‏إظهار الرسائل ذات التسميات امارتيا سن. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات امارتيا سن. إظهار كافة الرسائل

07/09/2023

رأس المال الاجتماعي

استعرت عنوان هذه الكتابة من المفكر الامريكي المعروف فرانسيس فوكوياما ، وهو مساهمته في الكتاب المعنون "الثقافات وقيم التقدم" الذي حرره صمويل هنتنجتون ولورنس هاريزون. ويدور حول العلاقة الجدلية بين الثقافة والاقتصاد.

من المسلمات الشائعة في نظرية التحديث (وكذا في نظرية التنمية الكلاسيكية) ان الحراك الاقتصادي يؤدي – قطعا - لتحولات ثقافية. اقول انها مسلمة شائعة ، لأني اقبلها من جهة ، واتحفظ على تفاصيلها من جهة اخرى. وقد شرحت هذا بقدر من التفصيل في دراسة سابقة. لكن هذا التحفظ لا يقلل أبدا من قيمة الحجج التي بنيت عليها تلك النظرية.

د. فرنسيس فوكوياما

على ان هذا ليس موضوعنا اليوم. فغرضي هو الاشارة للاتجاه المعاكس ، اي تفصيح السؤال الهام: هل يمكن للثقافة ان تغير الاقتصاد ، كما ان الاقتصاد يغير الثقافة؟.

حسنا..

لماذا نعتبر هذا السؤال هاما؟.

من البديهيات ان الأمم تبجل ثقافاتها ، وتعتبرها جزء اساسيا من عناصر تمايزها وافتخارها على الأمم الأخرى. لو قرأت ايا من أعمال المفكر الهندي أمارتيا سن ، فقد تلاحظ انه يعتبر الثقافة الهندية موطن الحكمة في تاريخ العالم. ويعتبر العرب انفسهم أعلى الأمم كعبا ، ولغتهم اوسع اللغات وأغناها. وهكذا يفعل المنتمون الى سائر الثقافات.

لكن هذه الثقافة التي نفخر بها ، قد تكون هي بالذات معيقة للتقدم او مثبطة ، أو تكون – على العكس من ذلك - محركا للتقدم ، إذا عززت حس المغامرة والاكتشاف والمسؤولية والتعاون.

وقد تحدث العديد من الكتاب عن هذا الموضوع. ونشير مثلا الى مقدمة ابن خلدون ، الذي كتب عن العرب والأقوام التي عرف بها او سمع عنها. لكن أبرز من طرحه للتحليل العلمي ، هو – على حد علمي - ماكس فيبر في كتابه "الاخلاق البروتستنتية وروح الراسمالية". قدم فيبر مقاربة تجريبية – تفسيرية ، تقارن بين الحراك الاقتصادي في مجتمعين ، حيث توصل الى ان العقيدة البروتستنتية ، ولا سيما في نسختها التي تنسب للراهب الاصلاحي جون كالفن ، وفرت منظومة مؤثرة من القيم والمعايير المحفزة للنشاط الاقتصادي الإبداعي ، في مقابل الكاثوليكية التي مالت لاحتقار العمل الدنيوي ، وتمجيد العمل الذي يعد الانسان لحياته في العالم الآخر ، بعد ان يموت.

واجهت طروحات فيبر معارضات شديدة ، لا سيما بسبب ما قيل عن انطلاقها من الايمان بالمركزية الأوروبية. لكنها – رغم ذلك - شكلت بداية قوية لدراسة العلاقة بين قوة الاقتصاد في بلد ما وبين تكوين العقل الجمعي لسكانه.

-         حسنا... ماذا عنا؟.

-         هل نستطيع الجزم بان الثقافة السائدة في مجتمعنا محفزة للتقدم او العكس؟.

اعتقد ان هذا من نوع الأسئلة الخاطئة التي ربما تفتح الباب امام نقاشات غير مفيدة. ذلك ان كل ثقافة تحوي عناصر من هذا النوع ، وعناصر مضادة. واذا قلت – مثلا – ان الثقافة الفلانية مثبطة او معيقة ، فربما تبعد الأنظار عن الأجزاء الإيجابية فيها ، وتستثير شعورا دفاعيا او تبريريا بين اتباعها ، بدل النقاش الواقعي الذي يستهدف تحليل المشكلة وكشف اطرافها.

هنا نأتي الى اخينا "فوكوياما" الذي اهتم بتلك الأجزاء فحسب ، وهو ما اطلق عليه "راس المال الاجتماعي" وهو مجموع القيم والمفاهيم والمعايير التي تشكل ثوابت في الثقافة العامة لبلد ما ، أي نواظم ومحددات ما اسميناه "العقل الجمعي". هذه ثوابت يشترك فيها كافة أهل البلد ، وتمثل أساسا للتفاهم والتشارك فيما بينهم ، التشارك في الأعمال والأموال والأفكار ، ومن هنا فهي تخلق نوعا من الفعل الجمعي المنسجم ، الذي يمكن النظام الاجتماعي من العمل بكفاءة اكبر.

كل واحدة من القيم والمعايير والمفاهيم المؤثرة في تكوين الكتلة الاقتصادية ، او التعاون في الاعمال ،  تشكل موضوعا للنقاش ، وتحديد دورها ، سلبيا كان او إيجابيا ، هو الذي يعيننا على تحديد موقع ثقافتنا العامة ، ضمن جبهة التقدم او العكس. ولنا عودة للموضوع في قادم الأيام.

الخميس - 22 صفَر 1445 هـ - 7 سبتمبر 2023 م   https://aawsat.com/node/4531371/

 مقالات ذات علاقة

الثقافة المعوقة للنهضة

حول برنامج التحول الوطني

الخيار الحرج بين الهوية والتقدم

عجلة التنمية المتعثرة

العدالة الاجتماعية كهدف للتنمية

 العدالة الاجتماعية وتساوي الفرص

العلاقة الاشكالية بين السوق والسياسة

كي نتحول الى دولة صناعية

المجتمع السري

معالجة الفقر على الطريقة الصينية

نحو نماذج محلية للتنمية

النموذج الصيني في التنمية

هل نحتاج حقا إلى طريق ثالث ؟



18/01/2023

الثقافة المعوقة للنهضة


" نجم الثاقب خان" اسم معروف في حقل اقتصاديات الدول النامية. وهو ينتمي لتيار صغير من الباحثين الذين اختاروا منهجا مغايرا لنظرية التنمية الكلاسيكية ، السائدة في الاكاديميا وقطاع الاعمال. يركز هذا التيار على فهم العوامل التي أعاقت التنمية في العالم الثالث ، رغم توفر العوامل المصنفة كمقدمات ضرورية للنجاح. بين الأسماء الأخرى ضمن هذا التيار ، نعرف مثلا امارتيا سن ، الفيلسوف والاقتصادي الهندي الذي حاز جائزة نوبل ، والمفكر البيروفي هيرناندو دي سوتو ، الذي بات واحدا من أكثر الكتاب الاقتصاديين تأثيرا في السنوات الأخيرة.

يشترك العلماء الثلاثة في دعوى محورية ، خلاصتها ان الموارد المادية التي تركز عليها نظرية التنمية الكلاسيكية ، متوفرة في كل بلد تقريبا. لكن المتغير المهم هو تعريف هذه الموارد ، ثم موضعتها في المكان الصحيح ، إضافة - بالطبع – الى العلاقة الصحيحة بينها وبين البشر ، الذين يشكلون أداة التنمية وهدفها. وهم يرون ان هذا المتغير متصل بالثقافة العامة السائدة في المجتمع ، ما اذا كانت ثقافة محفزة للنهضة او معيقا.

هيرناندو دي سوتو

في كتابه الشهير "سر راس المال: لماذا تنتصر الراسمالية في الغرب وتفشل في كل مكان آخر" شرح دي سوتو ابرز الأسباب التي تفسر اخفاق النموذج الراسمالي في البلدان النامية. ولايضاح الأرضية المادية لرؤيته ، قدم مراجعة لحالة الملكية الفردية في خمس دول ، بينها الفلبين ومصر وبيرو ، كي يبرهن على استنتاجه المحوري ، وهو ان معظم السكان في هذه البلدان وامثالها ، لديهم حيازات عقارية ، لكنهم لا يملكونها بشكل قانوني ، ولهذا فان استثمارها على المدى البعيد غير آمن ، كما انهم – في غالب الأحيان – لا يستطيعون توريثها. وبالتالي فان ابناءهم لا يعملون معهم ولا يسعون لتطوير هذه الملكية. اما السبب فيعود في رايه الى الثقافة البائسة التي لا تثق في الفرد ولا تسهل عليه امتلاك ما يقوم باحيائه. وجد دي سوتو ، ان الدولة - في البلدان التي درسها - تنظر لنفسها كمالك خاص ، لا كموزع للثروة العامة ومشرف على احياء الميت منها. ومن هنا فان الحيازات الفردية غير المثبتة قانونيا ، لا تمسي أساسا لاستثمار طويل الأمد ، كما ان البنوك لا تقبلها ضمانا للتمويل الضروري للاستثمار ، انها – وفق تعبير دي سوتو – راسمال ميت. راس المال الميت لا يساهم في نهضة اقتصادية. واذا توفرت أموال سائلة فسوف تذهب لقنوات الربح السريع وليس للزراعة او الصناعة او الحرف اليدوية.

يقول نجم الثاقب خان ، في سياق استعراضه لكتاب دي سوتو ان المال ليس قليل الأهمية ، ولا يمكن للثقافة ان تكون بديلا مطلقا عنه ، هذا وجه للقصة. اما الوجه الآخر ، فهو ان المال ليس حلا مطلقا ونهائيا لمشكلة التخلف والفقر. ثمة حاجة للربط بين الموارد المادية وبين الانسان الذي يستعملها. وهذا الرابط ثقافي. المجتمعات التي تنظر للافراد كقوة انتاج رئيسية وموثوقة ، ستميل الى تسهيل تملك الأراضي ، باعتبارها مصدرا لصناعة الثروة.  المجتمعات الفاشلة هي تلك التي تسودها ثقافة تشجع التواكل ، أو تسمح بتضخم الذات وترفض التعلم من الاخر المختلف.

ثم يستنتج بان من خطل الرأي ان نسعى لتكرار التجارب الفاشلة ، التي اختبرتها مجتمعات أخرى قبلنا ، او اغفال الدروس الواضحة لتلك التجارب. وأولها توهم أن مقاومة التغيير سوف تنجح ، او انها ستعود علينا بأي فائدة. كما لن نستفيد أبدا من تلبس دور الضحية ، والانشغال بالبحث عن مؤامرات الأقوياء ، إضافة الى توهم العثور على دواء بسيط يشفي كل الامراض. الصحيح هو ان نبدأ بما عندنا ، وان نتجنب تكرار التجارب الفاشلة ، ثم ان الرهان المطلق ينبغي ان يكون على بناء الانسان المنتج المتفائل ، الانسان الواثق من المستقبل.

الأربعاء - 25 جمادى الآخرة 1444 هـ - 18 يناير 2023 مـ رقم العدد [16122]

https://aawsat.com/home/article/4104026/

  مقالات ذات علاقة

 "عجلة التنمية" المتعثرة 

ارامكو واخواتها : الشفافية الضرورية في قطاع الاعمال

التنمية على الطريقة الصينية : حريات اجتماعية من دون سياسة

حول برنامج التحول الوطني

خطباء وعلماء وحدادون

الخيار الحرج بين الهوية والتقدم

ظرف الرفاهية واختصار الكلفة السياسية للاصلاح

العدالة الاجتماعية كهدف للتنمية

 العدالة الاجتماعية وتساوي الفرص

العلاقة الاشكالية بين السوق والسياسة

العولمة فرصة ام فخ ؟

قرش الخليج الابيض

كي نتحول الى دولة صناعية

كي نتخلص من البطالة

متى تملك بيتك؟

المجتمع السري

معالجة الفقر على الطريقة الصينية

من دولة الغلبة الىمجتمع المواطنة: مقاربة دينية لمبدأ العقد الاجتماعي

نحو نماذج محلية للتنمية

النموذج الصيني في التنمية

هل نحتاج حقا إلى طريق ثالث ؟

02/07/2022

المساواة: النقاشات الحديثة في المفهوم وتطبيقاته

د. ستيفان جوزباث *

 ترجمة د. توفيق السيف

عن موسوعة ستانفورد للفلسفة 

نشرت في مجلة حكمة 2 يوليو 2022


ربما ترغب أيضا في قراءة:

برنارد وليامز:  فكرة المساواة

ديفيد ميلر: المساواة والعدالة

محسن كديور: من العدالة النسبية الى المساواة

ايزايا برلين: المساواة: اشكالات المفهوم واحتمالاته

ستيفن جوزباث: المساواة: النقاشات الحديثة في المفهوم وتطبيقاته

 توفيق السيف: المساواة .. تعريف بالفكرة وبعض تحولاتها

مقالات منوعة حول المساواة

فهرس المقالة:

1- مفهوم المساواة : تعريف

‏2- مبدأ المساواة والعدالة

‏2.1- المساواة الشكلية/الاجرائية

‏2.2- المساواة التناسبية

‏2.3- المساواة المعنوية ‏Moral Equality

2.4-المساواة كفرضية مسبقة

‏3. مفاهيم المساواة التوزيعية: مساواة ماذا؟

‏3.1‏- المساواة البسيطة والاعتراضات على المساواة بشكل عام

‏3.2- الليبرتارية

‏3.3- المساواة في الرؤية النفعية

‏3.4- المساواة في الرفاه

‏3.5- المساواة في الموارد

‏3.6- المسؤولية والمساواتية العشوائية ‏Luck-Egalitarianism

‏3.7 تكافؤ الفرص في الرفاهية أو المنافع

‏3.8- مقاربة القدرات

‏4. المساواة الاجتماعية‏

‏5. المساواة بين من؟‏

‏6. قيمة المساواة: لماذا المساواة؟‏

‏6.1 أنواع المساواة

‏6.2 المساواة مقابل الأولوية أو الكفاية


 

تعالج هذه المقالة مسالة المساواة في تطبيقاتها الاجتماعية والسياسية. نعلم ان مبدأ المساواة ، في جانبه الدعوي prescriptive خصوصا ، محل اختلاف وجدل ، لأسباب عديدة ، من أهمها قوة تأثيره في المشهد الاجتماعي/السياسي ، نظرا لما تتمتع به قيمة المساواة من جاذبية وتأثير على مشاعر الناس ، الأمر الذي جعله عنصرا بالغ التأثير في الخطابات السياسية[1]. ينبغي الاشارة الى الثورة الفرنسية ، التي شهدت طرح مبدأ المساواة ، كواحد من أبرز المطالب الشعبية. منذئذ بات واحدا من أبرز القيم التي تتبناها النخبة السياسية. بديهي ان المطالبين بالمساواة ، يطالبون ايضا بالحرية والعدالة. لكن الواضح ان الحرية والعدالة ، حظيت باجماع أكثر من المساواة ، التي لاتزال حتى اليوم – على الأرجح - المسألة الأكثر إثارة للجدل بين المثل الاجتماعية الكبرى.


كعادة الفلاسفة الذين لا يتركون شاردة ولا واردة من دون تشريح ، فان الجدل في مبدأ المساواة يتناول كل جزء منه وكل عنصر ذي علاقة به ، من المفهوم الدقيق للمساواة ، الى صلتها بالعدالة ، الى موضوعها (المساواة في ماذا) الى المعنيين بها (المساواة بين من ومن) ثم موقعها ضمن الخريطة الشاملة لنظرية العدالة في الاطار الليبرالي (قيمة المساواة). وسنعرض لكل من هذه النقاط بنقاش موجز في هذه المقالة.

1- مفهوم المساواة : تعريف

رغم ما تبدو عليه من بساطة في النظرة الأولى ، فان النقاشات الفلسفية الكثيرة ، تكشف انها أكثر تعقيدا مما تخيلنا. نعلم الآن انه لا يوجد مفهوم واحد للمساواة يتفق عليه الباحثون. وبحسب رونالد دوركين ، فان الذين يمتدحون المساواة أو يعارضونها ، مختلفون من حيث الاساس حول المفهوم الذي يمدحونه أو يعارضونه ، انهم – بعبارة اخرى – يتحدثون عن مفاهيم مختلفة وليس مفهوما واحدا [2]. ولهذا السبب فان مهمتنا الأولى هي البحث عن تعريف واضح للمساواة ، من أجل تلافي الخلط الشائع لمعناها ومفهومها ، لاسيما في النقاشات السياسية.

دعنا نبدأ إذن من المصطلح نفسه. فنشير أولا الى أن تعبير المساواة (=equality في الانكليزية ، isotes في اليونانية ، aequitasaequalitasفي اللاتينية ، égalité في الفرنسية ، و Gleichheit في الألمانية) وكذلك مصطلح سواء equally ومساو equal ، تشير جميعا الى علاقة نوعية بين طرفين أو اكثر.

المساواة (او التساوي) تشير الى مفاعلة / تفاعل بين عناصر مختلفة. قد تكون هذه العناصر اشخاصا أو عمليات أو ظروفا ، تحمل سمات متماثلة في جانب واحد على الأقل ، لكن ليس في كافة الجوانب ، اي انها عناصر مختلفة في العموم ، لكنها متماثلة في بعض الاجزاء. ان المساواة غير التشابه الذي يشير الى تطابق تام بين أطراف العلاقة[3]. ومن هنا فان قولنا بان البشر متساوون ، لا يعني انهم متشابهون. المساواة تعني قدرا من التماثل وليس المطابقة.

الحكم بالتساوي بين طرفين ، يفترض سلفا ان الطرفين مورد المقارنة ، مختلفان. تبعا لهذا التعريف فان تعبيرات مثل "مساواة كاملة" أو "تساو مطلق" ربما ينظر اليها كعبارات اشكالية ، لأنها تخرق الفرضية المسبقة بوجود اختلاف بين الطرفين موضع المقارنة. لا يمكننا ان نطلق وصف "متساويين تماما" على طرفين غير متشابهين. يجب ان يشار على الاقل الى اختلاف موضعهما الزماني أو المكاني. ان لم يكن ثمة اختلاف ولو يسير بين الطرفين ، فلن يمكننا ان نعتبرهما متساويين ، فهما – على وجه الدقة – متشابهان أو متطابقان ، نظير نجمة الصباح والمساء مثلا ، وليسا متساويين. هنا قد يتنوع استعمال الوصف. ولهذا رأى بعض الكتاب ان المساواة النوعية المطلقة مقبولة ، نظرا لأنها تشير الى نوع من الازدواجية في نفس العنصرين محل المقارنة ، فهما مختلفان من ناحية ومتشابهان من ناحية أخرى.

يمكن لتعبير المساواة /التساوي ان ينصرف للمعنى الوصفي والدعوي في آن. حين يقول لك أحدهم مثلا: "انت نحيف" أو "انت نحيف جدا" فانه يقدم وصفا لواقع قائم ، وهو - من جهة أخرى – يطلق حكما على هذا الواقع. كلا المعنيين محمول في نفس اللفظ[4]. غرضنا من هذه الملاحظة ، هو الاشارة الى فرق دقيق بين المقاربة الوصفية ونظيرتها الدعوية. ففي الأولى ترجع المقارنة الى معيار وصفي أيضا (نقول مثلا ان الشخصين متساويان في الوزن) اما معيار المقارنة في المقاربة الدعوية ، فهو – في العادة - عرف أو قاعدة. نقول مثلا: ان الناس متساوون امام القانون (بمعنى يجب ان يكونوا متساوين).

هذا يوضح ان المضمون الدعوي في المساواة ، يشتمل على عنصرين على الأقل:

أ) عنصر وصفي: نظرا لأن التوكيد الدعوي بحاجة لمعيار وصفي descriptive criterion يحدد ويعرف الأشخاص الذين ينطبق عليهم العرف أو القاعدة التي سبق الإشارة اليها. هذا التعريف بمثابة إجابة على سؤال: من من الناس ينتمي لأي صنف؟(الواقع ان هذا السؤال بذاته ربما ينظر اليه كحامل لمضمون دعوي ، كما في سؤال: من الذي تنطبق عليه القوانين الأمريكية)[5].

ب) عنصر قيمي: ان معايير المقارنة (العوامل المشتركة بين أطراف المقارنة) تحوي نوعا من القيم ، التي قد تكون قاعدة قانونية أو اخلاقية ، نظير القانون الامريكي. دور تلك القيم ، هو تعيين الطريقة التي ينبغي اتباعها في معاملة الاشخاص الذين ينطبق عليهم معيار المقارنة. تلك القيم أو القاعدة تنطوي على العنصر الدعوي في المساواة

 نوقشت مسألة المساواة ونقيضها (التمييز/اللامساواة) في دراسات الاقتصاد والاجتماع والفلسفة. السؤال المحوري في الحقل الاقتصادي والاجتماعي ، يتناول كيفية تحديد اللامساواة وقياسها ، وتحليل العوامل المسببة لها والنتائج المترتبة عليها. اما في الفلسفة السياسية والاجتماعية ، فان نقاش المساواة يتناول أسئلة من قبيل: إذا ‏كان تحقيق المساواة مطلوبا ، فما هو نوع المساواة الذي ينبغي السعي لتحقيقه ، ولصالح من ، ومتى؟. مثل هذه الاسئلة ستكون محورا في هذه المقالة.

مفهوم علائقي

رأى بعض الباحثين ان تعبير المساواة equality والمساوي equal اسناد ناقص. فهو يقدم وصفا ، لكنه لا يفصح في ذاته عن موضوع الوصف. ومن هنا فهو – بالضرورة – يثير سؤال: المساواة في ماذا؟. هذا يوضح لنا ان لفظ "المساواة" يشير في حقيقة الامر الى علاقة ثلاثية بين طرفين (او عدة أطراف) وبين صفة (او أكثر).


بيان ذلك: حين نتحدث عن المساواة ، فاننا نشير الى ان الموضوعين أ ، ب متساويان في شيء بعينه ، فوصف المساواة هنا يشير الى علاقة بين تجسيدات هذا الشيء ، عند هذا الطرف وذاك الطرف. كمثل للتوضيح: نقول ان الاشخاص الذين أمامنا متساوون في الراتب ، ونقصد - كما هو واضح - انهم جميعا ، أي (أ) و (ب) يحصلون على الراتب (ت) وان هذا الراتب متماثل. نحن اذن نقيم علاقة مقارنة ، بين هذا الشخص (أ) والشخص الآخر (ب) في موضوع الراتب (ت) ، ونخرج بنتيجة ان الطرفين متساويان.

حين نقارن بين طرفين ، فاننا نضع فرضية مسبقة ، هي وجود قاسم مشترك بينهما ، وهذا القاسم هو موضوع المقارنة. في المثال السابق رأينا ان الراتب هو القاسم المشترك بين أطراف المقارنة. هذا القاسم المشترك يمثل المؤشر أو المتغير variable الذي يرتبط به مبدأ المساواة ، والذي يجب ان يذكر بشكل محدد في كل حالة[6].

المفترض بطبيعة الحال ان نعتبر وجود المؤشر المذكور ، في كلا الطرفين ، دليلا على تساويهما. مع ذلك لا ينبغي اغفال ان هناك افهاما اخرى للمساواة ، قائمة على معايير وصفية أو دعوية. وطبقا لرؤية تيمكين ، فان الناس يستعملون معايير أخلاقية أو عرفية متباينة في قياس المساواة والتفاوت ، ولهذا يصلون الى نتائج مختلفة ، بل ربما يفهمون المساواة والتمايز ، على انحاء مختلفة أيضا[7].

هذا يوضح ان مفهوم المساواة ليس نهائيا ، ولا هو موضع اتفاق بين المفكرين. ثمة مفهومات عديدة ، وبالتالي طرق مختلفة في مقاربة المشكل الرئيس ، اي التفاوت. من هنا فقد يكون من الأفضل ان نفكر في مبدأ المساواة (واللامساواة) ضمن إطار العدالة الاجتماعية ، كمجموع مركب من المباديء التي - في نهاية المطاف – تشكل جوهر المساواتية egalitarianism المعاصرة.

المساواة والتفاوت ، إذن ، مفهومان معقدان ومتعددا الاوجه[8]. لو رجعت الى التاريخ ، فلن تجد معنى او صورة بعينها ، هيمنت على النقاشات الخاصة بالمساواة في الحقل الفلسفي أو السياسي ، في زمن بعينه[9]. ومن هنا فان العديد من المساواتيين يقرون بأن كثيرا من نقاشاتنا حول مفهوم المساواة غامض. مع انهم يتفقون في ملاحظة ان الآراء المختلفة في الموضوع ، تشير – رغم اختلافها – الى خيط مشترك من الهموم والانشغالات الاخلاقية الرئيسية ، تراها منطوية في كل مقاربة أو مفهوم ، وتشكل جزء من بنيته. هذا الخيط المشترك يلعب دورا آخر أكثر أهمية ، أعنى به تذكيرنا دائما بانسانيتنا المشتركة ، مهما كانت الخلافات والاختلافات التي تفرق بيننا[10]. في هذا الاطار فان المساواتية ، كان ينظر اليها في غالب الاحيان ، كعقيدة توجيهية متماسكة ، تحوي في داخلها شريحة متنوعة من المباديء.

سوف اعود في الفصل الأخير لمراجعة تعريف المساواتية الذي أميل اليه ، وعرض قيمتها المحورية. اما الان فسوف استعرض ابرز نظريات المساواة.

2- مبدأ المساواة والعدالة

منذ قديم الزمان ، صنفت المساواة عنصرا أساسيا في تكوين مفهوم العدالة ، نظرا للارتباط الوثيق بين جانبها التوجيهي وبين مباديء الاخلاق والعدالة ، ولاسيما العدالة التوزيعية[11]. وقد استعمل مصطلح العدالة ، في مختلف حقب التاريخ ، كشعار لعامة الناس والجماعات السياسية التي تعارض السياسات المتحيزة والتمييزية. وهذه إشارة واضحة الى أن الفهم العام للمساواة ، يعتبرها مكونا أساسيا لقيمة العدالة ، وان التفريط فيها نقض للعدالة.

هذا يقودنا الى سؤال جوهري: ما هي طبيعة الدور الذي تلعبه المساواة في نظرية العدالة؟.

لقد سعى الفلاسفة إلى تعريف هذا الدور ، من خلال النقاش في مجموعة متنوعة من مبادئ ومفاهيم المساواة. سوف نعرض في هذا القسم أربعة منها ، تتراوح بين مفاهيم شديدة العمومية وغير مثيرة للجدل ، إلى مفاهيم أكثر تحديدا ، و- بطبيعة الحال - مثيرة للجدل. وفي القسم التالي سوف استعرض التصويرات العديدة لما يسمى في ادبيات الحقل "عملة المساواة". لا بد من الاشارة الى ان اختلاف المفكرين في تلك المفاهيم الأربعة ، قاد الى اختلاف مواز في تحديد دور المساواة ومكانتها في إطار نظريات العدالة.

تنطبق المفاهيم الثلاثة الأولى للمساواة ، التي سنعرضها بعد قليل ، على جميع الأفعال والتصرفات تجاه كافة الأشخاص ، وما ينتج عنها من ظروف واحوال. اما المفهوم الرابع وما يليه ، فسوف يركز في المقام الأول على المساواة التوزيعية وتقييم التوزيع.

2.1- المساواة الشكلية/الاجرائية

لدينا شخصان يتساويان في جانب واحد على الأقل (جانب ذو صلة بقيمة الشخص وموقف الآخرين منه). في هذه الحالة يجب معاملة الشخصين على قدم المساواة. هذا هو مبدأ المساواة الشكلية formal equality الذي صاغه الفيلسوف ارسطو:

 "النسبة التي بين الأشياء ، هي أيضا النسبة بين الأشخاص. فاذا لم يكن الأشخاص متساوين ، فلا ينبغي ان تكون انصبتهم متساوية" أي – باختصار – ان الحالات المتماثلة تعامل بالتساوي[12].

هذا الوصف يثير سؤالا ضروريا:

ماهي مصاديق التماثل التي على ضوئها نقرر تساوي الطرفين؟. أي حين نقول ان الشخصين متساويان أو لديهما نقاط تماثل ، فيجب معاملتهما بالسوية.. فما هي نقاط التماثل ذات الصلة بالموضوع؟.

بعض الكتاب رأى في مبدأ المساواة الشكلية ، تطبيقا محددا لقاعدة عقلانية. فحوى هذه القاعدة انه من غير العقلاني ان تميز في المعاملة بين حالات متساوية (لان المقدمة والنتيجة غير متوائمتين) ، إلا إذا ‏كان لديك تبرير مناسب[13]. لكن كتابا آخرين رأوا ان محل الجدل هنا هو مبدأ العدالة الأخلاقي ، المنبعث من حقيقة ان الاحكام الأخلاقية ذات طبيعة جامعة وغير متحيزة ، أي قابلة للتطبيق في كل الأحوال. وفقا لهذه الرؤية فان الفرضية النظرية للمساواة الشكلية ، تتطلب أكثر من مجرد التلاؤم مع التفضيلات الشخصية: ان المعاملة المتساوية أو المتحيزة التي نتحدث عنها ، ينبغي ان تكون مبررة في نظر الأطراف المتأثرة ، وان يكون التبرير مستندا الى سمات موضوعية متصلة بالحالة محل النقاش.

2.2- المساواة التناسبية

وفقًا لأرسطو ، هناك نوعان من المساواة: العددية والتناسبية[14]. المساواة العددية أو الحسابية numerical تعني اعتبار الناس جميعا متساوين ، وهذا يقتضي ان يعاملوا على قدم المساواة ، وان يحصلوا على حصص متماثلة من الخيرات والفرص المتوفرة في المجال العام ، من دون أدنى فرق بين شخص والآخر. يبدو هذا النموذج بسيطا وجيدا ، لكن ارسطو لا يراه عادلا في جميع الأحوال ، ولذا فهو لا يدعو اليه.

اما المساواة التناسبية او النسبية proportional ، فهي تعني ان يعامل الناس تبعا لما يستحقه كل منهم. الاستحقاق هو المعيار أيضا عند تحديد حصة الأشخاص في المنافع والفرص. المساواة العددية تمثل حالة خاصة من حالات المساواة التناسبية. وهي ليست عادلة في كل الأوقات ، بل في حالات بعينها ، أعني حين يتساوى الأشخاص في العنصر ذي الصلة بموضوع المساواة (مثل كونهم جميعا راشدين ، إذا ‏كان موضوع المساواة هو خضوعهم للمسؤولية القانونية. أو كونهم يحملون جنسية نفس البلد ، إذا كان موضوع المساواة هو حق التصويت في الانتخابات). في كلا المثالين ، يتصل حكم المساواة بالموضوع ، وهو سن الرشد أو حمل الجنسية ، فهذان العاملان هما المؤشر أو النسبة التي على ضوئها حكمنا بتساوي الأشخاص المعنيين.

من ناحية أخرى فان المساواة التناسبية تحدد أيضا مفهوم المساواة الشكلية formal equality ، فهي الصيغة الأكثر دقة وتفصيلا لهذا المفهوم. وبالتالي فهي تخبرنا عما يندرج تحت عنوان المساواة ، من مضمون لا يمكن الاختلاف عليه ، حتى لو اختلفنا على كونه – من الخارج – التطبيق الأفضل لمبدأ المساواة.

بناء على التصور الأساسي لمبدأ المساواة التناسبية ، أي اشتراط تساوي الأشخاص سلفا في الجوانب ذات الصلة ، فان معاملتهم وتخصيص الحصص لهم ، سيكون متناسبا مع العوامل التي يتقرر على ضوئها انهم متساوون أو متمايزون. فاذا جرى التمييز بينهم في المعاملة أو التوزيع – بناء على ما سبق – فان هذا التمييز لا يعد نقضا للعدالة.

يمكن لمبدأ المساواة التناسبية ان يندمج في النظريات اللامساواتية ، التي تدعو لنظام اجتماعي هرمي hierarchical. وهي تشير الى ان التساوي في النتائج ، مشروط بالتساوي في المقدمات. الارستقراطيون والكماليون perfectionists والمنادون بربط المكانة الاجتماعية بالجدارة meritocrats ، جميعهم يرون أن تقييم الأشخاص ينبغي ان يتبع استحقاقاتهم. ولأن الاستحقاق مختلف غالبا ، فمن الطبيعي ان تكون التقييمات ، أي تحديد الحصص ، متباينة أيضا. يفهم الاستحقاق على ضوء المعيار المتصل بموضوع النقاش في معناه الموسع.

تنطبق هذه الرؤية على أنواع مختلفة من التعاملات ، نظير المنافع والاعباء ، المكافأة والعقاب ، التي يجب ان تكون متناسبة مع استحقاق الشخص المعني. ان تعريف التناسب هنا لا يحدد من يستحق ماذا ، ولهذا فسوف نشهد قدرا كبيرا من التفاوت حين يتعلق الأمر بالحقوق التي يفترض انها اصلية/طبيعية fundamental/natural ، وكذا الاستحقاقات والقيم worth. وهذا ظاهر في كتابات كل من افلاطون وارسطو.

المساواة التناسبية هي التطبيق العملي لمفهوم العدالة الارسطي. ينطوي هذا المفهوم على رؤية أساسية ، يمكن اعتبارها اطار عمل للمحاججة العقلانية بين فكرة العدالة عند المساواتيين ، وتلك التي يدعو لها معارضوهم. ومحور هذه المحاججة هو السؤال المتعلق بالمساواة الوافية adequate equality. والمفهوم ان كلا الطرفين يقبل العدالة كمساواة تناسبية. تحليل ارسطو يوضح ان المحاججة تنطوي على أساس منطقي ، يتلخص في السمات التي توجب اعتبار الأشخاص متساوين او مختلفين ، وبالتالي مؤهلين للحصول على نصيب متماثل من الحصص التوزيعية ، ام لا.

المساواة الشكلية formal والتناسبية هي ببساطة مخطط مفهومي. ينبغي ملء متغيراته المفتوحة  كي تكون محددة ودقيقة. فرضية المساواة الشكلية ستبقى فارغة ، طالما لم يكن واضحا متى ومع اي نوع من المواصفات ، سنعتبر الاشخاص متساوين. بعبارة أخرى فان كافة النقاشات المتعلقة بالمفهوم الدقيق للعدالة ، اي سؤال: من يستحق ماذا ، يمكن ان تفهم باعتبارها اختلافات حول سؤال: اي الحالات نعتبرها متساوية واي الحالات متمايزة[15].

2.3- المساواة المعنوية Moral Equality

حتى القرن الثامن عشر ، كانت الفرضية السائدة ، هي ان البشر متمايزون بالفطرة والطبع الأولي. وهذا مذهب افلاطون وارسطو. لكن ظهور فكرة الحقوق الطبيعية ، وتبنيها من جانب شريحة واسعة من المفكرين ، قاد الى تهميش تلك الفكرة. افترضت نظرية الحقوق الطبيعية ان للكون نظاما يكفل المساواة بين البشر. وبناء عليه فان المفهوم الكلاسيكي للعدالة يعتبر الفعل عادلا ، إذا اتاح لكل فرد ما يستحقه. ومع مرور الزمن تطور هذا المفهوم ، حتى اتخذ مضمونا مساواتيا بشكل تام تقريبا. وفقا للصيغة المساواتية لمفهوم العدالة ، فان كل فرد يستحق نفس القدر من الكرامة والاعتبار. وهذا هو الفهم الشائع حاليا لما نصفه بالمساواة المعنوية/الاخلاقية ، وهو الفهم الاجمع لمعنى المساواة ، والأكثر مقبولية على المستوى الكوني.

لقد تطور هذا الفهم ، في البداية ، في اوساط الفلاسفة الرواقيين في اليونان القديمة. كان هؤلاء قد تحدثوا عن تساوي كافة الكائنات العاقلة. ثم حصل على زخم أكبر في مسيحية العهد الجديد المبكرة ، التي اعتبرت كافة البشر سواء امام الله ، رغم ان التاريخ اللاحق للكنيسة لم يشهد التزاما تاما بهذا التصور.

توماس هوبز (1588-1679م)
 وحظيت الفكرة بتقدير مماثل في التلمود والإسلام. واتخذت مكانا رفيعا في الثقافة واللغة العربية والعبرية. اما في العصور الحديثة فان نقاش المساواة تحول ، منذ القرن السابع عشر ، الى طور جديد ، حيث تأسس كما أشرنا على ارضية القانون الطبيعي ثم نظرية العقد الاجتماعي. كان توماس هوبز (1588-1679م) قد رأى ان الافراد في المجتمع الطبيعي السابق للدولة ، تمتعوا بمساواة تامة ، لأن كلا منهم بات ، مع مرور الزمن ، قادرا على الحاق الأذى بالآخر ، أي ان ما نسميه الان بتوان القوى بين الجميع ، شكل أرضية لقيام علاقة تكافؤ فيما بينهم. اما جون لوك (1632 – 1704م) فقد ركز استدلاله على حقيقة أن كافة البشر – بمقتضى قانون الطبيعة - يملكون أنفسهم ، ولذا لا يجوز لأحد ان يتصرف فيهم دون رضاهم.

بالنسبة لجان جاك روسو (1712 - 1778م) فان المساواة الطبيعية كانت سائدة في مجتمع الحالة الطبيعية. ثم ظهر التفاوت مع تبلور مفهوم التملك والحيازة ، إضافة الى نزوع البشر للكمال. بعبارة أخرى فان ظهور ونضج فكرة الملكية والكمال ، كانت وراء بروز التفاوت بين افراد الجماعة ، والتلاشي التدريجي للمساواة الطبيعية[16]. يعتقد روسو ان اللامساواة والعنف ، لا يمكن تفاديها الا إذا سلم الجميع أمرهم لنظام تعايش مدني وسيادة شعبية[17].

أما فلسفة ايمانويل كانط الأخلاقية ، لاسيما في إطار مفهومه المسمى "الأمر المطلق categorical imperative" فانها تصنف المساواة كجزء من جوهر الإنسانية وقيمة الإنسان. ان تأملات كانط المتعالية transcendental والأخلاقية ، حول استقلال الذات الإنسانية ، وقابليتها لاختيار ما يمكن ان يكون قانونا للكل ، هذه التأملات تقود للاقرار بنفس القدر من الحرية لجميع الكائنات العاقلة ، واعتبار هذا الاقرار ركنا أساسيا لحقوق الانسان. هذه الأفكار التنويرية حفزت الحركات الاجتماعية الكبرى في العصور الحديثة ، وتم ادراج كثير منها في دساتير الدول واعلانات حقوق الانسان. وخلال الثورة الفرنسية ، أصبحت المساواة الى جانب الحرية والاخاء ، أرضية لاعلان حقوق الانسان والمواطن سنة 1789.

في اي بحث حول المساواة ، ستواجه تعبيرات مثل: "المساواة الانسانية" ، "المساواة الاساسية" ، "التكافؤ" ، أو "الكرامة الانسانية". جميع هذه التعبيرات مرادفات للمبدأ القائل بأن "بني آدم سواء ، لانهم اخوة في الانسانية ولأنهم متماثلون في القيمة. ويجب ان يعاملوا على هذا الأساس"[18].

هذه الفكرة تؤسس للتقدير المتساوي لكل الاشخاص ، والتكافؤ بين جميعهم ، والكرامة المتساوية لكل فرد فيهم ، وهي مقبولة على نطاق واسع. ليس هذا فحسب ، بل هي ايضا ضرورية للاستقرار في المجتمعات المركبة ، لا سيما في عصرنا الحاضر ، حيث يستحيل التوصل الى اتفاق على رؤية واحدة تجمع كافة اعضاء المجتمع ، على ارضية دينية أو غيبية أو تقليدية[19]. مع الاتفاق الاولي بين الجميع على كونهم متساوين ، فان هذه القناعة تشكل أرضية وحيدة ربما ، لتنظيم التعايش المشترك فيما بينهم ، أو العمل المشترك لتحقيق اهداف سياسية. ومن هنا فان "المساواة المعنوية/الاخلاقية" تؤلف ما اسماه رونالد دوركين "السقف المساواتي = egalitarian plateau" لجميع النظريات السياسية المعاصرة[20].

في أيامنا هذه يعتمد غالبية الكتاب ، التصوير الذي اقترحه دوركين، وخلاصته ان المساواة المعنوية هي تقدير الناس واحترامهم باعتبارهم متكافئين في القيمة ، وان لم يحصلوا على نفس المعاملة [21] ، خلافا لمبدأ المعاملة المتساوية لكل الافراد ، الذي يعتبره كثيرون غير معقول. ان تعريف البشر جميعا كأفراد متساوين ، لا يعني ان تعاملهم جميعا على نسق واحد في اي مجال ، عدا تلك التي توجب القواعد الأخلاقية ان يعاملوا فيها على نحو متماثل. بعبارة أخرى ، فاننا بحاجة للتمييز بين الاقرار بالتكافؤ المعنوي والقيمي بين بني آدم كافة ، وبين معاملتهم جميعا على نحو متماثل في كل المجالات.

القول بوجود قواعد أخلاقية توجب معاملة الناس على نحو متماثل ، يثير بذاته خلافات تتناول نطاق فاعلية هذه القواعد ، والمدى الذي يمكن ان تصل اليه ، وكيفية حل التعارضات التي يمكن ان تنشأ عن الاخذ بها. النقاشات الفلسفية متجهة الى نوع المعاملة المتساوية ، المترتبة على قبولنا جميعا بأن كافة بني آدم يتمتعون بكرامة متساوية. ان مبدأ المساواة المعنوية/الأخلاقية شديد التجريد. وهو يحتاج لأن يوضع في صياغة واقعية قابلة للتطبيق المادي ، ان اريد له ان يكون أساسا لمعيار أخلاقي واضح. لكن مع ذلك فانه ليس من السهل استنباط فهم للمساواة العادلة من فكرة المساواة المعنوية. بدلا من هذا فقد نجد افهاما فلسفية متضاربة ، يدعي كل منها انه الشرح الأدق لمبدأ المساواة المعنوية/الاخلاقية. لكن الاقرار بأي منها ، يتوقف على اختبار مدى تطابقه مع النموذج الاعمق لهذا المبدأ[22].

2.4-المساواة كفرضية مسبقة

اذا تعمقت في النقاشات الخاصة بالمساواة ، فسوف تصادف العديد من التعريفات والتصويرات ، المتباينة والمختلفة ، رغم انطلاقها جميعا من فرضية واحدة ، هي اعتبار التساوي بين بني آدم امرا مسلما به. سوف نشرح في الصفحات التالية عددا من المقاربات الأخلاقية الأكثر متانة ، وهي تتعلق تحديدا بالمعايير التوزيعية. نقول هذا في سياق المقارنة مع الفرض الاولي للمساواة ، الذي يعرضها كمبدأ قياسي اجرائي ، متموضع ضمن مستوى جدلي وقياسي اعلى. ما هو على المحك هنا هو سؤال المبدأ ، أي الأساس النظري / الأخلاقي الذي يستند اليه التطبيق المادي للعدالة. ان أهمية المساواة تكمن في دورها كتطبيق مادي لمفهوم العدالة. ربما نستغرق كثيرا في النقاش النظري والفلسفي حول العدالة والمساواة ، لكن كل هذه النقاشات لا تحجب ، ولا ينبغي ان تحجب الفرض الاولي للمساواة ، أي كونها بالتعريف ، مبدأ للتوزيع المتساوي لكافة الخيرات والفرص المهيأة - سياسيا - للتوزيع العام.

ان تحقيق العدالة في المجال السياسي ، يعني في المقام الأول قيام أعضاء المجتمع – بصفتهم هيئة جمعية واحدة - بوضع سياسة عامة للتوزيع المنصف للخيرات المشتركة والفرص المتاحة في المجال العام (=السلع الاجتماعية) ، إضافة الى التحقق من وصول كل مستحق الى حقه من دون اجحاف. هذا يشمل أيضا أي مطالبة من قبل مختلف الأطراف بحصص في السلع الاجتماعية. كما يشمل سياسات التوزيع القائمة فعليا ، التي يجب ان تكون مستندة الى تبرير محايد ، بمعنى ان كافة الحيازات يجب ان تكون مشروعة/مبررة ، كي تحظى باعتراف الهيئات الاجتماعية.

بعبارة أخرى ، فان تطبيق فرضية التكافؤ الأولي في المجال السياسي ، ينصرف الى معنى محدد ، هو الإقرار بان لكل عضو في المجتمع السياسي ، حق في حصة متساوية من أي توزيع للسلع الاجتماعية ، ما لم يكن ثمة اختلافات محددة ذات صلة ، تبرر اللامساواة في التوزيع ، اختلافات مسندة الى أسباب أو معايير مقبولة عند الجميع[23].

ينتج عن هذه الفرضية مبدأ أولي ، هو التوزيع المتساوي لكافة السلع الاجتماعية القابلة للتوزيع. من المهم الاشارة هنا الى ان مبدأ التوزيع المتساوي ، لا يعني تطبيقا لنفس المعنى في كل الحالات دون استثناء ، بقدر ما يستهدف تثبيت القاعدة الاساسية في العلاقة بين اعضاء المجتمع السياسي ، اي العلاقة القائمة على ارضية التكافؤ والمساواة. ومن هنا يمكن القول ان العدول عن المساواة التوزيعية ممكن احيانا ، لكنه يستدعي – اخلاقيا – تقديم مبرر مناسب للاستثناء من القاعدة. وبطبيعة الحال فان على الراغبين في الاستثناء أو الداعين له تقديم هذا المبرر[24].

توفر فرضية التكافؤ الأصلي فرصة جيدة لبناء نظرية العدالة التوزيعية. إذا ‏انطلقنا منها ، فكل ما نحتاج التركيز عليه هو تحليل الظروف والعوامل ، التي ربما تبرر المعاملة التمييزية ، أو التوزيع غير المتساوي للسلع الاجتماعية. في الصفحات التالية سوف اعرض بايجاز ، المسلمات الرئيسية التي تنصرف اليها فرضية التكافؤ الاصلي ، والتي تعد من الضرورات الاخلاقية في عالم السياسة المعاصر.

المساواة الصارمة مطلب ضروري في المجال القانوني للحريات المدنية. فباستثناء العقوبات القانونية التي تتضمن سلب الحرية أو تضييقها ، فانه لا يوجد اي استثناء من المساواة التامة في الحريات المدنية. يقتضي مبدأ المساواة الشكلية formal equality ان يتمتع كافة المواطنين بحقوق عامة متساوية ، كما يتحملون واجبات عامة متساوية ، مستندة الى قانون عام ينطبق على جميع المواطنين. هذا ما نسميه المساواة القانونية. وعلى نفس المنوال فان فرضية الحريات المتساوية ، صحيحة هي الاخرى: لكل شخص نفس القدر من الحرية ، يستخدمها بها في تنظيم حياته ، ويتمتع بها الى الحد الأقصى المستطاع في نظام اجتماعي سلمي.

يتجسد هذا المعنى في المجال السياسي على شكل تمكين لكافة المواطنين ، من المشاركة المتساوية في تشكيل الراي العام ، والسياسات المتعلقة بتفويض السلطة ومراقبة اعمال المفوضين ، فضلا عن الحق في الترشح للمناصب السياسية ودعم المرشحين. يطلق على هذا اسم "تساوي الفرص equal opportunity ". بديهي ان تمتع المواطنين بفرص مساوية للتنافس في المجال السياسي ، يتطلب تصميم مؤسسات الحكم في المجتمع السياسي على نحو يفسح المجال لمشاركة الجميع ، بمن فيهم الاشخاص الاقل قدرة على المنافسة في الميدان السياسي ، لأسباب تتعلق بالعجز البدني أو قلة الدخل وامكانات التأثير. مثل هؤلاء قد لا تمكنهم ظروفهم من تبوء مناصب سياسية رفيعة ، لكن مهما كان حالهم فيجب أن يجري تمكينهم من ايصال اصواتهم واسماعها للجميع.

