يقول المفكر الهندي المعروف وحيد الدين
خان ان الصحوة الدينية المعاصرة ، هي في عمقها صحوة قومية ، وهي اتت كرد فعل على
الاضرار التي لحقت بالاقطار الاسلامية ، من جراء العلاقة غير المتوازنة بينها وبين
الدول القوية في العالم ، منذ بداية الحقبة الاستعمارية .
وحسب مارأى وحيد ـ وهو مفكر بارز في حقل
الاسلاميات ـ فان الحركات التي ظهرت في العالم العربي ، انما هي رد فعل المجتمع
على الاحتلال اليهودي لفلسطين ، كما ان الحركات التي قامت في شبه القارة الهندية ،
تكونت كنتيجة لتبلور الشعور بعدم الامان ، في ظل النظام الاجتماعي الذي يفرض سيطرة
الاكثرية الهندوسية ، على ازمة الامور في البلاد .
ويعتبر وحيد الدين خان ، واحدا من اكثر
المفكرين الاسلاميين اثارة للجدل ، بافكاره الجريئة والفريدة ، ولاسيما الافكار التي عرضها خلال السنوات
العشر الاخيرة ، ولذلك فان قليلا من الناس ، لاسيما بين النشطين في العمل الاسلامي
سيوافق على هذه الفكرة الاخيرة ، مع انها كأي فكرة اخرى جديدة تستحق العناية
والنقاش .
الشريعة والحركة
ويبدو لي ان الاساس الذي ينطلق منه
وحيد ، هو التمييز بين الاسلام كشريعة ، والحركة الدينية كمشروع اجتماعي ، وهو
يقول بهذا الصدد ان المنطلق الوحيد الذي يسمح لنا
باعتبار الصحوة دينية على وجه الحقيقة ، هو منطلق الايمان بانها امتداد
للعمل التنويري والتحضيري الذي قام به رسول الله (ص) اي الايمان بان مهمة حمل
الرسالة وابلاغها قد انتقلت الينا ، حسب فهمه للاية المباركة (وكذلك جعلناكم امة وسطا
لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا) .
وعلى خلاف ذلك ، فان الصحوة التي
يتمحور مشروعها في صناعة نظام سياسي بديل في دولة من الدول ، او مصارعة قوة من
القوى الاجتماعية او السياسية المنافسة ، ان هذه انما تنطلق من نقطة رد الفعل التي
اشرنا اليها في السطور السابقة .
والتمييز الذي يعرضه وحيد بين الشريعة
والحركة ، تمييز مقبول عند الاكثرية الساحقة من النشطين في العمل الاسلامي ، حيث
لايجادل احد في ان المشروع الذي تطرحه الحركة الاسلامية ، هو محض اجتهاد في فهم
النص الشرعي وتطبيقاته ، وفي تحديد العلاقة بين مقاصد الشريعة ومكونات المشروع او
خطابه الاجتماعي ، وليس هناك من يدعي ـ حسب علمنا على الاقل ـ بان المشروع الفكري
او الاجتماعي الذي يدعو اليه ، هو عين مرادات الخالق سبحانه وتعالى ، او انه هو
الصورة الوحيدة الصحيحة للدين ، فالكل يرى نفسه مجتهدا يحتمل عمله الاصابة كما
يحتمل الخطأ ، بل ان معظم العلماء من شتى المدارس الاسلامية ، يميلون ـ اليوم ـ
الى ماكان يطلق عليه منذ تاسيس علم اصول الفقه بالتخطئة ، وهو اعتبار النتائج التي
يتوصل اليها المجتهدون (محتملة الصحة) ، رغم ثبوت حجيتها شرعا ، بخلاف الاتجاه
الاخر الذي اطلق عليه التصويب ، اي اعتبار نتيجة الاجتهاد (ضرورية الصحة) في كل
الاحوال ، بل سببا لايجاد الحكم الشرعي كما يشرح الامام الغزالي .
