدين ، من حيث القيمة ومن حيث الاعتبار العلمي على كافة العلوم الأخرى. ومن ذلك مثلا ان عددا من العلماء (القدامى خصوصا) صرحوا ان علم الدين "اشرف العلوم" اذا قورن بغيره ، حسب تعبير زين الدين العاملي.

اما على مستوى الاعتبار ، فقد سلموا بان الرأي الفقهي له مكانة تتجاوز ، بل وتلغي ايضا الآراء المستمدة من علوم أخرى. ومنها مثلا تحريم الفقهاء لتشريح جسد الميت ، حتى لتعليم الطب او كشف الجريمة المحتملة ، وتحريمهم لنقل الاعضاء وزرعها ، ولو كان ضروريا لانقاذ الأرواح. وكذا موقفهم - المتصلب نسبيا – من التجارات والعقود الجديدة ، ومن قضايا الحقوق الفردية كالمساواة بين الجنسين والمساواة بين المسلم والكافر في الحقوق والواجبات ، بل حتى مساواة الحضري مع البدوي والعربي مع الاعجمي ، والكثير من أمثال هذه المسائل ، التي يجمع بينها عامل مشترك واحد ، هو انها حديثة الظهور ولم تكن معروفة في زمن النص ، او انها كانت عنوانا لمضمون مختلف في ذلك الزمان ، ولم يستطع الفقهاء تحرير الفكرة من قيود التجربة التاريخية ، رغم قولهم بقاعدة ان "العبرة بعموم اللفظ لا خصوص السبب" وأن ارتباط الحكم بموضوع في وقته لايعني انه خاص بهذا الموضوع.

غرضي من هذه المجادلة ليس الدعوة الى الغاء علم الدين ، فهي دعوة لا طائل تحتها. غرضي هو عقلنة هذا العلم ، اي التعامل معه كمنتج بشري مثل سائر العلوم ، وإعادة ربطه بتيار العلم الانساني ، لا سيما العلوم المؤثرة في مسائل علم الدين ، كعلم الاقتصاد والاجتماع والفلسفة والمنطق والتاريخ واللسانيات والقانون وغيرها. المهم في هذا الجانب ليس اسم العلم ، بل الأرضية الفكرية التي تقوم عليها هذه الفكرة ، اعني بها تحرير علم الدين من قيود التاريخ والقداسات المصطنعة ، والاستفادة من المساهمات الباهرة لمختلف علماء العالم من مختلف التخصصات ، بالقدر الذي يساعدنا في تقديم رؤية للعالم ، تنطلق من روح القرآن وتستلهم – في الوقت ذاته – روح العصر وحاجات أهله.

الشرق الاوسط الخميس - 09 ربيع الأول 1446 هـ - 12 سبتمبر 2024 م    https://aawsat.com/node/5060106/

مقالات ذات صلة

اسطورة العقل الصريح والنقل الصحيح

اناني وناقص .. لكنه خلق الله

تبجيل العلم مجرد دعوى

التعصب كمنتج اجتماعي

العقل المؤقت

مغامرات العقل وتحرر الانسان - كلمة في تكريم الاستاذ ابراهيم البليهي

من العقل الجمعي الى الجهل الجمعي

 

 

19/10/2023

الناس شركاء في صياغة الحياة الدينية


ذكرت في مقال سابق انني مؤمن بان كل جيل من أجيال المسلمين ، له الحق في صياغة النموذج الذي يراه مناسبا للايمان والتدين في عصره. وان هذه القناعة تعني امكانية ان يكون لكل عصر نموذج في الحياة الدينية ، مختلف عن العصور السابقة.

وكنت قد طرحت هذه الفكرة قبل سنوات على أستاذ لي ، فأجابني بالقاعدة المعروفة في الفلسفة اليونانية "لكل سؤال صحيح ، جواب واحد صحيح ، ولا يمكن ان يكون اكثر من واحد". وتطبيق هذه الفكرة ان الشريعة مجموع اجوبة الدين على أسئلة الحياة ، لكل مسألة حكم واحد هو ما قاله الله او الرسول.

أظن ان معظم من يسمع هذا الكلام ، سيأخذه كأمر بديهي. لأنه يبدو معقولا ومطابقا لما تعلمناه منذ الصغر.

رغم ذلك ، فهو لا يمنع تساؤلات جدية ، أولها: من قال انه بديهي. واذا كانت الشريعة كاملة ناجزة منذ حياة النبي ، فلماذا اجتهد القضاة والائمة والفقهاء على امتداد القرون التالية حتى يومنا ، فابدعوا آلاف الاحكام والتفاسير التي لم يعرفها زمان النبي؟.