المناصب والأدوار يجب ان تكون متاحة للتنافس المتساوي ، بين كافة المواطنين المؤهلين والموهوبين. ينبغي ان يكون لكل من هؤلاء فرص متساوية بقدر الامكان ، لنيل اي منصب أو دور في المجال العام يتطلع اليه ، سواء انتمى للطبقات العليا أو جاء من بيئة فقيرة. نطلق على هذا النوع من المساواة اسم "التساوي في الفرص الاجتماعية". نعلم طبعا ان التنافس المتكافيء على الفرص ، لا ينتج – بالضرورة – تساويا في المناصب بين المتنافسين. والحق انه لا يوجد حل مرض لهذه المسألة. فالناس – بحسب طبائع الامور – متمايزون في مؤهلاتهم وتناسبها مع ما هو مطلوب لهذه الوظيفة أو تلك ، وكذلك في سعيهم ونشاطهم وقدرتهم على التطور والارتقاء. لكن ما يجب التأكيد عليه دائما ، هو ان اي تفاوت لاحق ، يجب ان يكون ناتجا عن تنافس منصف. وليس اختلاف البيئة الاجتماعية. اي ان ما هو مهم هو اتاحة الفرصة المتساوية للجميع ، حتى لو انتهى التنافس الى تفاوت في الحظوظ والنتائج. ان تفاوت الكفاءات ، عامل مقدر ولا يمكن انكار تأثيره.

المساواة في المجال الاقتصادي تبدو أكثر تعقيدا ، إذا أخذنا بعين الاعتبار العوامل العديدة التي تؤدي الى تفاوت ، مع انها مقبولة في فرضية التكافؤ الاولي ، نظير ما ذكرناه للتو من تفاوت المؤهلات والكفاءات وتفاوت الجهد الشخصي. هذا بالطبع كان مثار جدل واسع بين المفكرين ، جدل يتناول في المقام الاول طبيعة ومحتوى الاستثناءات ، التي تبرر العدول عن المساواة التامة في الفرص والسلع الاجتماعية. ويشكل هذا احد المسارات البارزة للجدل حول الفهم الملائم للمساواة التوزيعية وما يسمى "عملة المساواة"[25].

فيما يلي نعرض بعض العوامل التي تعد مبررات مقبولة للعدول عن المساواة وقبول التمييز:

1-     الحاجة أو عوامل الاعاقة الطبيعية (مثل العجز البدني والذهني).

2-      الحقوق والمطالبات القائمة (نظير الحق المنفرد في الاملاك الخاصة).

3-     تفاوت الافراد في القدرة على انجاز خدمات خاصة (نظير الاستحقاق ، الجهود الاستثنائية ، التضحيات).

4-     الكفاءة.

5-     التعويض الناشيء عن تمييز بنيوي مباشر أو غير مباشر (نظير سياسات التمييز الايجابي affirmative action).

لكل من هذه العوامل دور اساسي في نظريات العدالة التوزيعية ، التي تنطلق من اصل المساواة. ان الاختلاف بين هذه النظريات ، راجع في الغالب الى اختلاف تقديرها لكل من العوامل المذكورة ، ومقدار الثقل الذي تمنحه اياها في تكوين فكرة العدالة. تقترح هذه النظريات معالجات مختلفة لموضوع المساواة (اي ما الذي يجب مساواته في المجال الاقتصادي) سنعرضها فيما يلي من صفحات. لكن لا بد من الاشارة الى ان جميعها ينطلق من الاقرار بالمساواة كفرضية مسبقة في اي حديث عن العدالة. هذا لا ينفي – بطبيعة الحال – وجود عدد قليل من نظريات العدالة التي لا تنطلق من اصل المساواة ، بل من مسلمات اخرى نظير المساواة التامة والليبرتارية.

3. مفاهيم المساواة التوزيعية: مساواة ماذا؟

ان أي جهد لشرح مصطلح المساواة ، أو تطبيق مباديء المساواة التي جرى الحديث عنها ، يتطلب ميزانا دقيقا للتحقق من موضوع المساواة والعناصر التي يدور حولها الجدل ، اي ما يدعى عملة المساواة. نحتاج ايضا لمعرفة الابعاد التي نعتبر السعي للمساواة في اطارها ، متناسبا مع المعايير الاخلاقية ذات الصلة بالموضوع. سوف نقدم فيما يلي عرضا موجزا عن سبعة من التفسيرات المشهورة لمفهوم المساواة التوزيعية ، كل منها يقترح جوابا لسؤال اساسي: ما الذي يجب توزيعه بالتساوي ، أو "عملة المساواة"، وما هي معايير التوزيع.

3.1- المساواة البسيطة والاعتراضات على المساواة بشكل عام

ما يطلق عليه عادة "المساواة البسيطة" يعني على وجه الدقة ، ان يحصل كل الاشخاص على نفس المستوى المادي من السلع والخدمات. هذا المفهوم الذي يبدو شديد البساطة ، يصنف – في اطار نقاشات العدالة التوزيعية – كواحد من مفاهيم المساواة المتشددة. ولهذا السبب فان غالبية الباحثين يتجنب الأخذ به ، باعتباره غير قابل للصمود في النقاش.

جورج برنارد شو (1856-1950)

ومن هنا فانك لا تجد أحدا من المطالبين بالمساواة البسيطة (الصارمة في حقيقة الأمر) بين الكتاب البارزين والتيارات السياسية الكبرى. ربما نستثني من هذا التعميم كلا من فرانسوا بابيوف Francois Babeuf[26] وجورج برنارد شو George B. Shaw[27]. لا بد أيضا من التأكيد على أنه لا الشيوعية ولا الاشتراكية ، طالبت بالمساواة الاقتصادية المطلقة ، على الرغم من كون المساواة تحتل موقعا مركزيا في خطابهما الايديولوجي والسياسي ، وعلى الرغم من معارضتهما الشديدة للفقر والاستغلال ، ومطالبتهما بالتأمين الاجتماعي لكافة المواطنين. وقد شرح كارل ماركس المنظور الشيوعي للمساواة في رسالته المعنونة "نقد برنامج غوتا 1875".

يعارض كارل ماركس المساواة البسيطة رجوعا الى ثلاثة عوامل:

1: ان هذا النوع من المساواة ، يتلاءم مع عدد محدد من القيم والمعايير ويهمل الأخرى. ومن هنا فان تأثيره سيكون محدودا بنفس القدر. يعتقد ماركس ان البناء الاقتصادي ، هو الأساس الأعمق أثرا في التطور التاريخي للمجتمع. ومن هنا فهو المرجع الرئيس لتفسير سمات النظام الاجتماعي ووظائفه.

2: ان نظريات العدالة ركزت بشكل مفرط ، على الجانب التوزيعي من العملية الاقتصادية. وكان عليها ان تركز بنفس القدر ، على الأسئلة المتعلقة بالانتاج ، لأن نمط الانتاج – في رأي ماركس - عامل حاسم في تحديد العلاقات الاجتماعية والقيم الناظمة لها.

3: يخص مستقبل العالم ، في حال طبقت النظرية الشيوعية على النحو الذي تأمله واضعوها. حيث يعتقد ماركس ان المجتمع الشيوعي المنتظر قيامه في المستقبل ، لن يحتاج الى العدالة ولا القانون ، فهذه المفاهيم ضرورية لحل المشكلات الناشئة عن تعارضات المصالح والنزاعات الاجتماعية. لكن المجتمع الشيوعي سيكون خاليا من نزاعات المصالح ، ولذا فلا حاجة لتلك المفاهيم.

لم تنجح فكرة المساواة البسيطة إذن. ليس لعلة خاصة بها ، بل لمشكلات تتعلق بمبدأ المساواة في العموم. وأرى ان من الضروري مناقشة هذه المشكلات ، لانشاء مقاربة معقولة ، تقود الى سياسات مساواتية قابلة للتطبيق. تتلخص ابرز تلك المشكلات فيما يلي:

أولا : سوف نحتاج في المقام الأول الى مؤشرات مناسبة ، لتحديد مقادير السلع الاجتماعية المطروحة للتوزيع. وأول هذه المؤشرات ، هو المفهوم الذي على ضوئه نعرف المساواة واللامساواة. من الواضح لدينا ان التوزيع المتساوي للسلع المادية ، يمكن ان يقود الى نتائج متباينة. فليس متوقعا ان يكون كافة المتلقين راضين بالحصة التي تلقوها. من هنا فربما يرجح اعتماد التوزيع النقدي. فالمال مؤشر نموذجي ومألوف ، رغم انه غير كاف. في نهاية المطاف نحتاج لصرف فكرة "الفرص المتساوية" الى معنى أكثر تحديدا.

ثانيا: ينبغي تحديد الفترة الزمنية ، التي يفترض ان ينجز في اثنائها النموذج المفضل للتوزيع المتساوي[28]. يمكن تصور هذا النموذج على اشكال مختلفة. ربما نقسم السلع الاجتماعية موضوع التوزيع ، على حياة الفرد بكاملها. أو ربما نفكر في ان حياة الفرد تنقسم في حقيقة الامر الى مقاطع مختلفة ، فنعمل على ضمان التوزيع المتساوي بين هذه المقاطع.

ثالثا: احدى المشكلات التي ترتبط بالمساواة ، هي ما ينتج عنها من اضعاف لحوافز الانتاج. المثال البسيط الذي يذكر هنا هو ما قد يقوله موظف مبدع ونشيط: "في نهاية المطاف إذا ‏كان كل الناس سيحصلون على نفس العائد ، فلماذا أرهق نفسي فوق ما يفعله الآخرون؟". أضف الى هذا ، ان التوزيع المركزي المخطط يتطلب إقامة هيئات خاصة. وهذه تستدعي كلفا إضافية ، فوق ما نعرف من علة عامة في نظم الإدارة المركزية ، من قلة كفاءة وهدر للموارد[29]. (كان التوزيع المركزي ابرز العيوب التي شابت نظام الاقتصاد الاشتراكي ، الذي يركز على المساواة في المقام الأول).

ينبغي إذن العمل على ضمان الطرفين: المساواة والكفاءة ، وانشاء موازنة معقولة ، كي لا يذهب احدهما ضحية الآخر. طريقة الموازنة الأكثر شيوعا في هذا السياق ، لا سيما بين الاقتصاديين الذين تعرضوا للمسألة ، هي أمثلية باريتو Pareto-optimality. [30] وفقا لهذه الرؤية فان الظرف الاجتماعي يعتبر مثاليا بحسب معيار باريتو Pareto-efficient حينما يكون جميع اعضاء المجتمع في حالة تساو في المنافع ، بحيث لا يمكن العدول الى حالة أخرى (حالة أفضل في رأي شخص واحد على الأقل من بينهم ، دون الاضرار بشخص آخر). في هذه الحالة يعتبر الظرف مثاليا ، بمعنى ان جميع الموارد الاقتصادية المتاحة ، مستغلة بالفعل[31]. مبدأ باريتو هو الأكثر شيوعا. لكن ثمة بدائل له تستقطب قدرا غير قليل من النقاش. أبرز تلك البدائل هو معيار الرفاهية Kaldor-Hicks efficiency الذي اقترحه نيكولاس كالدور وجون هيكس ، وفحواه ان ارتقاء الرفاهية الاجتماعية قابل للتحقق ، حين يميل التوازن بين المنافع المترتبة على توزيع السلع الاجتماعية ، وبين الكلف المقابلة ، لصالح الطرف الأول ، أي - بعبارة أخرى - حين نحصل على منافع أكثر بكلفة أقل.

إذا أمكن تحقيق هذه المعادلة ، فان التغيير سيكون مرغوبا. فهو يحقق المعادلة الصعبة: ان يحتفظ الرابحون بالجزء الاعظم مما كسبوه في هذه النقلة ، وفي الوقت نفسه يحصل الخاسرون على تعويض عن خسائرهم. يعتبر مبدأ التعويض ميزة هامة في معيار كالدور- هيكس ، تجعله أكثر جاذبية من معيار باريتو[32]. لقد وضعت هذه النماذج النظرية للكفاءة المثالية ، من أجل تسهيل التحليل الاقتصادي لقضايا التوزيع. وهي تجعلها بالفعل أكثر يسرا.

على انه لا ينبغي اغفال حقيقة ، ان اي تحليل يتأثر بالظرف الذي يجري فيه. كما يتأثر بالحالة الخاصة لنقطة البداية ، التي قد تتسم بعدم المساواة أو عدم العدالة. من هنا فقد يمكن للمجتمع ان يقترب من حالة الكفاءة الاقتصادية أو أمثلية باريتو ، حيث لا يمكن لأحد ان يزيد حرياته (خياراته) أو مكاسبه المادية ، من دون ان يتسبب في تقليل ما يقابلها عند غيره. يمكن ان يكون المجتمع في حالة كهذه ، ويكون في الوقت نفسه منطويا على حالات فاضحة من اللامساواة ، في توزيع الحريات والسلع الاجتماعية.