مصدر الحرج
على ان القبول بهذا التمييز لايعني
القبول بالفكرة نفسها ، فمعظم الاسلاميين يجد حرجا في اعتبار حركته رد فعل للخسائر
الناتجة عن العلاقات الحرجة مع الغرب ، او نتيجة لتفاقم التهديد الخارجي ، بل على
العكس من ذلك ، فان معظم العاملين في الحقل الديني ، يؤمن بانه يتحرك لايمانه
بوجوب السعي لانجاز الاهداف الدينية ، ضمن اطار بالامر بالمعروف والنهي عن المنكر
او ضمن اطار الجهاد في سبيل الله ، وكلاهما من الواجبات التي ينبغي للمؤمن ان
يقيمها باعتبارها فعلا ابتدائيا مطلوبا من المسلم ، لاباعتبارها رد فعل سياسي
الجوهر يتغطى بالشعار الديني ويتوجه نحو الخارج بالدرجة الاولى ، كما هو فحوى كلام
الاستاذ وحيد .
من ناحية أخرى فان فكرة الجوهر القومي
في الصحوة ، تثير حرجا مصدره صعوبة المواءمة بين الايمان الديني والانتماء القومي
، ولوازم كل من الخيارين ، ان الاسلام ـ كما هو متفق عليه ـ لايعتبر الانتماء القومي مصدرا للالتزام او قاعدة للتقييم ،
بخلاف الايمان الديني ، ويزيد الامر حرجا
ان العلاقة بين دعاة الفكرة القومية ودعاة الفكرة الدينية ، في معظم المجتمعات
المسلمة ، لم تكن حتى الان قائمة على الود ، ولذلك فان اعتبار الصحوة الدينية
قومية في العمق ، سيثير الحرج عند الذين يؤمنون بوقوف القومية والدين على طرفين
مختلفين ، على الرغم من ان مناقشة الاشكال ، ربما ساعدت على فهم اعمق للعلاقة بين
المضمون الديني في الاطار الاجتماعي للحركة ، وبين المقومات المادية والتاريخية
لهذا الاطار.
علاقة متكلفة
والذي نعتقد ان التمييز الذي يعرضه
وحيد الدين خان ، بين المظهر الديني والجوهر القومي للصحوة الاسلامية ، ينطوي على
شيء من التكلف ، في اصطناع العلاقة بين
الطرفين ، وثمة صعوبة في العثور على براهين قوية ، لاثبات صحة تفريقه الحازم بين
المضمون القومي والمضمون الديني ، ففي عديد من الدول الاسلامية كان الكفاح ضد
الاستعمار ، ينطلق من منطلقات دينية ، وكانت المحافظة على الهوية القومية جزءا من
هذا الكفاح ، لالخصوصية ذاتية في الهوية القومية ، ولكن لكونها احدى رموز وحدة
المجتمع ، وهي في الوقت ذاته الوعاء المتفق عليه لثقافة المجتمع وذاكرته التاريخية
، بما فيها الثقافة التي توفر الدوافع نحو استمرار مقاومة المستعمر ، ففي شمال
افريقيا على سبيل المثال ، كان السعي للحفاظ على اللغة العربية ومقاومة الفرنسة ،
جزء لايتجزأ من الجهاد للاستقلال ، وكان ذلك ضروريا لابقاء الهوية الاسلامية ،
وثقافتها المحفوظة في الوعاء اللغوي العربي فعالة ، في منع محاولات اختراق المجتمع
وضرب التوجهات الاستقلالية داخله ، اما في شبه القارة الهندية ، فان الشعور القومي
الذي اقام باكستان ، في اواخر النصف الاول من هذا القرن ، لم يكن سوى الاسلام
بذاته ، فقد جرى اعتباره مجسدا لتمايز قومي ، بين الاقلية المسلمة والاكثرية
الهندوسية في شبه القارة ، اي مبررا لقيام دولة قومية مستقلة .
ونستطيع القول ـ كخلاصة ـ ان الاسلام
كما يفهمه معظم ابنائه ، ليس ايمانا مجردا عن اطاره الاجتماعي او التاريخي ، بل هو
متجسد بصورة ما ، في تفاصيل حياة المجتمع المسلم ، يلعب دوره كناظم للحركة
الاجتماعية حينا ، وكأطار لها حينا آخر ، وهو يوفر في كل الاحوال المادة الثقافية
والروحية ، الضرورية لتعبئة امكانات المجتمع ، في سبيل حياة امثل واكثر انسجاما مع
طموحاته .
نشر في (اليوم) 17/10/1994