في كل نقاش حول علاقة الدين بالعقل/العلم ، ستواجه أشخاصا يكتبون عبارة مثل "العقل الصريح لا يعارض النقل الصحيح" ثم يمضون غير عابئين ، وكان المسألة قد حلت وانتهت. أصحاب هذه العبارة لا يستهدفون التأكيد على قيمة العقل. هذه مناورة بسيطة تؤدي - موضوعيا - الى تأكيد أولوية النص ، وكونه معيارا حاكما على عمل العقل. ولهذا أيضا فان أكثر من يستعملها في النقاش ، هم الاخباريون ، الذين ينكرون – من حيث المبدأ – أي دور للعقل في التشريع.
واقع الأمر ان النص قد يخالف العقل/العلم في مواضع عديدة: مخالفة
في الحقيقة ، بمعنى ان جوهر مراد النص معارض للثابت علميا او منطقيا ، او مخالفة
في الواقع ، بمعنى انتماء كل من مضمون النص والعلم ، الى أفق تاريخي او نسق ثقافي
مختلف.
وقد ضربت مثالا في مقال سابق
، بالرواية القائلة بان الأرض مستقرة فوق بحر ، تحمله صخرة على قرن ثور. ونعرف ان
هذا يتناقض مع ثابت علمي ، بلغ الآن مرتبة الحقيقة. اما الاختلاف بحسب الواقع ،
فنراه في تحديد قيمة الأفعال ، مثل استعباد البشر الذي كان في زمن النص فعلا
عادلا/ حقا ، فبات اليوم فعلا ظالما/ باطلا ، في عرف اهل الشريعة وعند كافة عقلاء
العالم. ان التعارض الواقعي – مثل التعارض الحقيقي – يستدعي تهميش احد الطرفين
واستبعاده ، والا تحولت عقولنا الى صندوق المتناقضات.
والذي أراه ان القول بعدم التعارض بين العقل/العلم وبين النص ، مجرد
تسويغ للرؤية الداعية الى تأويل التعارض ، بتصنيفه كفهم خاطيء (لأن عقل الانسان
ناقص وعاجز عن ادراك الحقائق). أو لعلها تمهيد لالزام العقل باتباع النقل على أي
حال ، كما هو الجاري بين اهل الفقه التقليدي. فاذا أثبت العلم شيئا يخالف ما دل
عليه النقل ، تركنا العلم وتمسكنا بمفهوم النقل/ الرواية ، نظير مثال قرن الثور
السابق الذكر.
ومن هنا فان جدل العلاقة بين النقل والعقل/العلم ، لن يصل الى
قرار ، مالم نرجع به لبداية مختلفة ، تعالج ما اظنه عاملا خفيا وراء تعقيد المسألة
، واعني به إشكالية موقع الانسان في الدين. تتلخص هذه الإشكالية في موقف الدين من ثلاثة
أسئلة:
أولها: هل الفطرة الأولية
للإنسان صالحة ام فاسدة. أي: هل يميل – بطبعه - الى الشر والفساد ام يميل
للخير ، بمعنى: لو ترك الناس وشأنهم ، فهل سيتقاتلون ويهلكون الحرث والنسل ، أم
يتعاونون لدرء الشر وتنظيم علاقتهم ببعضهم.
الثاني: هل ينظر الدين للإنسان كفاعل عاقل ذي إرادة واختيار ، وهل
هو حر في الفعل كي يتحمل مسؤولية افعاله وقراراته ، هل هو قادر على الاختيار
العقلائي والأخلاقي. واذا توصل بعقله الى فهم شيء او قرر شيئا ، فهل لهذا الفهم
والقرار قيمة واعتبار في الشرع ، ام هو لغو لا قيمة له. الاختيار العقلائي يعني الفهم
المسبق لمحتوى الأفعال التي سيقدم عليها ، وحساب نتائجها ، ثم اختيار الفعل المؤدي
الى نتائج قابلة للتبرير الأخلاقي ، أي نافعة له وغير ضارة لمن حوله وما حوله.
الثالث: هل يتساوى كافة الناس في الصفتين السابقتين ، أي في طبعهم الاولي وفي قدرتهم على تشخيص الخير ، واتخاذ قرار
بناء عليه ، ام
انهم يولدون بصفات متفاوتة؟.
معالجة هذه الأسئلة هي المدخل الصحيح في رأيي ، للنقاش حول
علاقة الدين بالعلم وعلاقة النقل بالعقل. آمل ان اعود لتوضيح هذا المسار في كتابة
آتية.
الشرق الأوسط الأربعاء - 5 محرم 1444 هـ - 03 أغسطس 2022 مـ
رقم العدد
[15954]
https://aawsat.com/node/3794641
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق