‏إظهار الرسائل ذات التسميات افلاطون. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات افلاطون. إظهار كافة الرسائل

09/08/2023

لماذا تركنا مقامات الحريري؟


ثمة عامل معطل لعقلانية التفكير ، احتمل انه موجود - بقدر او بآخر - في كل مجتمع على وجه الكوكب ، أعني به اعتبار الماضي مصدرا للقيم العليا ومعايير العلم. هذا العامل مثير للحيرة بعض الشيء ، فهو يبدو عقلانيا من جانب ، ومعطلا للعقلانية من جانب آخر.

دعنا نأخذ مثالا بسيطا كي تتضح المسألة: قبل 2400 عام رأى افلاطون ، الفيلسوف اليوناني ، ان الناس يتفاضلون بحسب طينتهم ، او جيناتهم كما نقول اليوم. ثمة اشخاص يولدون وهم مهيأون للجندية ، واخرون يولدون حكماء ومعلمين ، ويولد صنف ثالث ليحكم البلاد ، واخرون ليعملوا حدادين وفلاحين.. الخ. وعلى نفس النسق ثمة من يولد بعقل كامل ، مهيئا لاكتساب الفضائل ، وثمة من يولد ناقص العقل ، فلا يحظى من اسباب الفضيلة الا بقدره. وهذا التباين والتفاضل ضروري كي يستقر نظام العالم.

سادت هذه الرؤية طوال العصور الماضية ، وأخذت بها الكنيسة في عهد الدولة البيزنطية ثم الامبراطورية الرومانية المقدسة ، وأخذت بها الدولة الاسلامية منذ عهودها المبكرة ، واعتبرها علماء المسلمين من قبيل المسلمات. وهذا ظاهر في تمييزهم بين الاحرار والعبيد ، وبين النساء والرجال ، وبين العرب وغيرهم ، وبين قريش وغيرها.

حسنا.. ماذا يقول انسان اليوم عن هذه الرؤية العميقة الجذور في ثقافة العالم وتاريخه؟.

بناء على معرفتي المحدودة ، أفترض أن معظم الناس سيرفضونها. وربما جادلوا بان تحولات العلوم والتقنية في السنين الأخيرة ، قضت على اي دليل ربما يدعم الرؤية القديمة. لكن بعض الناس ربما يحاجج قائلا: هذا شيء آمن به آلاف العلماء طيلة قرون ، فهل كانوا جميعا جهلة او غافلين؟. لعل لديهم حجة من نوع ما ، أو دليل لم نعثر عليه. المهم انهم لم يتبنوا تلك الرؤية عبثا ولا جهلا بمعناها.

هذه حجة لا يمكن ردها. فلو رمينا أولئك الناس بالجهل ، لمجرد قبولهم فكرة نراها خاطئة ، فعلينا ان نعيد النظر في كل فكرة نتبناها اليوم ، فما من نظرية معاصرة إلا ولها جذور ممتدة في علوم الماضين. وقد أشرت في مقال الاسبوع المنصرم الى ان فكرة اليوم هي نتاج العبور من فكرة الأمس ، وفكرة الأمس مرتبطة بما قبلها وهكذا. ترى هل كان البرت اينشتاين ، أبرز علماء هذا العصر ، قادرا على انشاء نظريته التي غيرت مسار العلم ، لولا تراث جيمس ماكسويل واسحاق نيوتن. وهل كان نيوتن قادرا على وضع نظريته في الفيزياء ، لولا النتاج العلمي الباهر لغاليليو غاليلي ويوهان كبلر. وهل يمكن فصل هؤلاء عن نتاج كوبرنيكوس؟. وهكذا تتواصل السلسلة الى ابن الهيثم وبطليموس وارخميدس الذي عاش في القرن الثالث قبل الميلاد.

هذا وجه من العملة. دعنا ننظر في الوجه الآخر: لماذا نعتمد الطب الحديث بدل علاجات ابن سينا ، لماذا نهتم بالرواية الحديثة وليس مقامات الحريري ، ولماذا نصفق للشعراء المعاصرين ولدينا تراث امرؤ القيس وعنترة بن شداد وطرفة بن العبد والنابغة الذبياني وعمرو بن كلثوم ، وسائر شعراء المعلقات وفحول شعراء العرب السابقين؟. ولماذا لا نكتفي بفيزياء نيوتن وغاليليو وبطليموس ، بدل العلماء المعاصرين ، ولماذا لا نكتفي بفقه الامام جعفر الصادق او ابي حنيفة او مالك او احمد او الشافعي ، بدل عشرات الآلاف من الفقهاء الذين جاؤوا بعدهم حتى يومنا هذا؟.

