‏إظهار الرسائل ذات التسميات مونتسكيو. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات مونتسكيو. إظهار كافة الرسائل

04/04/2024

جندية تحمل طفلا

في ابريل من العام الماضي 2023 نشرت قناة سي ان ان الاخبارية الامريكية ، صورة الجندية السعودية "أمل العوفي" وهي تحتضن طفلا وصل للتو الى ميناء جدة ، مع امه التي فرت به من الحرب الاهلية المشتعلة في السودان. اختارت القناة للمادة العنوان التالي: "أمن وأمان وحنان.. مجندة سعودية تخطف القلوب". هذه الصورة جابت العالم شرقا وغربا ، نشرها العديد من الصحف ومواقع التواصل الاجتماعي ، وأثارت تعاطف الملايين من القراء ، لما تظهره من حنان ورحمة ، يتمنى كل البشر ان تكون السائدة في علاقتهم ببعضهم.

تخيل انك مررت بهذا المشهد ، فهل سترى فعل الجندية حسنا ام قبيحا؟. ماذا لو مر بها شخص مسيحي او بوذي او هندوسي او وثني او ملحد ، هل سيحبها ام يبغضها؟.

لننظر الآن في الوجه المعاكس.. تخيل ان هذا الطفل كان غريبا جائعا تائها عن أهله ، ومر به الناس فلم يعبأوا به ولا سألوا عن مصابه ، فكيف سيكون رد فعلك ، كيف سيكون رد فعل أصحاب الاديان الاخرى والذين لا دين لهم ، هل تظنهم سيفرحون بحال الطفل التائه الجائع ، ام سيشعرون بالأسى ويلومون من رآه فلم يأخذ بيده.

اضف الى هذا.. هل سألت انت عن دين الطفل الذي حملته الجندية أمل ، هل سأل الذين شاهدوا صورته في اي صحيفة أخرى عن هذا ، ام فرحوا بفعلها لانه تعبير عن المعاملة التي يستحقها الانسان كانسان ، أيا كان دينه وعرقه وموطنه.

ماذا عن الطفل الآخر ، هل ستسأل عن دينه قبل ان تعطيه شربة ماء ، هل سيسأل اتباع الاديان الاخرى عن ذلك؟.

لقد اخترت هذين المثالين ، كي تتضح بساطة الموضوع الذي ناقشته في الاسبوع الماضي ، اي فعل الخير كجزء من علاقة البشر ببعضهم ، لا باعتباره جزء من اي شريعة او قانون.

-         لكن لماذا نتحدث في هذا الموضوع ونلح عليه... ألا تأمر كافة الاديان بعمل الخير؟.

الواقع ان الاديان – في عمومها – تأمر بفعل الخير لكل انسان ، وتعتبره صفة ملازمة للايمان. لكن حين نأتي للتفاصيل والتطبيقات التي تنظم سلوك الأفراد ، سنواجه تشريعات معاكسة. لدينا قصص كثيرة التداول عن عواقب الاحسان للضعفاء ، وثمة أحاديث نبوية عن امرأة دخلت الجنة لأنها احسنت الى كلب ، واخرى دخلت النار لانها حبست قطة حتى ماتت جوعا. هذا في التوجيه العام. فماذا عن الاحكام الفقهية التي يعتمدها الناس في حياتهم اليومية؟

سترى آراء لفقهاء يأمرون عامة الناس بمنع الصدقة عمن يتبع مذهبا او دينا مخالفا ، ويصنف عندهم كافرا او مبتدعا او غير مؤمن. بل ثمة من يفتي بعدم رد السلام عليهم ، او الاكل من طعامهم او التبسم في وجوههم او افساح الطريق لهم او مشاركتهم في الاعمال.. الخ.

 لا ينبغي الظن ان هذا يقتصر على مذهب دون آخر ، فهي موجودة بهذه التفاصيل وما هو أكثر في جميع المذاهب الاسلامية. وموجود مثلها واكثر في المسيحية واليهودية وبقية الأديان ، على مستوى التنظير او التوجيه. خذ مثلا تبرير المفكر الفرنسي المعروف مونتسكيو (1689-1755) للرق ، حيث يقول:

"لا يلقى في الذهن كون ﷲ البالغ الحكمة قد وضع روحا طيبة في جسم تام السواد.... محال أن نفترض هؤلاء الآدميين من الناس ، وذلك لأننا إذا ما افترضناهم أناسا ، أخذنا نعتقد أننا غير نصارى". مع العلم بان تعاليم السيد المسيح تعتبر بني آدم كافة اخوة في الله.

الاحظ دائما ان الناس يذكرون المباديء العامة حين يجادلون غيرهم. لكنهم عند التطبيق اليومي يعتمدون فتوى الفقيه. ونعلم ان المبدأ العام يعبر عن الايمان وينسب الى الله ، أما الفتوى فتعبر عن هوية الجماعة/المذهب وتنسب الى الفقهاء او الائمة. لهذا اقول ان الخير العام المفصول عن الدين يلتقي مع الايمان بالله ، بينما الخير المخصص (واحيانا الممنوع) يلتقي مع هوية الجماعة/المذهب.

الشرق الاوسط الخميس - 25 رَمضان 1445 هـ - 4 أبريل 2024 م     https://aawsat.news/w24dd

 مقالات ذات صلة

الاستدلال العقلي كاساس للفتوى

تأملات في حدود الديني والعرفي

الحكم اعتمادا على العقول الناقصة

حول الفصل بين الدين والعلم

حول تطوير الفهم الديني للعالم

دين الانسان

الـدين والمعـرفة الدينـية

الرزية العظمى

شرع العقلاء

عقل الاولين وعقل الاخرين

عن الدين والخرافة والخوف من مجادلة المسلمات

عودة الى نقاش الدور التشريعي للعقل

كي لايكون النص ضدا للعقل

كيف تتقلص دائرة الشرعيات؟

ماذا يختفي وراء جدل العلاقة بين العلم والدين

نسبية المعرفة الدينية

هكذا خرج العقل من حياتنا

هيمنة الاتجاه الاخباري على الفقه

 

06/12/1998

قاعدة شيلني واشيلك

نعرف جميعا اننا نرث عن أسلافنا ، صفاتنا الجسمية ، لون بشرتنا وشكل وجوهنا وبقية الصفات البيولوجية ، حتى الامراض. لكن فكرة الوراثة كانت - حتى اواخر القرن الثامن عشر - أوسع من هذا بكثير. فقد اعتادت النخبة المتعلمة على تقبل الفكرة القائلة بان الانسان يرث عن أبويه حتى الصفات السلوكية والذهنية ، بما فيها قابلية الاستقامة والانحراف عن الطريق السوي. بل أن بعض العلماء بذل جهدا كبيرا لاثبات امكانية تمييز الشخص المستقيم أو المنحرف ، من تفاصيل وجهه وشكل جمجمته ، وان هذه الصفات تنتقل الى الأبناء من الآباء ، وبقيت فكرة تأثير الأصل سائدة في الابحاث المتعلقة بالمجتمع والانسان ، حتى منتصف القرن العشرين.

البروفسور كارل يونغ

في العام 1939 سئل كارل يونغ ، عالم النفس السويسري ، عن رأيه في ردة فعل الشبية الالمانية على صعود هتلر السياسي ، فقال ان هتلر هو ( مكبر الصوت الذي يجسم الهمسات الخفية للروح الالمانية). 

ومما يذكر هنا ان بعض المتعلمين ، وبينهم دعاة ورجال علم بارزون ، قد ابتلع الطعم ، فبالغوا في التدليل على هذا المنحى ، بالروايات التي تدعو الانسان إلى تحري الأصول الطيبة عند الزواج والجيرة ، أو تلك التي تمتدح أقواما بعينهم ، فصرفوها إلى ذلك المفهوم ، رغم ان الدعوة الاسلامية قد قامت على اعتبار الانسانية جامعا مشتركا ، يفرض التسوية بين كل انسان والآخر بما هو انسان ، وأحالت التفاضل على الفضائل الأخلاقية والعقلية ، التي يجتهد الفرد في اكتسابها والتحلي بها ، فتتحدد قيمته تبعا لها.

أما في العصور الاسلامية المتقدمة ، فقد اهتم عدد من العلماء بالعلاقة بين البيئة الطبيعية والنشاط الذهني ، وكان القاضي صاعد الاندلسي (1029-1070) من أوائل الذين طرحوا هذه الفكرة ، حين قرر ان الامم المؤهلة لاكتساب العلم ، هي التي تعيش في المناطق المعتدلة الهواء ، بينما انسان المناطق  الحارة  انفعالي غير متزن ، وانسان المناطق الباردة خامل ، وذهب إلى هذا المذهب - مع تبني استنتاج معاكس- المفكر الفرنسي  مونتسيكيو ( 1689-1755) الذي قرر ان السخونة تأتي بالاستبداد ، بينما البرودة تجعل العقل مسيطرا على الحواس .

 لكن هذا النوع من التصنيف لم يجد رواجا في المجتمع العربي ، لتزاحمه مع مفهوم آخر يقوم على نسبة الأفراد إلى بيئاتهم الاجتماعية ، أي النظر إلى الفرد من خلال انتمائه الاجتماعي ، وليس من خلال صفاته البيولوجية ، أو صورة أسلافه ، أو بيئته الطبيعية ، فضلا عن تزاحمه مع الصورة الدينية للفرد ، التي سبق الاشارة اليها ، ونعلم ان الدين الاسلامي هو المكون الرئيس لثقافة العرب ، منذ البعثة النبوية .

مع مرور الزمن وتطور علم الانسان ، أهملت نظريات الوراثة والتأثر بالبيئة الطبيعية ، لصالح تعظيم قيمة الفرد ، فيما يمكن اعتباره اكتشافا متأخرا للمفهوم الاسلامي ، الذي بدأ بالنظر إلى الفرد الواحد كمخاطب للشريعة ، ومسؤول عما كسب في دنياه ، حيث يتساوى في هذا الاعتبار والقيمة مع كل فرد آخر ، بغض النظر عن أصله ونسبه وبيئته .

لقد احتاج الانسان في الغرب إلى قرون طويلة من الكفاح ، حتى يسترد اعتباره الذاتي ، فيتحول من محمول على غيره إلى حامل لذاته ، قادر على تقرير قيمته الخاصة ، بناء على اجتهاده وانجازه ، مما حمل العالم البريطاني ادوار كار ، على القول بان (تاريخ البشرية هو بوجه من الوجوه ، تاربخ صراع الفرد من أجل استعادة قيمته) .

لكن على خلاف هذا فان المجتمع العربي ، وكثيرا من المجتمعات النامية الأخرى ، ما تزال تقاوم فكرة استقلال الفرد بقيمته ، الفرد في عالمنا ما يزال مجهولا كذات مستقلة قائمة بمفردها ودون نسبة إلى الغير ، الفرد في العالم النامي معروف بقبيلته أو طائفته أو بلده ،  أي بانتمائه الاجتماعي ، ولهذا فانك تواجه كثيرا من الحالات ، التي يعرف فيها زيد باعتباره من أهل البلد الفلاني أو القبيلة أو الطائفة الفلانية ، ويتقرر مكانه أو الموقف منه بناء على هذا الاعتبار .

وفي سنوات ماضية كتب دارسون عرب ، ان التحضر والنشاط الاقتصادي وانتشار التعليم ، سوف يقضي على هذا النوع من التصنيف ، الذي ينطوي على (احتقار غير مقصود) للانسان الفرد ، لكن ظهر لاحقا ان هذا التوقع كان متفائلا جدا ، رغم انه لا يخلو من صحة ، فلنقل على سبيل التحفظ ، ان عددا من الأفراد استطاعوا ان يفرضوا اعتبارهم الخاص ، وان يجعلوه مقدما على نسبهم أو انتمائهم ، وثمة عدد ملحوظ من الشخصيات البارزة اليوم في مجتمعنا ، ترجع إلى اصل متواضع ، لكن على الوجه الثاني ، فان الأفراد الذين لم يستطيعوا ابراز قدرات استثنائية ، ما زالوا يواجهون ذات المشكلة ، ومنهم من يعوّل كثيرا على استثمار انتمائه الاجتماعي للحصول على ما يريد ، بل وفي بعض الأحيان للاسـتـئـثار بالفوائد على حساب الغير ، فالانتماء يلعب هنا دور المرجح ، مقابل الكفاءة والصفات الفاضلة الأخرى .

وتجد أحيانا ان معظم الموظفين في إدارة من الادارات ، ينتهي اسمهم بلقب واحد ، يعكس الانتماء إلى قبيلة محددة أو منطقة محددة ، وليس ثمة تفسير لهذا الوضع ، سوى ان الانتماء الاجتماعي لعب الدور الرئيس ، بل ربما الوحيد في فوز هؤلاء بالوظيفة ، ضمن قانون (شيلني واشيلك) وهو قانون غير مكتوب ، لكنه قوي جدا وفعال على المستوى العملي . وهذا من أسباب التشاؤم الذي عبر عنه د. خلدون النقيب ، الذي توصل إلى ان انتشار التعليم في الأقطار العربية ، لم يؤد إلى تجسير الفجوة بين الكيانات الاجتماعية ، بل ربما ساعد على ابرازها وتسليط الضوء على خواصها ، التي هي نقاط افتراق لكل منها عن الغير .

مقالات ذات صلة

افكار للاستعمال الخارجي فقط

برنارد وليامز : الفيلسوف المجهول

بقية من ظلال الماضين

عودة لمبدأ المساواة

فكرة المساواة: برنارد وليامز

المساواة بين الخلق ... المساواة في ماذا ؟ : رؤية امارتيا سن

المساواة والعدالة : ديفيد ميلر

المساواة: اشكالات المفهوم واحتمالاته ايزايا برلين

 


في 6-12-1998

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...