قد يظن القاريء العزيز ان دور الفقيه مقتصر على تطبيق الآيات والأحاديث على القضايا الجديدة. وهذا غير صحيح. لأن السؤال الجديد وليد ظرف جديد ، فيحتاج لاجتهاد في تحديد الموضوع ، واجتهاد في تحديد النص الذي يناسبه. وكلا الاجتهادين عمل بشري يعتمد قواعد العلم والمنطق. ونعلم ان عمل العقل محكوم بخلفية صاحبه ، الثقافية والاجتماعية ، فضلا عن المستوى العام للمعرفة في زمنه. واحيل القاريء الى ما نقله الدكتور حيدر اللواتي عن عدد من كبار المفسرين والمحدثين المسلمين ، الذين انكروا كروية الارض ، اعتمادا على آيات او أحاديث توحي بانها مسطحة (الرؤية 16 اكتوبر). فهؤلاء الأعلام افترضوا انه لا يمكن مخالفة النص ، حتى لو قام الدليل على مخالفة الواقع لمفاده. لا نتوقع طبعا ان يأتي مفسر او فقيه معاصر بمثل هذا ، لأن الزمن تغير. ان الافق التاريخي للناس (ومنهم صاحب الفكرة) يحدد طريقة فهم الموضوع وطريقة البحث عن جوابه. وبالتالي فان رأي الفقيه او المفسر الذي نظنه مطابقا لمفاد النص ، هو في الحقيقة فهمه الخاص او الفهم السائد في زمنه. ولهذا يتغير مع تغير الزمان وموضوعات الحياة واساليبها ، فضلا عن تطور المعرفة واتساع ادراك الانسان لحقائق الطبيعة. اي ان الجواب الذي ظن انه الوحيد الصحيح ، ليس سوى الاحتمال الراجح في زمنه والمتناسب مع مستوى معارفه. وحين يتغير الزمان وتتسع المعرفة ، فسوف يكتشف الناس احتمالات بديلة.

ان استقلال العلوم عن بعضها ، واتجاهها للتخصص الدقيق هو اهم التحولات التي حصلت في القرنين الاخيرين. وبسببه ما عاد الفقيه قادرا على الاحاطة بعلم الطب او الهندسة او الفلك او الرياضيات ، كما كان الحال في الماضي. بل حتى العلوم اللصيقة بدراسة الشريعة ، تحولت الى تخصصات متوسعة ودقيقة ، لا يمكن للفقيه ان يتفوق على المختصين فيها. ومن ذلك علوم النحو واللغة والادب والمنطق والفلسفة والتاريخ ، وكذلك العلوم الخاصة بالاثبات وفهم النزاعات ، ومثلها العقود والتعويضات. وهي مما يحتاجه القضاة.

ان اعتماد العلوم المختلفة في تشخيص موضوعات الحكم الشرعي ، وارتقاء فهم الفقيه نتيجة اطلاعه على العلوم الجديدة التي تطورت بعيدا عن مدارس العلم الشرعي ، هي ما نسميه مشاركة عامة الناس ، مسلمين وغير مسلمين ، في فهم موضوعات الشريعة ، ثم في صياغة احكام الشريعة.

ما ندعو اليه اذن هو اقرار المشتغلين بالفقه ، بأنهم يعتمدون في كثير من عملهم على العلماء في الحقول الاخرى. فاذا كان لعمل الفقيه قيمة ، فان جانبا منها يرجع الى أولئك. هذا ببساطة ما نسميه مشاركة اجيال المسلمين في صوغ حياتهم الدينية وتجربتهم الدينية. انه واقع قائم ، لكنه يحتاج الى اقرار وتنظيم.

الشرق الاوسط الخميس - 04 ربيع الثاني 1445 هـ - 19 أكتوبر 2023 م

https://aawsat.com/node/4614221


مقالات ذات علاقة

تأملات في حدود الديني والعرفي

تجديد الخطاب الديني: رؤية مختلفة

ثوب فقهي لمعركة سياسية

حول الحاجة الى فقه سياسي جديد

حول تطوير الفهم الديني للعالم

دعوة التجديد بغيضة.... ولكن

دعوة لمقاربة فقهية جديدة

دور الفقيه ، وجدلية العلم والحكم

الـدين والمعـرفة الدينـية

رأي الفقيه ليس حكم الله

العلم في قبضة الايديولوجيا: نقد فكرة التاصيل

عن الحاجة إلى تجديد الفقه الإسلامي

عن الدين والخرافة والخوف من مجادلة المسلمات

فتاوى متغيرة : جدل المعاصرة في التيار الديني

فتوى الجمهور لا فتوى الفقيه

فقه جــديد لعصر جـديد

الفكــرة وزمن الفكـرة

في رثاء د. طه جابر العلواني

كيف تتقلص دائرة الشرعيات؟

نسبية المعرفة الدينية

نظرة على علم اصول الفقه

نفوسنا المنقسمة بين عصرين

نقد التجربة الدينية

هيمنة الاتجاه الاخباري على الفقه

هيمنة النهج الفقهي على التفكير الديني

24/08/2023

العلم والدين عالمان مختلفان

الغرض من هذه الكتابة هو إيضاح الحاجة للفصل بين الدين والعلم ، في الوظيفة والقيمة ومناهج البحث ، لا سيما أدوات النقد.