أعلم اننا جميعا نعرف الجواب: النظرية العلمية بنت زمانها ، ثم تذهب للارشيف. حسنا دعنا نسأل انفسنا: هل ينطبق المبدأ ذاته على العلوم المتصلة بالهوية والايمان؟. اظن ان الامر لا يستدعي مناقشة ، بل تأملا ذاتيا ومراجعة لمحتويات الذهن ، وربما مساءلة النفس عن مكان تلك المحتويات على خارطة الزمان.

الأربعاء - 23 مُحرَّم 1445 هـ - 9 أغسطس 2023 م    https://aawsat.news/pbpdx   

مقالات ذات علاقة 

الحداثة تجديد الحياة

حلم العودة الى منبع النهر

حول اشكالية الثابت والمتغير

الخروج من قفص التاريخ

سجناء التاريخ

طريق التجديد: الحوار النقدي مع النص

 عـلم الوقـوف على الاطـلال

العودة إلى ثقافة الزمن المنقضي

العيش في ثياب الماضين

الفكــرة وزمن الفكـرة

في علاقة الزمن بالفكرة

في مبررات العودة الى التاريخ

كيف تكون رجعيا.. دليل مختصر

المحافظة على التقاليد .. اي تقاليد

نفوسنا المنقسمة بين عصرين

19/07/2023

عودة الى جدل الطبيعة البشرية


الغرض من هذه الكتابة هو استدراك ما فات بيانه في مقال الاسبوع الماضي. وعلته ان زملاء أعزاء وجدوا فكرة المقال غير مقنعة ، كما شكك آخرون في اهمية هذا النوع من "السوالف العتيقة" كما قالوا.

والحق ان قصة الطبيعة البشرية ، اي سؤال: هل الانسان صالح بالطبع او فاسد بالطبع ، عتيقة جدا. فقد وردت في كتابات افلاطون الذي عاش قبل 2300 عام. وظهرت في كتابات فقهاء وفلاسفة مسلمين في القرن الحادي عشر الميلادي. ثم تكررت في نقاشات الفلاسفة وعلماء السياسة في القرون الوسطى. لكنها لم تخسر اهميتها في العصور الحديثة. بل أن غاري ماديسون رأى ان اي نظرية في الفلسفة السياسية ، هي بصورة مباشرة او غير مباشرة ، نظرية حول طبيعة الانسان ذاته. وقد ذكرت في دراسة سابقة ، اني اميل لرؤية فيها تعديل على رأي البروفسور ماديسون ، وخلاصتها ان اي نظرية في علم السياسة او في الفقه او القانون ، يجب ان تقام على موقف مسبق من طبيعة الانسان. بمعنى ان على المشرع ان يقرر الاساس الذي يبني عليه: هل يتوجه بتشريعه لبشر طبيعتهم صالحة خيرة ، ام العكس.

بيان ذلك: حين يفكر المشرع في مواد القانون الذي يريد وضعه ، يضع نصب عينيه الغاية التي يستهدفها هذا القانون. فالمشرع الذي يحمل رؤية متفائلة ازاء طبيعة البشر ، سوف يصدر قانونا لينا ، يستهدف في المقام الأول تمكين الناس من تحصيل حقوقهم ، وحيازتها بيسر وسلام.

وسيحدث العكس حين يحمل المشرع او الفقيه رؤية متشائمة ، اي حين يكون معتقدا بان الناس اميل للفساد ، فهو حينئذ سيجعل غاية القانون وغرضه الاساس ، تضييق الثغرات التي ربما يستغلها الفاسدون والعابثون. وبالتالي سيأتي خشنا معقدا ، لا يمكن الناس من حقوقهم الا بعد الف تحقيق وتحقيق.

بعبارة اخرى فان النوع الأول يفترض ان الناس طيبون ، وانهم حين يدعون حقا ، فهم في الغالب صادقون ، وان دور القانون هو مساعدتهم. اما الثاني فيفترض ان الناس فاسدون ، وحين يدعون حقا فانهم في الغالب يسعون للاستحواذ على حقوق غيرهم ، او ان الجشع يحملهم على اخذ ما يزيد عن حقهم. ولذا يجب الحيلولة دون وصولهم الى الحق المزعوم قبل التحقيق والتدقيق.

أعلم ان كثيرا من الناس يميل الى الرأي الثاني. وقد قرأت عشرات الأمثلة التي ضربها قراء وزملاء لتأكيد هذا الرأي. أما أنا فأميل للرأي الأول ، ولدي دليل واحد فحسب ، وهو موقفك انت عزيزي القاريء. أدعوك للتوقف لحظة وسؤال نفسك سؤالين ، وانت تعرف جوابهما ، وفي هذين الجوابين يكمن الدليل على ما زعمته.

السؤال الأول: لو عقدت مقارنة افتراضية ، بين عدد الفاسدين الذين تعرفهم وعدد الصالحين الذين تعرفهم. هل ترى ان عدد الفاسدين سيكون اكبر او العكس؟.

السؤال الثاني: الق نظرة على تاريخ البشرية خلال الف عام ، هل تراها تقدمت ام تأخرت.. على صعيد القانون والتكنولوجيا وتوفر الغذاء والدواء ورعاية الاطفال وكبار السن والتواصل وانتشار العلم والمعرفة.. الخ. هل يمكن للفاسدين ان يصنعوا هذه التحولات العظيمة. اذا كان الجواب نعم ، فينبغي ان تكون السجون مصدر العلم والاختراع ، وليس الجامعات ومراكز البحث والمصانع والمختبرات. فهل هذا ما حدث فعلا؟.

بعد هذا دعنا نتحدث انطلاقا من مصلحتنا كأشخاص عاديين: ما هو الاصلح لي ولك وما الذي نريده لانفسنا: ان يعاملنا القانون كأشخاص صالحين يريدون العيش بسلام ، ام كأشخاص فاسدين يبحثون عن ثغرة كي يفسدوا عالمهم؟.

هل أمثل انا وانت وعشرات الاشخاص الذين نعرفهم ، نماذج عن ملايين الناس الذين يعيشون على هذا الكوكب ، ام ان الله اصطفاك وبضعة ممن تعرفهم ، دون بقية خلقه؟.

الشرق الأوسط الأربعاء - 02 مُحرَّم 1445 هـ - 19 يوليو 2023 م  https://aawsat.news/4nm4z

مقالات ذات صلة

الاثم الاصلي 

اناني وناقص .. لكنه خلق الله 

اسطورة العقل الصريح والنقل الصحيح 

بقية من رواية قديمة 

الانسان الذئب؟.... 

صورتان عن الانسان والقانون 

مجتمع العقلاء 

الازمان الفاسدة والناس الفاسدون 

كيف تقبلنا فكرة الانسان الذئب؟ 

في معنى الردع وعلاقته بالطبع الاولى للبشر 

صورتان عن الانسان والقانون 

القانون للصالحين من عباد الله 

الحق في ارتكاب الخطأ 

عسر القانون كمدخل للفساد الإداري 

دعاة الحرية وأعداء الحرية 

الازمان الفاسدة والناس الفاسدون 

كيف تقبلنا فكرة الانسان الذئب؟ 

واتس اب (1/2) أغراض القانون 

واتس اب (2/2) عتبة البيت 

 

23/06/2021

الاثم الاصلي

 

ذكرت في مقال الأسبوع الماضي ، ان المجتمعات الشرقية تميل في مجملها ، للرؤية القائلة بأن الناس لو تركوا وشأنهم ، فالمرجح ان ينزلقوا الى النزاع ، حتى يقتل بعضهم بعضا. كما اشرت في السياق الى راي افلاطون ،  الذي قال ان خوف الناس من العقاب هو الذي يدفعهم لاحترام القانون ، وليس اقتناعهم به او ايمانهم بضرورته للحياة السليمة ، وان هذا المبدأ يتخذ عادة كمبرر للسلطة الخشنة.

والرأي القائل بالميل الفطري للشر والفساد ، هو النظرية التي بقيت شائعة حتى القرن السابع عشر. وبحسب بعض الباحثين فان اول صياغة قوية لها ، تمت على يد القديس اغسطين (354-430م) في كتابه "مدينة الله" ، الذي يعد اول تصوير متكامل للنظرية السياسية الكاثوليكية. وفقا لرؤية اغسطين فان الانسان مذنب بطبعه ، ومحكوم بالاثم الأصلي original sin الذي أنزل أبانا آدم الى الأرض. ولذا فلا بد للمجتمع الإنساني ، من سلطة قادرة على منع الآثمين من الاستغراق في خطاياهم. كما تبنى موقف ارسطو ، القائل بان نظام الكون يقتضي وجود شريحة من الناس وظيفتها الحكم ، وشرائح أخرى وظيفتها الطاعة. تقاسم الأدوار هذا ضروري لاقامة العدل من جهة ، وهو علاج للاثم الاصلي من جهة اخرى. كما رأى ان السلطة الجبرية ضرورية ، وان العدل غير قابل للتحقق الا في دولة دينية ، تقيمها الكنيسة او تخضع لتوجيه الكنيسة.

وقد لاحظت خلال أبحاث سابقة ، ان القائلين بفساد الفطرة البشرية وميل الانسان الطبيعي للشر ، يشتركون في موقف آخر هو ايمانهم بعدم التكافؤ بين البشر ، وبالتالي فانهم لا يرون المساواة ضرورة للعدالة ، بل ولا يعتقدون بضرورتها. وفقا للعلامة الحسن بن مطهر الحلي (1250-1325م) فان "الغالب على أكثر الناس القوة الشهوية والغضبية والوهمية ، بحيث يستبيح كثير من الجهال لذلك ، اختلال نظام النوع الإنساني". وراي الحلي هذا ، مطابق لرأي غالبية معاصريه من الفقهاء ومن جاء بعدهم.

ومال غالبية القدامى (ومن تبعهم من المعاصرين) الى ان التفاوت يبدا في لحظة الولادة. وحسب رأي ارسطو ، فانه "من أجل انتظام الحياة ، قضت الطبيعة للكائن الموصوف بالعقل والتبصر ان يامر بوصفه سيدا. كما قضت للكائن القوي البدن ان ينفذ الاوامر بوصفه عبدا. وبهذا تمتزج منفعة السيد ومنفعة العبد".  ويؤكد في نفس السياق ، ان الله – في لحظة الولادة – "يصب من الذهب في نفس فريق ، ومن الفضة في نفس فريق آخر ، ويصب النحاس في نفس هؤلاء الذين يجب ان يكونوا صناعا وزراعا".

وبمثل ما اختلف الناس في المكانة والمؤهلات والقيمة في لحظة الولادة ، فسيبقون على هذا النحو طوال حياتهم ، حيث قرر افلاطون ، أستاذ ارسطو  بان العدالة لا ترتبط بالمساواة. تكون الدولة عادلة في رأيه اذا رضي كل صاحب حرفة بما أهلته له طبيعته ، اذا رضي الصانع والفلاح مثلا بوضعه ، ولم يحاول ممارسة عمل غير ما هو مؤهل له طبيعيا. بعبارة اخرى فان العدالة تكمن في المحافظة على الفوارق بين الناس وليس الغاءها ، كما يميل انسان العصر الحديث.

قلت في الأسبوع الماضي ان الارتياب في الفطرة البشرية ، متصل بموقع العدالة في ثقافتنا العامة. واظن ان هذا قد اتضح الآن ، على الأقل فيما يخص أبرز أركان العدالة وتجلياتها ، أي مبدأ المساواة بين الناس.

الشرق الاوسط الأربعاء - 13 ذو القعدة 1442 هـ - 23 يونيو 2021 مـ رقم العدد [15548]