لهذا السبب يجادل المساواتيون ، بأن الأمر قد يقتضي وضع حد أعلى لتطبيق أمثلية باريتو Pareto-optimality من اجل إبقاء التوازن العادل بين أطراف المجتمع ، حين لا يكون ثمة إمكانية لتوزيع متساو في إطار المعيار نفسه ، أي حين لا يكون الثمن المقابل لزيادة الحصة لبعض الأشخاص ، هو انخفاض الحصة المقابلة عند أطراف أخرى.

ان النقد الأبرز لهذه الرؤية ، هو قول من قال بأنه لا يصح ان يفسر مبدأ المساواة ، في معنى إبقاء بعض الناس ضمن مستوى اقتصادي أدنى مما يستطيعون تحقيقه ، لو اجتهدوا وافسح لهم المجال. إذا ‏كانت المساواة ستؤدي الى اجبار بعض الناس على عدم الاجتهاد ، للارتقاء والاستزادة من المنافع المادية التي يجنونها بجهدهم الخاص ، فان هذه مساواة غير مفيدة ، لأن ناتجها النهائي هو بقاء الجميع ضمن مستوى منخفض. بينما الخيار المعاكس هو تمكين بعضهم من الارتقاء ، ولا شك ان ارتقاء البعض خير من عدم ارتقاء أحد على الاطلاق.

رابعا: الاعتراضات الأخلاقية: التسوية التامة بين جميع الأفراد في حصص التوزيع ، قد لا تحقق العدالة على الوجه الصحيح. لأنها لا تأخذ بعين الاعتبار ، وعلى نحو ملائم ، الفروقات والحالات المختلفة لأولئك الافراد. نعلم ان الناس يختلفون في حاجاتهم وميولهم ، هذا يستدعي ملاحظة ما يحتاجه كل فرد ، بدل ان نعطي كل الناس شيئا واحدا ، وكأن حاجاتهم جميعا واحدة. خذ مثلا الشخص المريض ، الذي نعلم ان لديه حاجات غير الشخص السليم ، فهل نعتبر ان المساواة تقتضي ان نعطي كلا الشخصين سريرا في المستشفى ، مع ان الثاني لا يحتاجها؟. أو نعطي كلا الشخصين فرصة وظيفية واحدة ، مع وضوح ان مرض الشخص الأول يعيقه عن استثمار هذه الفرصة؟.

ان المساواة البسيطة تقود الى تحديد وتقليص الحريات بصورة غير مقبولة. كما تتجاهل الضرورة الملحة لملاحظة الفوارق بين الافراد ، كمنطلق للتعامل معهم تعاملا يحقق الغايات السامية للمساواة والعدالة. في حقيقة الامر فان المساواة البسيطة ، قد تقود في بعض الحالات الى تمييز ولامساواة ، تحت عنوان المساواة. أضف الى هذا ، ان الافراد يملكون حقا أخلاقيا ، يوجب على الاخرين احترام حاجاتهم. ليس هذا فحسب ، بل يملكون أيضا حقا في القيام بأمورهم الشخصية ، كما يتحملون المسؤولية عن قراراتهم وما يترتب عليها من نتائج.

بالنظر لهذا الاعتراض ، فقد اتجه كثير من المساواتيين المعاصرين الى اتخاذ موقف مبدئي ، يرفض الربط بين العدالة التوزيعية والمساواة البسيطة. وهم يبررون هذا الموقف على الوجه التالي: ان البشر أنفسهم مسؤولون عن بعض اشكال اللامساواة الناتجة عن خياراتهم. في حالات كهذه فان المنطق يقول بان أولئك الاشخاص ، لا يستحقون تعويضا عما يتسببون فيه من تفاوت أو لامساواة ، فيما عدا الحد الأدنى من المساعدة الضرورية في الحالات الطارئة (انظر ايضا مناقشتنا للمساواتية العلائقية في القسم الرابع). لا نقول طبعا انهم لا يستحقون اي شيء. فهم – بموازاة ما سبق ذكره – يستحقون التعويض عن اللامساواة التي ليست نتاجا لخياراتهم الخاصة. بالنسبة للمساواتيين فان العالم سيكون أفضل من الناحية الاخلاقية ، إذا ‏سادت المساواة في كل جوانب الحياة. حياة كهذه أقرب الى نموذج مثالي غير متبلور تماما ، وهو يحتاج بطبيعة الحال الى المزيد من التوضيح والتحديد.

بدل المساواة البسيطة ، فان غالبية المساواتيين يدعمون اشكالا مختلفة من تساوي الفرص ، أي المساواة في البداية ، وليس المساواة في النهاية. يفهم هذا من تشديدهم على اثنين من العناصر التي يعتبرونها محورية أخلاقيا: أولها ان الافراد مسؤولون عن خياراتهم ، وثانيها أن ما يعتبر موضوعا للمساواة ، هو فقط الأشياء التي تلبي الرغبات الواقعية للأفراد. الفرص التي ينبغي مساواتها بين الناس ، قد تكون فرصا لجودة الحياة (عوامل موضوعية للارتقاء بمستوى المعيشة) ، أو لعلها فرص لتلبية الرغبات (التفضيلات الشخصية لنوعية الحياة) ، أو فرص للمساواة في الموارد. المساواة هنا لا تتعلق بالعوامل الموضوعية أو التفضيلات الشخصية لجودة الحياة في ذاتها ولا في الموارد بذاتها ، بل المساواة في فرص الحصول على كل من هذه الأشياء التي نفترض ان كل انسان يتطلع الى نيلها.

ان تحقق المساواة مشروط بكون موضوعاتها المذكورة ، متاحة كخيار لكل فرد ، على نحو يناظر تماما الخيارات المتاحة لبقية الأفراد ، أي كونهم جميعا امام احتمالات متساوية في الحصول على العوامل الضرورية لتحقيق جودة الحياة ، أو تلبية التفضيلات الشخصية ، أو حيازة الموارد. ولا تعد الفرص متساوية حقا ، الا إذا ‏كان ممكنا للأفراد ان يحصلوا عليها ويستثمروها. تساوي الفرص في جوهره هو توفر الخيارات والإمكانات للجميع ، على نفس المستوى وبنفس الكلف.

خامسا: في معظم الحالات ترتبط المساواة البسيطة بالمساواة في النتائج (على رغم الاختلاف بين المفهومين). ونعلم ان السعي للمساواة في النتائج مشكل حقا. لتوضيح النقطة موضع الاشكال ، دعنا نقصر نقاشنا على فعل واحد وما يترتب عليه من وقائع:

من القضايا الجدلية انه لا ينبغي الحكم على الأفعال ، بالاستناد حصرا الى القيمة الأخلاقية لما ينتج عنها ، رغم اننا متفقون على أهمية العلاقة بين قيمة الفعل وقيمة ما يترتب عليه. بيان هذه المفارقة يكمن في الفصل بين الفعل ونتائجه ، باعتبار ان لكل منهما حكمه الخاص. قد تكون النتائج ممتازة ، لكن الطريق الذي اوصلنا اليها في غاية السوء ، ولهذا نعلم ان الغاية لا تبرر الوسيلة. النتائج القيمة يجب ان نتوصل اليها بوسائل سليمة ومقبولة أخلاقيا. يجب الاخذ بعين الاعتبار أيضا نية الفاعل ، وكونها نية خير ، حيث ان الباعث يترك اثره على قيمة الفعل وما ينتج عنه[33].

كمثال على هذه المفارقة: لو ضربتني فسوف أتألم. شعوري بالألم يعد سيئا في حد ذاته. لكن الوصف الأخلاقي لفعلك ليس كذلك ، فهو يعتمد على علاقتي بك وما إذا ‏كان لديك تجويز (أخلاقي) للقيام بمثل هذا الفعل ، كأن تكون والدي مثلا (مع ان فعل الوالد هنا لا يخلو من نقاش) أو لأنك مضطر للضرب (مثل ضابط الشرطة الذي ضربني كي يمنعني من إيذاء الآخرين). ما هو صحيح في أفعال الافراد (او تقاعسهم عن الفعل) ينبغي ان يكون صحيحا أيضا في أفعال المؤسسات الاجتماعية ، مع ملاحظة الفوارق واختلاف الظروف ، نظير التوزيع الناتج عن فعل جمعي للمجتمع ككل (او تقاعس جمعي عن الفعل). من هنا فان تقييم المؤسسات الاجتماعية ، لا ينبغي ان يعتمد بشكل حصري على البيانات الخاصة بتأثيرها على حياة الأفراد. ان مجتمعا يعاني أعضاؤه من الفاقة وربما يتضور بعضهم من الجوع ، هو بالتأكيد مجتمع ينطوي على التمييز واللامساواة. هذا من حيث الوصف العام. لكن لو اردنا تحديد قيمته الأخلاقية ، فقد لا يكون من السهل اعتماد نفس البيانات السابقة ، في الحكم عليه بانه عادل أو ظالم. ذلك ان تحديد القيمة الأخلاقية يستدعي أيضا معرفة أسباب المعاناة.

لمعرفة أسباب المعاناة ، نحتاج للتحقق مما إذا ‏كان المجتمع يسمح بها كتأثير جانبي لمشروع توزيعي يعتبره أعضاء المجتمع عادلا (من دون ان يكون هذا التأثير مقصودا بذاته). بل لعلنا نتساءل عما إذا ‏كان المجتمع يبرر المعاناة باعتبارها وسيلة ضرورية ، كما في بعض اشكال الداروينية الاجتماعية[34]. وهل اتخذ المجتمع إجراءات للخلاص من المعاناة ، لكن تلك الإجراءات أخفقت في بلوغ غايتها؟. في هذه الحالة ، هل اتخذت هذه الإجراءات انطلاقا من بواعث أخلاقية ام لتحسين الكفاءة؟. فهذا النوع من البواعث له قيمة غير النوع الآخر.

هذا يوضح ان المساواة في الناتج ، تمثل حتى بالنسبة للمساواتيين ، موردا للتركيز أحادي البعد وشديد الضيق.

سادسا: اخيرا ثمة خطر من ان المساواة الصارمة ربما تقود الى التضحية بالتنوع والتعددية ، وكلاهما سمة اصيلة للممارسة الديمقراطية ، ينبغي احترامها على اي حال[35]. ان التيار الأكثر اهتماما بهذه الحجة في النقاشات المعاصرة حول المساواة ، هو التيار الداعي لنظرية سياسية نسوية feminist أو تعددية multiculturalist. يجدر القول في هذا الصدد ان النظرية السياسية النسوية ، تنطلق من فرضية رئيسية فحواها ان الفارق الجنسي gender له دور مؤثر ، في الوقت الحاضر كما الماضي ، في تكريس علاقة التفاوت التي تغذي نظام الهيمنة (الذكورية). والامر نفسه يقال عن الفوارق العرقية والاثنية ، التي لازالت تلعب دورا فعالا في تحديد منظومات قيم متمايزة للأكثريات والاقليات ، أو الاعراق المهيمنة وتلك الخاضعة للهيمنة. نعلم ان المجموعات المدافعة عن حقوق الاقليات والنساء ، نشأت أساسا للاحتجاج على ما تعانيه من تمييز وتهميش واخضاع. ومن هذا المنطلق كان يفترض ان تكون "المساواة البسيطة" استجابة مثالية لمطالبها. لكن تلك الجماعات تحاجج بأن المساواة ، كما تفهم وتمارس ، تنطلق – جزئيا – من انكار للفوارق والتصنيفات ، ولهذا فقد لا تكون فعالة في تغيير نظام العلاقات الاجتماعية القائم على الهيمنة.