لا نريد مجادلة القائلين بان العلم جزء من الدين ، أو ان الدين قائم على العلم. فهذي تنتهي غالبا الى مساجلات لفظية قليلة القيمة ، تشبه مثلا إصرار بعضهم على ان قوله تعالى "وعلم آدم الاسماء كلها" دليل على ان العلم والدين كلاهما يرجعان لمصدر واحد ، لهذا فهما متصلان. هذا النوع من الجدل لا ثمر فيه ولا جدوى وراءه.

-         ربما يقول قائل: فلنفترض – جدلا – اننا قبلنا بهذا التمهيد ، فما هي جدوى هذه النقاشات التي أكل عليها الدهر وشرب؟.

مكانة الانسان الفرد ودوره في صناعة عالمه هو قلب اشكالية الدين/العلم

جوابا على هذا أقول ان غرض النقاش هو التشديد على استبعاد المؤثرات العاطفية عند النظر في هذه المسألة وأمثالها. وهي مؤثرات محركها – فيما اظن – ارتياب في الافكار الجديدة ، سيما اذا لامست قضايا مستقرة لأمد طويل. واقع الحال يخبرنا أن الإصرار على ربط العلم بالدين ، ادى الى إقصاء المنطق العلمي الضروري لمواجهة المشكلات. فكأن العقل الكسول يقول لنفسه: مادمنا نستطيع تحويل المشكلة على الغيب ، والخروج بحل مريح ، فلماذا نجهد انفسنا بحثا عن حلول غير مضمونة؟. ولعل بعضنا يتذكر الواعظ الذي هاجم الداعين لاغلاق الجوامع والمشاهد التي يزدحم فيها الناس ايام وباء كورونا. وقال ما معناه ان العلاج الحاسم للوباء يكمن في التوسل الى الله والاستشفاع بأوليائه كي ينعم على المرضى بالشفاء. وهذا غير ممكن الا بترك أماكن العبادة مفتوحة للمصلين والداعين ، أما المرض فهو موجود في أماكن الاثم وليس في اماكن العبادة ، المرض لايأتي الى محل التشافي منه!.

ومن ذلك ايضا التوافق القائم منذ قرون ، على ان "علم الدين" لا ينبغي ان يتجاوز الحدود التي رسمها العلماء الماضون. لهذا اقتصرت بحوث المعاصرين على شرح اقوال السابقين ، او تحقيقها او التعديل عليها قليلا. ونادرا ما تصل لنقضها او اقتراح بدائل تعارضها جوهريا. بمعنى آخر فان "علم الدين" المعاصر ليس أكثر من تأكيد على أخيه القديم.

ونظرا لشيوع هذا المفهوم وتلبسه صبغة الدين ، فقد تمدد في غالبية نظم التعليم والبحث العلمي العربية. لهذا ترى العلم القديم حاضرا بقوة في معظم الابحاث ، لا كموضوع للنقد والمجادلة ، بل كأساس يقف عليه الباحث او دليل يرجع اليه ، مع ان القاعدة العقلائية تفترض ان العلم الجديد اكمل من سابقه.

العلم والدين عالمان مختلفان في الوظيفة. فالعلم غرضه نقض السائد والموروث ، واستبداله بما هو أحسن ، ولذا فان معظمه يركز على مساءلة الأدلة والتطبيقات ، والعمل على نقضها والبحث عن بدائلها. اما الدين فوظيفته معاكسة. يوفر الدين اليقين ، اي الرؤية الكونية التي تجيب على اسئلة الانسان الوجودية ، فتولد الاطمئنان الى المصير. كما توفر الشريعة الارضية الفلسفية للقانون ، والمضمون المناسب لقواعد العمل الفردي والجمعي في المجتمع الانساني. ونعلم ان تواصل الانسان مع الكون الذي يعيش فيه ليس من نوع الآراء التي يمكن تغييرها بين حين وآخر. كذلك فان الاستمرارية جزء من طبيعة القانون ، حتى لو قلنا بامكانية تغييره وتحديثه.

نظرا لاختلاف الوظيفة ، فان منهج البحث في الدين مختلف عن نظيره في العلم. وهنا لا بد من التذكير بضرورة التمييز بين الدين والمعرفة الدينية ، حيث يراعى في الدين مصدره الالهي ، بينما المعرفة الدينية بشرية وغير معصومة ، فهي تخضع لنفس قواعد وادوات النقد المتعارفة في العلوم العادية.