https://aawsat.com/node/3041751/

مقالات ذات صلة


14/06/2017

كهف الجماعة



أنت وأنا ننظر الى واقعة واحدة ، فأرى شيئا وترى شيئا آخر. انا وأنت لا نرى الواقعة كما هي ، بل نرى صورتها التي في أذهاننا. لا يختلف الناس في حكمهم على الاشياء لأنهم يجهلون الحقائق ، بل لأنهم يرونها على صور متباينة. قدم الفيلسوف الالماني مارتن هايدغر صياغة مبسطة لهذا المفهوم فقال ان كل فهم جديد مشروط بالفهم السابق. ولا فهم من دون فهم مسبق. لهذا السبب على الارجح رأى توماس كون ، المفكر الامريكي المعاصر ، ان ما يكتشفه البشر في مراحل العلم العادي ليس سوى اعادة ترتيب لما يعرفونه سلفا.
قبل ذلك بزمن طويل ، رأى افلاطون ان عامة الناس سجناء للذاكرة الفردية او الجمعية التي تحدد رؤيتهم للعالم. تخيل افلاطون كهفا يتسلل اليه بصيص ضوء ، فتنعكس على جدرانه ظلال من حركة الحياة في خارجه ، فيتخيل أهل الكهف انهم يرون الحياة بذاتها. لكنهم في حقيقة الامر لا يرون غير ظلالها. قلة قليلة ممن يملكون البصيرة أو يتحلون بالشجاعة ، يتمردون على كهف الذاكرة فيخرجون الى النور ، فيرون العالم كما هو ويرون الحياة كما هي. وحين يصفونها لأهل الكهف فان قليلا منهم سيجرأون على تقبل فكرة ان هناك ، خارج جدران الكهف ، عالما ينبض بالحياة أو يتحرك في اتجاه مختلف عما تخيلوه طوال حياتهم.

أعاد فرانسيس بيكون شرح الفكرة في نظريته الشهيرة عن أصنام العقل الاربعة ، أي منظومات الأوهام الساكنة والنشطة التي تتحكم في رؤية العقل للحقائق ، وبينها أصنام الكهف.
اصنام الكهف او كهف الذاكرة تنطبق بصورة بينة على المسار الاجتماعي الذي نسميه التمذهب. نحن ننظر الى معتقداتنا فنراها صحيحة دائما. بينما ينظر اليها اتباع مذهب مختلف ، فيرونها خاطئة دائما. نأتي بالادلة والشواهد ، فيأتون بأدلة وشواهد مقابلة. وفي نهاية النقاش ، يزداد الطرفان قناعة بما كانوا عليه أصلا. وكأن النقاشات كلها حوار بين طرشان أو مجرد نفخ في الهواء.
ليس بين الطرفين جاهل او قليل العلم ، وليس بينهما من لا يفهم الادلة او طرق الاستدلال. المسألة وما فيها انهم يفكرون في قضايا تتحد في الاسماء ، وربما تتحد في الجوهر ، لكنهم لا يهتمون بجوهر الاشياء ولا باسمائها ، بل يهتمون بالمعاني المتولدة من تلك الاشياء.
معنى الشيء هو الصلة التي تربط بينه وبين الناس. ولا قيمة لأي شيء ما لم تتحدد علاقته بالاشخاص الذين يتداولونه. جرب ان تعرض على طفل خمسمائة ريال او لعبة بعشرة ريالات ، فما الذي سيختار؟. المؤكد انه سيختار اللعبة ، لانها تعني له شيئا. اما الخمسمائة ريال فليست – بالنسبة اليه – سوى ورقة.
اتباع الأديان والمذاهب وأعضاء الجماعات السياسية ، بل كافة الناس على وجه التقريب ، لايجادلون قناعاتهم الاساسية ، ولا يتخلون عن مسلماتهم ، حتى لو رآها الاخرون غير معقولة. لانها ليست عناصر هائمة في الفضاء ، بل هي اجزاء متناغمة ملتحمة في صورة كاملة مستقرة في ذاكرتهم ، تشكل كهفهم الخاص ، اي عالمهم الحقيقي ، الذي قد يماثل عالم الناس او يختلف عنه ، لكنهم يعرفون انفسهم والعالم على هذا النحو.
هل يستطيع أحد البرهنة على ان عالمك اكثر معقولية من عالمي ، أو ان كهفك اوسع من كهفي؟. ربما. لكننا نتحدث في نهاية المطاف عن كهف ، واسعا كان أو ضيقا.
الشرق الاوسط 14 يونيو 2017

مقالات ذات علاقة


07/09/2016

ايديولوجيا الدولة كعامل انقسام: كيف يحدث التفارق الآيديولوجي والثقافي؟


كرس كارل بوبر كتابه "المجتمع المفتوح واعداؤه" لنقد الرؤية المثالية ، التي وجدها أساسا للايديولوجيات السياسية الشمولية. وأظن ان هذا الكتاب هو الذي منح بوبر الشهرة الواسعة ، وجعله واحدا من اكثر الفلاسفة تأثيرا في الوسط الاكاديمي ، خلال الربع الاخير من القرن العشرين.