"المساواة" في معناها المتعارف ، قد تعني غالبا ادماج الجميع في الانماط السائدة أو المهيمنة ، اي "الذكور" ، "البيض" ، "الطبقة الوسطى". هذا الفهم الشائع جزء من المشكلة. ذلك ان علاقات الهيمنة والتمييز ، لا تنشأ عن الاخفاق في النظر الى الناس كمخلوقات متماثلة ، بل تنشأ عن الاخفاق في تقدير الفروقات بين شرائح المجتمع ، ورعايتها كعنصر طبيعي في حياة البشر. ان استيعاب هذه الفروق ، لا ينبغي ان يقود الى رؤية جوهرانية essentialism مبنية على السمات الجنسية أو الثقافية. ثمة جدل واسع وحرج بين اولئك الذين يصرون على استبعاد الفروق الجنسية والعرقية والاثنية ، واعتبارها غير ذات موضوع ، وبين هؤلاء الذين يعتقدون ان هذه السمات ليست غفلا ولا هي مختلقة ، بل ينبغي النظر اليها كسمة ذات بعد ثقافي ، لكنهم مع ذلك يرفضون اعتبارها اساسا مناسبا للتفاوت أو مبررا للامساواة.

البديل في رأي هؤلاء هو السعي لايجاد آلية مناسبة ، لضمان المساواة على رغم الفروقات المحترمة. هذه المقارنة توضح ان أيا من الفريقين لا ينكر المساواة أو يرفض تطبيقها. موضع النزاع بينهما يتركز في كيفية انجاز متطلبات المساواة. 

مايكل والزر

التحفظات السابقة الذكر حملت عددا من المفكرين ، على السعي لمقاربات أكثر استيعابا لعناصر التعارض ، التي تواجه المساواة البسيطة. من بين هذه المقاربات نشير الى نظرية مايكل والزر التي اطلق عليها اسم "المساواة المعقدة = complex equality". وفقا لرؤية والزر فاننا حين نفكر في موضوع التوزيع المتساوي ، فسوف نجد ثمة مبررات ذات صلة ، ترجح توزيع سلع اجتماعية محددة في مجالات محددة ، وليس في عدة مجالات ولا كل المجالات. يظهر تأثير هذا المسلك عند تطبيق نظرية المساواة البسيطة ، التي تميل للتوزيع المتساوي للسلع المهيمنة ، على نحو يقلل من شأن المعايير المعقدة الفاعلة في كل مجال بذاته ، الامر الذي يستدعي انهاء هيمنة سلع بعينها. على سبيل المثال يعتبر المال قوة شراء متعارفة في المجال الاقتصادي. هذه القوة يجب حظر استعمالها في المجال السياسي ، مع العلم بانها استعملت في بعض الاحيان[36].

نظرية والزر في المساواة المعقدة لا تتعلق بالمساواة في ذاتها ، بل تستهدف في المقام الاول فصل المجالات المختلفة للعدالة. ومن هنا فقد يقال ان تسمية النظرية مضلل بعض الشيء. على اي حال فان الفكرة الاساسية التي دفعت والزر الى هذا الخيار ، هي رغبته في تفادي الفهم الاحادي ، والاقرار بما تنطوي عليه الحياة من تعقيد ، إضافة الى تنوع معايير العدالة.

أخذا بعين الاعتبار هذه الرؤية ، فاننا بحاجة لتطوير تصور مركب/معقد عن المساواة ، يحل محل المساواة البسيطة ، من اجل معالجة الاشكالات التي ذكرت اعلاه ، عن طريق تمييز طبقات متنوعة من السلع ، والفصل بين المجالات ، اضافة الى التفريق بين المعايير المتصلة بموضوع التوزيع والمستفيدين منه.

3.2- الليبرتارية

تمثل المدرسة الليبرتارية واختها الليبرالية الاقتصادية ، الاتجاه التقليلي minimalist في نقاشات العدالة التوزيعية. جوهر هذا الاتجاه هو القول بأن كل شيء قد يكون طيبا ، شرط ان لا يتبعه تدخل الدولة في حياة الناس ، على نحو يقلص حرياتهم الفردية ، أو يحد من تصرفهم في املاكهم الشخصية. ومن هنا فان نقطة الخلاف الرئيسية بين هذا الاتجاه وبين دعاة المساواتية ، هي قبول هؤلاء بفرض ضرائب تستهدف إعادة توزيع الثروة ، أو مساعدة الأقل دخلا.

ويستند دعاة الليبرالية الاقتصادية والليبرتاريون الى موقف جون لوك ، وفحواه أن الحرية والملكية الفردية ، حق أصلي ثابت لكل انسان. ومن هنا فهم يدافعون عن مبدأ السوق الحرة ، مقابل مبدأ إعادة التوزيع والحقوق الاجتماعية[37]. ويشدد هؤلاء على التعارض الواقعي بين الحرية والمساواة ، قائلين ان لكل فرد حق طبيعي في الحرية ، غير قابل للتقليص أو التحديد ، الا من أجل صيانة السلام في محيطه. ولهذا السبب يعتقد الليبرتاريون ان المهمة الوحيدة للدولة ، هي صيانة النظام العام. ويشددون على الحق الطبيعي في ملكية الانسان لنفسه (الذي يتجسد في صورة حقه المنفرد في التصرف في جسده ، وفي إرادته الخاصة وفي عمله..الخ). هذا الحق المنفرد يتمدد الى الأشياء التي لم يسبقه الى حيازتها اشخاص آخرون ، حيث يحق له ان يتملكها إذا ‏عمل فيها ، على نحو يزيد من قيمتها ، نظير زراعة الأرض وصيد السمك.. الخ.

وفقا لما أطلق عليه "شرط جون لوك Locke’s proviso" فانه يمكن للأفراد تملك الأشياء ، شرط ان يبقى من مثلها قدر جيد وكاف للآخرين. وانطلاقا من تركيزهم على الحقوق الفردية ، فان الليبرتاريين يدافعون عن حرية الاقتصاد والتجارة ، ويعارضون السياسات التي تستهدف تحقيق العدالة الاجتماعية بالمفهوم المساواتي ، الذي يتضمن في الغالب إعادة توزيع الثروة من خلال الضرائب. ان الاعتراض الرئيسي على النظرية الليبرتارية ، هو ان تفسيرها لشرط جون لوك (الذي يقول بان التملك الأولي لشيء من جانب شخص ما ، صحيح ، شرط ان لا يؤدي الى الاضرار بشخص آخر ، على نحو يجعل حاله أسوأ مما كان عليه قبل ذاك). هذا التفسير سينتهي بالنظرية الليبرتارية الى نتيجة في غاية الضعف ، الأمر الذي يجعلها غير مقبولة[38]. على أي حال فان معالجة اكفأ واوسع أفقا ، لما نقصد بقولنا ان شخصا بات أسوأ حالا من الآخر ، سوف يجعل من العسير جدا تبرير الملكية الفردية ، فضلا عما يترتب عليها من حقوق. إذا ‏كان شرط جون لوك يتضمن اقرارا بالنطاق الكامل للمصالح والبدائل المترتبة على ملكية الذات ، فانه لن يولد اي حقوق مطلقة على كميات الموارد غير المتساوية.

ثمة اعتراض اخر على الموقف الليبرتاري ، فحواه انه إذا ‏كانت انجازات الفرد هي ما يجدر الاهتمام به ، كما يجادل الليبرتاريون ، فان النجاح يجب ان لا يعتمد على الحظ أو المواهب الطبيعية الاستثنائية ، أو المكانة والاملاك الموروثة. بعبارة اخرى فان تساوي الفرص يجب ان يكون حاضرا ، على اقل التقادير كموازن ، لضمان ان الكائن الانساني هو الذي يقرر مصيره ، وليس الظروف الاجتماعية التي لا يد له فيها. هذا يوضح ان مفهوم تساوي الفرص هو الصيغة الغامضة ، التي يتكرر ظهورها في كل تصوير مساواتي للعدالة الاجتماعية. (بمعنى ان فكرة الفرص المتساوية وغموضها هي السبب في المشكلة وليس التصور الليبرتاري ذاته-المترجم). لكن لابد من القول بان كثيرا من المساواتيين يتمنون التوصل الى ما هو اعلى من هذا القدر ، وبالخصوص المساواة في المستوى الاساسي من شروط الحياة.

زبدة القول انه ، مع غض النظر عن فكرة الحرية السلبية في مفهومها المتشدد ، يلزم القول ان الليبرالية الاقتصادية ، ربما تمهد الطريق نحو قدر أرفع من المساواة الاقتصادية والاجتماعية. لأنه ، حين نغض الطرف عن الحرية السلبية المتشددة كما سلف ، فان ما يبقى على المحك ليس فقط تأكيد الحق المتساوي في الدفاع عن النفس ، بل ايضا تمتع كل فرد بنفس الفرص المتاحة ، للاستفادة الفعلية من حقه في الحرية. بعبارة اخرى فان قدرا محددا من السلع الاساسية ، يجب ان يتوفر كضمان للقيمة العادلة ، أو "القيمة المنصفة للحريات الاساسية"[39].

3.3- المساواة في الرؤية النفعية

يمكننا تفسير الرؤية النفعية بأنها تجسيد للمساواة المعنوية/ الاخلاقية ، من خلال منح نفس القدر من الاحترام والرعاية لمصالح كافة البشر من دون تمييز .

انطلاقا من المنظور النفعي القائل بأن " كل انسان يحسب واحدا ، ولا احد يحسب أكثر من واحد"[40] فان مصالح كافة الناس يجب ان تحظى بنفس التقدير ، ومن دون نظر الى طبيعة هذه المصلحة أو تلك ، ولا صفة صاحبها أو انتمائه أو وضعه المادي. ويعتقد النفعيون ان هذا يعني بان كافة المصالح الشخصية المعقولة ، ينبغي ان ينظر اليها كأجزاء لمصلحة عامة واحدة ، وان الفعل الأكثر انصافا بالنسبة اليها هو الفعل الذي يؤدي الى مضاعفتها.

تعرض مفهوم التعامل المتساوي للنقد ، من جانب العديد من معارضي النظرية النفعية عموما ، انطلاقا من الاعتقاد بأنه ليس واسع الافق بما يكفي.

يرى معارضو النفعية – لا سيما في نموذجها الكلاسيكي – ان الأمل في تحقيق المساواة المعنوية/الاخلاقية ، سيكون ضعيفا إذا اعتمدنا المنظور النفعي. ذلك ان مفهوم المنفعة واسع الى حد الغاء الفروقات الفردية وميول الأفراد. تفترض المدرسة النفعية ان كافة التفضيلات والرغبات لكافة الناس ، يجب ان تؤخذ بعين الاعتبار ، بما فيها التفضيلات الانانية[41] لأنها ذات قيمة متماثلة للجميع ، حتى لو أدت لانتقاص حقوق الاخرين ونواياهم.

هذا الفهم يبدو متعارضا مع ما تعارفنا عليه ، حين نطلق وصف "التعامل المتساوي" في الحياة اليومية. الذي على المحك هنا ليس بالأمر السهل ، تنطوي تلك المحاججة على مذاق مكلف جدا وعدواني: لا يمكن للشخص ان يتوقع ان يحترم الاخرون رغباته ، إذا ‏كان ثمنها التضحية برغباتهم الخاصة[42]. الاصح ان يقال ، تبعا للقناعة العامة ، بان المعاملة المتساوية تتطلب على الدوام قاعدة من الحقوق المتساوية ، والموارد التي لا يمكن ان يحرم منها اي شخص ، مهما كانت رغبات الآخرين وميولهم.

ينسجم هذا الاعتراض مع رؤية جون رولز القائلة بان العدالة هي الأصل فلا قيمة لأي منفعة ان تعارضت مع قيمة العدالة[43]. وفقا لهذه الرؤية فان التفضيلات الشخصية غير المبررة ، لا ينبغي ان تحجب عن انظارنا قيم التكافل الجمعي واعتماد الناس ، واحدهم على الآخر. مفهوم "المعاملة المتساوية" ينبغي ان يصرف الى معنى محدد ، وهو ان لكل شخص حق في حصة منصفة ، لا أن جميع المصالح لها نفس الوزن. وهذه قاعدة هامة ، يبرز دورها فيما لو اقتضى الأمر تغليب منفعة الاخرين ، والتضحية بحصتي من اجل ذلك. ليس في وسع النفعيين الاقرار بأي قيد على مصالح قائمة على ارضية اخلاقية أو عادلة. وطالما بقيت النظرية النفعية مفتقرة الى مبدأ للعدالة والتخصيص المنصف للمصالح ، فانها ستكون عاجزة عن إدراك هدفها في معاملة كل فرد على قدم المساواة. وكما قال رولز في مجادلة شهيرة[44] ، فان النفعية التي غفلت عن حقيقة كون الافراد منفصلين عن بعضهم ،  غفلت عن استحالة التعامل مع كمجموع من دون سمات أو ميول فردية مختلفة ، لن يكون لديها تفسير مناسب للمساواة الاخلاقية في معنى التقدير المتساوي لكل فرد.