الشرق الاوسط الخميس - 08 صفَر 1445 هـ - 24 أغسطس 2023 م

https://aawsat.com/node/4504281

مقالات ذات صلة

أحدث من سقراط
 أن تزداد إيماناً وتزداد تخلفاً
تأملات في حدود الديني والعرفي   
تبجيل العلم مجرد دعوى

تشكيل الوعي.. بين الجامع والجامعة.. دعوة مستحيلة 
حول الفصل بين الدين والعلم

الـدين والمعـرفة الدينـية
الرزية العظمى
الشيعة والسنة والفلسفة وتزويق الكلام: رد على د. قاسم
العلم في قبضة الايديولوجيا: نقد فكرة التاصيل
في الاعجاز والاختبار والعذاب الالهي
كي لايكون النص ضدا للعقل
لولا الخلاف في الدين لضاع العلم والدين
ماذا يختفي وراء جدل العلاقة بين العلم والدين
مثال على طبيعة التداخل بين الدين والعلم
مرة اخرى : جدل الدين والحداثة
نفوسنا المنقسمة بين عصرين
 حول تطوير الفهم الديني للعالم

 

16/08/2023

تبجيل العلم مجرد دعوى

زميل عزيز كتب لي عاتبا على الحاحي غير المبرر – كما قال - على دور العقل في التشريع ، ومساواته بالنص ، فكأنه لم تبق في العالم قضية غير هذه ، وكأن أحوالنا كلها صلحت واستقامت ، فلم يبق سوى اصلاح دين الله.

والحق اني لم اجد جوابا مناسبا على عتاب الصديق. لكني تساءلت عن الداعي للعتاب ، مع ان جدل العقل والنقل دائر منذ قرون. ولم اعرف الجواب في أول الأمر. ثم تذكرت لاحقا ان زميلي لا يتحدث عن "دور العقل" على النحو المتعارف في مجامع العلم الشرعي ، بل يركز خصوصا على ما زعمته من تنافر بين العلم والدين. ويهمني التذكير بأن هذا هو قلب اشكالية العقل والنقل ، في رايي.

علاقة الدين بالعلم ، تبدو عند عامة الناس محسومة. لكنها في واقع الامر محكومة بفرضيات متوهمة. وسأعرض هنا لواحدة منها ، وهي الفرضية القائلة بانه لا خلاف مطلقا بين العلم والدين ، والدليل عليه الآيات والروايات التي تبجل العلم وأهله ، فضلا عن تبجيلنا للعلماء الذين عرفهم تاريخ الاسلام القديم.

ولهذه الفرضية نصيب من الحقيقة ، على المستوى النظري البحت. لكنها تستعمل دائما في الموقع المضاد للنظرية. وهذا سبب وصفها بالوهم ، لأننا نتحدث في مستوى الفعل الواقعي اليومي للناس ، وليس في مستوى المجردات.

يعلم القراء الاعزاء بأن المجتمع الديني يطلق وصف "العالم" على دارس العلوم الشرعية فقط. فالطبيب والمهندس والفيلسوف والفيزيائي واللغوي وأمثالهم ، لا يعتبرون – في العرف الديني – علماء.

-         لكن .. ما الداعي لهذه الاشارة؟.

هذه الاشارة مهمة ، لأن مدارس العلم الشرعي تعتبر العلم حجة على صاحبه. فلو علمت باتجاه القبلة مثلا ، وجب عليك الاتجاه اليها في الصلاة ، حتى لو خالفك جميع الناس. حجية العلم من القواعد المشهورة في أصول الفقه. لكن – وهنا يأتي دور العرف المذكور سابقا – جرى التعارف على ان تلك الحجية محصورة في العلوم التي يألفها طلاب الشريعة ، وهي عدد قليل جدا ، أبرزها علوم اللغة ، فقول اللغوي عندهم حجة في فهم النص. ويميل الاكثر الى قبول رأي بقية العلماء في تشخيص موضوعات الحكم ، وليس أدلة الحكم. ومنه مثلا قبول راي الطبيب في تحديد قدرة المريض على الصوم او عدمها. لكنهم لا يقبلون رأيه أو رأي غيره من حملة العلوم الحديثة ، في الامور التي تحدث فيها قدامى علماء الشريعة ، مثل عدد سنوات الحمل ، وتحديد سن البلوغ والرشد ، وتعيين اوقات الصلاة واثبات الهلال ، والشهادة في القضاء. كما لا يقبلون رأيه إذا تعلق بأدلة الاحكام (وليس موضوع الحكم). ومن هنا فهم لا يقبلون رأي عالم اللسانيات او الفيلسوف في تفسير النص او تأويله. ولا يقبلون رأي عالم الاقتصاد في تحديد المفيد والضار من المعاملات المالية والمصرفية. كما انهم يرفضون – من حيث المبدأ – اي بحث يعتمد معايير ومناهج العلم الحديث ، في موضوعات مثل المساواة بين الذكور والاناث ، في الحقوق والواجبات ، وامثالها.