في هذا الكتاب الذي نشر عام 1945 تتبع بوبر جذور النزعة التسلطية -الشمولية في فلسفة افلاطون ، كارل ماركس ، وفريدريك هيغل. واظن انه ساهم في كبح الاتجاه الذي تعاظم في منتصف القرن العشرين ، والداعي الى الاخذ بنموذج معدل للاشتراكية في غرب اوربا.


رغم المسافة الشاسعة التي تفصل بين افلاطون وماركس وهيجل ، الا ان رؤية الفلاسفة الثلاثة تشكل أساسا لاتجاه عريض يركز على على أولوية "الصالح العام" ، على نحو يسمح بالغاء المصلحة الخاصة في حال التعارض. ان القبول المبدئي بهذه الرؤية التي تبدو في - الوهلة الاولى - معقولة ، ينتهي الى اضعاف المبادرة الحرة ، التي يحركها الميل الفطري عند البشر للكسب والاستزادة. كما يوفر تبريرا للتهوين من حقوق الافراد وحرياتهم.

وكما رأينا في التجربة الاشتراكية ومعظم التجارب العربية ، فان هذا الاتجاه قد ينتهي الى دولة بوليسية شديدة القسوة ومستعدة لاختراق كل الخطوط ، بما فيها الحقوق الأولية للافراد. وطبقا لوصف هما كاتوزيان ، فان دولة من هذا النوع لا تتوقف عند الفرض المتعسف لقانونها الخاص ، بل ربما تعطي لنفسها الحق في فرض اللاقانون ايضا ، حين تصبح أهواء رجالها وآراؤهم الشخصية واجتهاداتهم الخاصة أوامر لا تناقش.

ان التسلط مشكل بحد ذاته. لكن استناده الى ايديولوجيا حاكمة ، تجعله اكثر من مجرد سوء تقدير للعواقب او شخصنة للسلطة. كل صاحب ايديولوجيا ، ايا كان مصدرها او قاعدتها الفلسفية ، يتلبس – بالضرورة – دور الداعي الى ما يراه حقا او قيمة فوقية. وهذا يعني منطقيا تمييزه لنفسه ورفعها فوق من يدعوهم. في الحقيقة فانه يرى نفسه متفضلا عليهم حين يدعوهم ، وقد يستغرب من بجاحتهم حين يجادلونه ، او يلوم جهلهم اذا رفضوا دعواه.

لو كان داعية الايديولوجيا شخصا من عامة الناس ، فسوف يتوسل – كما هي العادة – بلين الكلام والجدل المعقول. وقد يعدهم خيرا او يحذرهم من سوء المآل لو اعرضوا عن رأيه. وفي نهاية المطاف ، فان غاية ما يصل اليه هو الابتعاد عن طريق الرافضين والتركيز على المستجيبين لدعوته.

لكن الامر مختلف تماما حين تكون الايديولوجيا خطابا تتبناه الدولة وتوجه سياساتها. الدولة – بطبيعتها - لا تعرف ، كما لاحظ الكسيس دو توكفيل ، سوى املاء قواعد صارمة ، وفرض الرأي الذي تميل اليه مهما كان كريها. بل حتى الارشاد والتوجيه العام ، يتحول في سياق عملها الى أوامر لا تقبل الجدل.

نعرف ان الدولة خادم للشعب ، وكيل عنه ، وأمين على ماله. فاذا تحولت الى داعية ايديولوجي ، تغيرت المعادلة ، وتحول شغلها الى تحديد من يقف مع الحق (اي خطابها) ومن هو منحرف عنه او معارض له. بطبيعة الحال فان المجتمع سينقسم الى موال مخلص ومعارض صريح ومعتزل مرتاب كاره للسياسة وأهلها.

واذا استعملت قوتها في فرض الحق الذي تتبناه ، اي الخطاب الايديولوجي الخاص ، فان جانبا مهما من رد الفعل الاجتماعي سينصرف الى تأليف ايديولوجيا نقيضة تبرر موقف الرفض او الاعتزال. وفي هذه النقطة يتحول التمايز الطبيعي بين الحاكم والمحكوم الى تفارق ايديولوجي وثقافي ، ومن ثم انشقاق اجتماعي.

الشرق الاوسط 7 سبتمبر 2016
 http://aawsat.com/node/732576

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...