هذه الامثلة ، وهي قليل من كثير ، توضح المسألة التي بدأت بها ، وهي ان نقاشنا في دور العقل في أمور الدين ، لا يتعلق بالموازنة بين العقل والنقل ، كما يفهمه غالب الناس ، بل بالتناقض الحاصل بسبب ادعاء بعضهم امتلاك العلم وتبجيل اهله ، بينما يرفضون اي علم غير العلم الذي ألفوه واعتادت عليه نفوسهم. والحق ان العلم دليل على الواقع ، وصفا أو تفسيرا ، فينبغي ان يكون – بذاته - حجة مقبولة في اي امر شرعي ، كي يبقى الدين متصلا بالواقع. ولو قبلنا بهذه القاعدة ، فسوف ينفتح الباب لتطورات عظيمة في الفكر الديني وفي القانون.

الشرق الأوسط الأربعاء - 30 مُحرَّم 1445 هـ - 16 أغسطس 2023 م

https://aawsat.com/node/4489901

مقالات ذات صلة

أحدث من سقراط
 أن تزداد إيماناً وتزداد تخلفاً
تأملات في حدود الديني والعرفي
تشكيل الوعي.. بين الجامع والجامعة.. دعوة مستحيلة 
حول الفصل بين الدين والعلم
الـدين والمعـرفة الدينـية
الرزية العظمى
الشيعة والسنة والفلسفة وتزويق الكلام: رد على د. قاسم
العلم في قبضة الايديولوجيا: نقد فكرة التاصيل
في الاعجاز والاختبار والعذاب الالهي
كي لايكون النص ضدا للعقل
لولا الخلاف في الدين لضاع العلم والدين
ماذا يختفي وراء جدل العلاقة بين العلم والدين
مثال على طبيعة التداخل بين الدين والعلم
مرة اخرى : جدل الدين والحداثة
نفوسنا المنقسمة بين عصرين
 حول تطوير الفهم الديني للعالم

11/01/2023

نقاشات بلا فائدة


لا أرى فرصة للنقاش المفيد بين المدافعين عن النسخة التقليدية من الدين وبين دعاة التنوير/الحداثة. ينتمي كل من الفريقين الى نظام معرفي وقيمي ، مختلف تماما عن الآخر. يتمثل دعاة التنوير روح العصر وفلسفته ، وينفتحون على مصادر المعرفة فيه ، بل ربما وضعها بعضهم في مرتبة مساوية لمرتبة الوحي ، لأن العقل عندهم مصدر مستقل للقيم والتشريع. يعتقد هؤلاء ان المهمة الكبرى للاسلام المعاصر ، هي تقديم نموذج ايماني قادر على استيعاب حاجات الزمان وتحدياته ، نموذج قابل للحوار والتفاهم مع التيارات الروحية والايديولوجيات السائدة في عالم اليوم.

خلافا لهذا فان الفريق التقليدي يرفض كليا فكرة المساواة بين العقل والقرآن في التشريع وإنتاج القيم ، ويعطي المكانة الثانية للسنة النبوية. مكان العقل – عندهم - هو خدمة الكتاب والسنة ، ليس موازيا لهما ولا مستقلا عنهما. أما المهمة الكبرى للمجتمع الإسلامي المعاصر ، فهي حماية أبنائه من تأثير الحضارة الغربية الغالبة. هذا المنظور الدفاعي انعكس على شريحة واسعة جدا من النتاج الفكري والفقهي لهذا الفريق ، فبات ميالا بشدة الى التبرير والدفاع ، بدل النقد الذاتي الضروري للتطور.

هذه المنطلقات تعني ان كلا من الفريقين يفكر بطريقة مختلفة ، ويتحدث بلغة لا يمكن للفريق الآخر ان يتقبلها ، لأنها تعارض ما يعتبره بديهيا من بديهيات منهجه. الحقيقة ان الطرفين لا يديران نقاشا معمقا في المباديء الرئيسية والارضية الفلسفية التي يقف عليها كل منهما ، نقاش ربما أثمر عن تعديل في رؤيتهما العامة. تبدأ النقاشات دائما في التفاصيل والفروع ، وقد تصل الى المباديء العامة ، لكنها في الغالب تواصل الدوران حول الفروع.

تجري الأمور عادة على النحو التالي: يطرح التنويريون/الحداثيون فكرة صادمة للعرف السائد ، مثل تشكيك المرحوم د. محمد شحرور في مشروعية تعدد الزوجات وتفسيره الجديد لآيات الإرث. وكلا الفكرتين تعارض حديا الموروث الديني ، بما فيه أحاديث تنسب للنبي ، واجتهادات كبار الفقهاء ، من قدامى ومحدثين.

ردا على هذا ، يقدم المدافعون عن الموروث الديني مرافعات تعيد التذكير بأصول فكرتهم ، وتنفي سلامة الاجتهادات المذكورة ، كما تشكك في أهلية صاحب الفكرة للاستدلال والتوصل الى احكام أو حقائق شرعية.

لا تناقش هذه الردود أدلة التنويريين ، بل تستعين بنفس الأدلة التي سبق استعمالها في دعم الرؤية الموروثة. لكن التنويريين يعرفون هذه الرؤية وقد رفضوها سلفا. وهكذا نجد أنفسنا امام الحالة التي تسمى أحيانا حوار الطرشان: كلا الطرفين يطرح أدلة يرفضها الثاني من حيث المبدأ ، فلا يناقشها. فكان الطرفين يتحدثان في عالمين مختلفين ، لا احد منهما يسمع قول الآخر.

الواقع اننا نتحدث فعلا عن عالمين فكريين متمايزين ، لكل منهما ارضيته ومبرراته الفلسفية ومنطلقاته وفرضياته وأدوات نقده ، وهو مختلف تماما عن العالم الآخر. ولهذا لا توجد قاعدة معيارية واحدة او ميزان علمي مشترك ، يمكن الاعتماد عليه في الموازنة بين الرأيين أو أدلتهما. هذه يشبه المقارنة بين قصيدة عربية وأخرى انجليزية... هل تراه ممكنا؟. بالطبع لا ، لأن القصيدتين تنتميان الى عالمين مختلفين في الصور والتعبيرات والسياق ، بحيث لا نستطيع القول ان هذه افضل من تلك او اجمل او اصح.

-         هل ينبغي ان نأسف لاستحالة اطلاق حوار  يؤدي الى توحيد التيارين ، او تقليل الخلافات بينهما؟.

في رأيي ان الأمر لا يستدعي الأسف. من المفيد ان ننظر للجانب الحسن في الجدالات الساخنة. ان محاولة كل من الطرفين فرض رأيه ، سوف تدفع الطرف الآخر الى تقوية استدلالاته وتعميق الأفكار المطروحة للنقاش. لو سكت الجميع حفظا لوحدة الموقف ، فسوف لن يستفيد أحد. المناقشة هي التي تولد رؤى جديدة ، تعلم الناس وتوسع آفاق المعرفة.

الأربعاء - 18 جمادى الآخرة 1444 هـ - 11 يناير 2023 مـ رقم العدد [16115]

https://aawsat.com/home/article/4091671/

مقالات ذات علاقة

 

 الاستدلال العقلي كاساس للفتوى

تأملات في حدود الديني والعرفي

تجديد الخطاب الديني: رؤية مختلفة

جدالات ما بعد شحرور

جدل الدين والتراث ، بعد آخر

الحداثة تجديد الحياة

الحداثة كحاجة دينية

 الحداثة كحاجة دينية (النص الكامل للكتاب)

حول الفصل بين الدين والعلم

حول المسافة بين الدين والمؤمنين

حول تطوير الفهم الديني للعالم

دور الراي العام في التشريع

سؤال الى البابا

في ذكرى محمد شحرور- اسئلة اليوم غير اسئلة الامس

في معنى "الدروشة" وتطبيقاتها

كيف نتقدم.. سؤال المليون

ما الذي يجعل محمد شحرور مختلفا وبغيضا أيضا

ماذا يختفي وراء جدل العلاقة بين العلم والدين

مرة اخرى : جدل الدين والحداثة

المعنوية ، حيث تلتقي جميع الرسالات

المكنسة وما بعدها

من المناكفة الى النهضة

نفوسنا المنقسمة بين عصرين

النقد الأخلاقي للتراث: مجادلة أولى

هكذا تحدث محمد شحرور

هيروهيتو ام عصا موسى؟

الوحدة الاوربية "آية" من آيات الله

 


09/11/2022

دور الراي العام في التشريع


تحدثت في الاسبوع الماضي عن اشكال يحيط بمفهوم الجماعة ، فحواه أنها مبجلة – نوعا ما – في الشرع والقانون ، لكنها في الوقت نفسه موضع جدل ، منشؤه الفكرة السائدة حول سلوك الحشود/القطيع.

أردت من ذلك الحديث تمهيد الطريق لطرح الفكرة التي خلاصتها ، ان عرف الجماعة وتوافقاتها وتشخيصها للمصالح ، يمكن ان يشكل مصدرا مناسبا للقانون والاحكام الشرعية.

لو طرحت هذه الفكرة في مجتمع أوروبي ، فلن تثير جدلا ، فهي بديهية في ثقافتهم الحديثة. أما في المجتمعات المسلمة فالامر بالعكس.

ولعل معظمنا قد سمع يوما ، من يستنكر اعتماد الراي العام كأساس للتشريع او تفويض السلطة (عبر الانتخابات مثلا). مفهوم ان الناس لا يقولون هذا صراحة ، سيما في النقاشات العامة ، بل يضعونه في قالب المقارنة بين رأي العالم ورأي الجاهل ، فيقولون مثلا: الانتخابات طريقة سيئة ، لأنها تساوي بين راي العالم الكبير والعامل البسيط. فهل يصح ان نعطي لكلا الرأيين نفس الوزن ، ونغفل فارق المعرفة بينهما؟.

ورأيت في هذه الأيام تعبيرا آخر عن الفكرة ، حين تبرم بعض الناس بالنقد الموجه لعلماء الدين او الإنتاج العلمي للهيئات الشرعية. يقولون مثلا: ان طالب العلم يثني ركبتيه عشرات السنين عند شيوخه ، قبل ان يفتي في مسألة ، ثم يأتي شخص "قرأ كتابين" ، فيدعي الاهلية للرد على تلك الفتوى. فهل هذا سائغ او معقول؟.

يسهل على الناس تقبل هذا القول ، بل واعتباره محاكيا للحقيقة ، لأنه ينطلق من مفهوم مستقر في الثقافة العامة ، فحواه تقديم اهل العلم على غيرهم ، ثم تقديم حملة العلم الديني ، في مختلف مستوياتهم ، على كل أحد ، حتى العلماء في المجالات الأخرى.

احتمل ان القاريء العزيز قد توصل الآن الى حقيقة ان النقاش حول الراي العام والعرف والجماعة ، يشوبه خلط كثير ، أدى في أحيان كثيرة ، الى انحراف النقاش نحو نقاط لا علاقة لها بالموضوع أصلا. ان تفكيك هذا الاختلاط يستدعي التأمل في كل من عناصر الموضوع بمفرده ، ثم البحث عن الرابط الصحيح بينها.

المسالة الأولى التي يجب الانتباه اليها ، هي اطار النقاش: اذا كنا في المجال العلمي البحت ، فان راي الأكثرية وراي الفرد الواحد سواء. والمقدم هو ما يبنى على دليل مقنع. اما في حل الاختلافات العملية ، او في تعيين ممثلي الجماعة ، او تفويض السلطة ، فان رأي الأكثرية هو المقدم.

بعبارة أخرى ، فان جميع الآراء محترمة على مستوى العلم ، بما فيها الآراء في الدين. مع ان العقلاء سيأخذون بالرأي المستند الى دليل متين ، حتى لو كان صاحبه ممن "قرأ كتابين" كما يقال احيانا. لهذا فقوة الدليل هي المعيار. ويبقى لكل فرد حق تام في اختيار ما يراه ، طالما لم يفرضه على غيره.

الاخذ برأي الأكثرية في القضايا العامة ضروري ، لان الناس يختلفون في تشخيص المصالح ، فلا بد من طريقة للتوصل الى حل يتجاوز الاختلاف. لكن ثمة – إضافة الى هذا - مبرر آخر ، وهو اجتماع العقول. فالمؤكد ان دعوة الناس للتعبير عن آرائهم والمشاركة في القرار ، سوف توفر لنا رؤية واسعة ، تستند الى مئات العقول ، من تخصصات ومشارب مختلفة ، وهذا يسمح بالتعمق في فهم خلفيات القرار ونتائجه المحتملة قبل إصداره. وقد ورد في الأثر "اعقل الناس من جمع عقول الناس الى عقله".

عقلانية الاخذ بالراي العام ثابتة في الأمور العامة ككل ، ومن بينها – في رايي - الاحكام الشرعية التي تفرض بواسطة هيئات الدولة على عموم الناس.

الأربعاء - 15 شهر ربيع الثاني 1444 هـ - 09 نوفمبر 2022 مـ رقم العدد [16052]

https://aawsat.com/node/3976421/

 

مقالات ذات صلة

جبر العامة

الحركة الاسلامية ، الجمهور والسياسة

مكانة "العامة" في التفكير الديني

طريق الحزب الى السلطة

الديمقراطية في بلد مسلم- الفصل الرابع

حول جاهزية المجتمع للمشاركة السياسية

الديمقراطية في بلد مسلم- الفصل الثاني

اقامة الشريعة بالاختيار

 

09/02/2022

النقد الأخلاقي للتراث: مجادلة أولى

 

ذكرت في مقال الاسبوع الماضي ان الأفعال قد تكون حسنة في زمن وقبيحة في زمن آخر. وضربت مثلا بفتوحات المسلمين القديمة. وقلت ان الفكرة نفسها قابلة للتطبيق على الروايات التي تحكي حياة تلك الحقبة ، بما فيها روايات عن النبي والصحابة.

ولم تجد هذي الفكرة هوى عند بعض القراء الأعزاء. فجادلوا بأن الحسن أو القبح لا يمكن ان يختلف. فهل يمكن وصف الظلم يوما بأنه حسن ، أو وصف العدل بأنه قبيح.. وهل يختلف حسن العدل وقبح الظلم بين الحاضر والماضي؟.

رسم تخيلي عن سوق الرقيق القديمة

جوابي على هذا ان للفعل حالتان: حالة ذهنية تصورية مجردة ، وحالة فعلية تطبيقية. فالعدل النظري المجرد لا خلاف فيه ، بل في تطبيقه على حدث بعينه. دعنا نأخذ مثالا بالعبودية التي تداولها اسلافنا كفعل عادي لا كظلم قبيح ، مع انها تعد الآن من اقبح التصرفات. فلو سألت شخصا ، من أي دين او بلد ، عن رأيه في استعباد الناس ، فهل سيجيبك بأنه فعل حسن وعادل ، وانه يتقبل ان يكون عبدا لشخص آخر ، وأن تكون زوجته أمة لذلك الشخص؟. اعلم ان احدا لن يرضى بهذا.

لكن تجارة العبيد واقتناءهم كانت متاحة ومباحة في الماضي ، في بلاد المسلمين وغيرها. وكانت قوافل السبايا جزءا ثابتا في غنائم الحروب. ويندر ان تجد بين السلف رجلا ذا مال ، وليس عنده عبيد وإماء ، بمن فيهم الخلفاء والائمة والعلماء ، فضلا عن سائر الناس. ولذا حوت اغلب كتب الفقه القديمة بابا خاصا بأحكام الرقيق ، احكام بيعهم وشرائهم واقتنائهم ، والاحكام الخاصة بهم والتي تختلف عن الاحكام الخاصة بالأحرار ، نظير حجاب الاناث وزواجهن ، ونظير دية القتيل وإرث الميت.. الخ.

فهل سنشجب فعل أسلافنا وصناع تراثنا ، أم نتهمهم بالجهل او ضعف المشاعر الإنسانية؟. واذا قررنا ان فعلهم خاطيء وذميم ، فهل سنقبل اجتهاداتهم ومروياتهم ، أي مساهمتهم في التراث وعلوم الشريعة التي نعتمدها حتى اليوم؟.

اعلم ان بعض القراء سيقول مثلا ان التشريعات الخاصة بالعبودية صيغت على نحو يقلصها حتى ينهيها. ويقال هذا عادة في سياق التبرير  لفعل الاسلاف. لكن الذي حدث في الواقع هو  ان الرق في بلاد المسلمين تلاشى نتيجة لتطور مفاهيم حقوق الانسان ، لاسيما عقيب الحرب العالمية الأولى. واذكر  "اتفاقية تحريم الرق" التي تبنتها "عصبة الأمم" سنة 1926. ومن ثمارها انك لا ترى رجلا او امرأة يباعون في السوق ، كما كان الحال قبل ذلك التاريخ.

لم تعد العبودية اذن فعلا عادلا او مقبولا عند الناس والقانون. وتبعا لهذا فلو صرح فقيه او زعيم سياسي بأنه يريد احياءها ، لان الشرع (كان) يقبلها في الماضي ، لهاج المسلمون وماجوا منكرين ، ولأفتى فقهاء آخرون ضد هذه الدعوة التي ، فوق قبحها ، مسيئة للمسلمين ودينهم.

لا نحتاج في الحقيقة الى ادانة فعل الاسلاف ، ولا القول بان الرق امر طيب. الرق كان منذ البدء فعلا قبيحا ، بل هو ناقض لحرية الاختيار الضرورية لتوحيد الخالق سبحانه. لكن هذا القول بذاته ، أي اعتبارنا ان الرق قبيح ، هو فكرة جديدة ، تبناها البشر بعدما تطورت معارفهم وشعورهم بذاتهم الفردية. وهذا كله ثمرة لهيمنة العلم على مجالات الحياة.

وقد تأثرنا بهذا الاتجاه بعد اندماجنا في اقتصاد العالم وثقافته. ولو كنا منعزلين مثل كوريا الشمالية ، فلربما تقبلنا ممارسات شبيهة بالرق. اندماجنا في اقتصاد العالم لا يغير معيشتنا فقط ، بل أيضا يطور فهمنا لذاتنا وتكويننا الثقافي وهويتنا الفردية. هذا التطوير ينعكس على شكل إعادة تقييم للافعال والاشياء ، وإعادة صياغة لمنظومات القيم والمعايير ، التي نستعملها في التعامل مع الأفكار والعناصر المادية ، في محيطنا الطبيعي والاجتماعي.

 الأربعاء - 8 رجب 1443 هـ - 09 فبراير 2022 مـ رقم العدد  [15779] https://aawsat.com/node/3463796       /

مقالات ذات صلة

 الاستدلال العقلي كاساس للفتوى

تأملات في حدود الديني والعرفي

جدل الدين والتراث ، بعد آخر

حول الفصل بين الدين والعلم

حول المسافة بين الدين والمؤمنين

حول تطوير الفهم الديني للعالم

في معنى "الدروشة" وتطبيقاتها

كيف نتقدم.. سؤال المليون

المكنسة وما بعدها

هيروهيتو ام عصا موسى؟

حول النقد الأخلاقي للتراث ‏

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...