3.4- المساواة في الرفاه

منطلق التفكير في مفهوم الرفاهية المتساوية ، هو حدس فحواه ان الموضوع الواقعي للأخلاق السياسية هو رفاهية الأفراد. ان اي حديث حول الاخلاق في السياسة ، لا ثمرة فيه ، ما لم يكن محور اهتمامه هو المنافع التي يحصل عليها الافراد ، جراء تطبيق سياسات الدولة. ومن هنا فان المعيار الرئيس لعدالة السياسات الرسمية ، هو حصول الجميع على مستوى متماثل من الخدمات العامة. لكن صرف معنى المصالح والمنافع الى "ما يجب تقديمه للجميع على قدم المساواة" يقود الى اشكالات تشابه تلك التي تنسب الى المذهب النفعي. لو اختار المرء على الدوام نمطا من المصالح غير متفق عليه أو مثيرا للجدل ، فسوف يكون من غير المعقول اعتبار تفضيلات الافراد جميعا متساوية. بعض تلك التفضيلات قد تنطوي على ارتكاب أخطاء بحق الغير ، وهي ممنوعة في إطار مفهوم العدالة (انظر مثلا الحجة المعروفة بحجة الذوق المهين[45]). في نفس السياق يمكن القول ان أي مفهوم للمساواة في الرفاه ، يسمح بمنح موارد إضافية للأشخاص ذوي الذوق الرفيع والمرتفع الكلفة ، سيكون متعارضا مع حدسنا الأخلاقي (حجة الذوق المكلف)[46].

أيا كان الأمر فان الرضا المتولد عن تحقيق الرغبات ، لا يصح اعتباره معيارا standard ، بالنظر لأننا نتطلع لما يتجاوز الشعور البسيط بالسعادة. ان المعيار الأكثر واقعية للرفاهية المقارنة ، هو النجاح في تلبية التفضيلات[47]. وعندئذ فان التقييم المنصف لمثل هذا النجاح ، لا ينبغي أن يكون شخصيا تماما ، بل يستدعي التحديد المسبق لقيمة او طبيعة ما نريد التوصل اليه أو ما يمكن تحقيقه. هذا بذاته ينطوي على فرضية مسبقة حول التوزيع العادل ، ولهذا فلا يمكن له ان يؤخذ كمعيار مستقل للعدالة.

بالإضافة الى الاشكالات السابقة التي تواجه مقاربة "المساواة في الرفاه" ثمة اشكال جدي آخر ، يواجه كافة مفاهيم المساواة التي محورها الرفاه. ويتناول هذا الاشكال اخفاق تلك المقاربات في معالجة مفهوم الاستحقاق desert وكذا مسؤولية الفرد عن رفاهيته الشخصية ، معالجة معقولة وقادرة على تفكيك الاشكال[48].

3.5- المساواة في الموارد

أبرز من تبنى مفهوم المساواة في الموارد ، هو جون رولز ورونالد دوركين. تحاول المقاربة المنبعثة من هذا المفهوم ، تفادي الإشكالات الواردة على "مساواة الرفاه" السابقة الذكر.

وفقا لهذه الرؤية فان الفرد مسؤول عن خياراته وقراراته وأفعاله. لكنه لا يتحمل العواقب المترتبة على ظروف تتجاوز نطاق سيطرته أو قدرته على التحكم. من ذلك مثلا ان الفرد لا يستطيع تحديد العرق الذي ينحدر منه ، كما لا يحدد جنسه أو لون بشرته ، أو معدل ذكائه أو مرتبته الاجتماعية. وبناء عليه فانها لا تقبل اعتماد هذه العوامل ، كمعايير مؤثرة في توزيع السلع الاجتماعية.

من ناحية أخرى فان هذه المقاربة تعتبر مبدأ الفرص المتساوية غير كاف لتحقيق العدالة ، لأنه لا يلحظ الفوارق في القابليات الطبيعية ، التي تؤدي بدورها الى تفاوت بين الافراد في القدرة على استثمار الفرص المتاحة. العدالة في توزيع الفرص ، توجب تعويض الأشخاص الذين لديهم مواهب طبيعية اقل من منافسيهم. وبشكل عام فان أي فارق مؤثر في استثمار الفرص ، يجب معالجته بتعويض الأقل حظا ، سواء كان الفارق ناتجا عن نقص في المواهب الطبيعية او في الظروف الاجتماعية ، لأن آثارهما متماثلة ، ولأن كلاهما - من وجهة النظر الاخلاقية – قهري واعتباطي ، لا يد للانسان في ظهوره او اختفائه او مقداره.

وفقا لرؤية جون رولز ، فان جميع الناس لهم الحق في مقدار متساو من السلع/الخيرات الأساسية ، أي السلع التي تخدم مختلف الأغراض[49]. هذا لا يعني أبدا ضمان ان تكون النهايات متساوية للجميع. ما سيكون لديك في نهاية المطاف ، يتأثر – زيادة او نقصانا – بخياراتك وقراراتك الاقتصادية. وهذا من طبائع الأمور ، ولا يمكن تلافيه.

امارتيا سن

اذا اردنا بيان هذه الفكرة على النحو الذي شرحه رولز ، فان نقطة البداية هي ضمان مستوى متساو من الحريات والحقوق الاساسية للجميع ، وهذا الضمان يحظى بأهمية قصوى. بعد ذلك يسمح بالتفاوت ويعتبره عادلا ، إذا ‏لبى شرطين:

 أ) ان يتعلق التفاوت بمناصب ومواقع مفتوحة ومتاحة للجميع ، تحت شروط الانصاف وتساوي الفرص.

ب) ان تجسد "مبدأ الفرق" الشهير ، في منح أعظم امتياز ممكن لأفراد المجتمع الأقل حظا. في غير هذه الحالة ، سيكون ضروريا اعادة النظر في النظام الاقتصادي.[50]

بالنظر للحجة الخاصة بكون المواهب الطبيعية اعتباطية أو تعسفية في المنظور الاخلاقي ، فان المعايير المتعارفة للكفاءة (مثل الانتاجية ، ساعات العمل ، الجهد الشخصي) تعامل كمعايير نسبية. يسمح مبدأ الفرق للموهوبين بمكاسب تزيد عن غيرهم ، الى الحد الذي يساهم في رفع المستويات الدنيا للدخل. يقول رولز في خصوص البنية الاساسية للمجتمع: مبدأ الفرق يجب ان يؤخذ به في ظل "حجاب الغفلة" الذي يختاره الناس بأنفسهم ، الغفلة عن ظروفهم الشخصية والتاريخية والعوامل المماثلة المؤثرة على قرارهم. إن الغاية من "مبدأ الفرق" هي الموازنة بين حدين خطرين:

أولهما: الخضوع كليا للمخاطر المتأتية من وضعية سوق حرة ، حيث يمكن ان يسحق الضعفاء تحت عجلات الماكنة الهائلة للسوق التي لا ترحم.

الثاني: المساواة التامة في التوزيع ، والتي ستكون – لا محالة – مفتقرة للكفاءة ، وحيث سيكون المستوى العام للمعيشة أدنى مما سيناله اولئك الاقل حظا في إطار "مبدأ الفرق". إذا ‏سمح بالتفاوت على النحو المذكور فان الجميع سيدير حياته على نحو أفضل من نظام المساواة التامة.

نظرية جون رولز في العدالة ، تعد اليوم محور النقاشات المعاصرة في الفلسفة السياسية. لذا سيكون مفيدا ان نشير الى المبررات التي تدعم ادعاء النظرية بانها مساواتية egalitarian:

أ‌)        الفرضية التي ينطلق منها جون رولز هي ان لدى بني آدم ميزة ، تشير الى كونهم - من حيث الطبيعة والاصل الأولي - متكافئين في القيمة. هذه الميزة هي قابليتهم في المستوى الاولي على الأقل ، لفهم الخير والاحساس بالعدالة ، أي التمييز بين الحسن والقبيح من الأفعال والأشياء.

ب‌)   في "الوضع الأصلي original position " للإنسان ، ليس ثمة تفاوت بين شخص والآخر في القيمة. لاثبات ان هذا ما يشعر به الانسان فعليا في الوضع الأصلي ، يقترح الاستعانة بالآلية الافتراضية التي اسماها "حجاب الجهل veil of ignorance" وهي عبارة عن لحظة انفصال ذهني وشعوري عن وضع الانسان الراهن ، بما فيه من انتماءات ومصالح وعناصر استقطاب ، كي يعود مجرد إنسان. في لحظة الانفصال تلك ، لن يرى الانسان نفسه سوى نظير لكل انسان آخر ، بلا فرق ولا تفاوت.

ت‌)   ينطلق رولز – كما نعرف - من فلسفة العقد الاجتماعي. وبناء عليها فان فكرة "الوضع الأصلي" التي تمكن الناس من النظر الى حقيقتهم كبشر فقط ، تفترض سلفا ان جميع الناس يعيشون ظرفا تتوفر فيه المساواة السياسية ، وانهم بصدد اختيار المباديء التي على ضوئها ستقوم حكومتهم.

ث‌)   يدعو رولز الى المساواة المنصفة في الفرص.

ج‌)     فيما يخص التفاوت المتوقع نتيجة لاختلاف المؤهلات وما يتبعها من استحقاقات ، فان هذه الاستحقاقات يجب ان تكون معرفة ومحددة في اطار نظام المجتمع ، ومرتبطة بأهدافه. يرى رولز ان المواهب الطبيعية والظروف المساعدة لا توجب أي استحقاق ، لأنها نتاج لما اسماه باليانصيب/الحظ الطبيعي natural lottery ، أي ان صاحبها لم يكن له يد فيها أو فضل.

ح‌)     "مبدأ الفرق difference principle" الذي يعد ركنا من أركان نظرية رولز ، يميل الى إيجاد حالة من التساوي في الأملاك.

مع الأخذ بعين الاعتبار هذه النقاط ، فانه من المفيد ان نشير ، كما فعل شيفلر أيضا[51] ، الى ان المحور الذي ركز عليه جون رولز في نظريته ، هو العدالة ذاتها. أما الفهم المساواتي للعدالة فقد كان ثانويا الى حد ما. إضافة الى هذا فانه بالنظر لكون الموضوع الأولي للنظرية هو البنية الأساسية ، فان العدالة الإجرائية البحتة حظيت بأولوية على العدالة في التوزيع أو التخصيص. وتبعا لهذا فان المساواة ، لم تكن القيمة الوحيدة التي اعتمدها رولز في تكوين نظريته. هذا ما يخص رؤية جون رولز.

اما رونالد دوركين فان رؤيته للمساواة في الموارد ، تدور حول المساواة بحد ذاتها. وهو يؤكد انها حساسة لتطلعات الافراد ambition-sensitive لكنها غير حساسة لمواهبهم الطبيعية endowment-insensitive. وفي هذا السياق ، اعتبر التوزيع غير المتساوي للموارد ، ظالما ، الا إذا كان نتاجا لخيارات وافعال مقصودة ، قام بها الأشخاص المعنيون.

لدعم فكرته ، يقترح دوركين ما اسماه "اختبار الغيرة the envy test" الذي يبدأ بمزاد افتراضي hypothetical auction يوفر للجميع فرصة لحيازة ما يستطيعون من الموارد ، اعتمادا على أدوات دفع متساوية. بهذه الصورة لن يشعر أحد بالغيرة ، إذا حصل غيره على كمية اكبر أو افضل مما حصل عليه. تتوفر ضمن اجراءات المزاد ، طريقة للقياس الدقيق للمساواة في الموارد: المساواة في الموارد المكرسة لحياة شخص ما ، تعرف من خلال اهمية هذه الموارد للآخرين[52].

تطور التوزيع في السوق الحرة ، تعتمد على طموحات الافراد. ومن هنا فان أشكال اللامساواة التي تظهر ، ربما تكون مبررة ، لأن كل فرد مسؤول عن المآلات التي تنتهي اليها خياراته وافعاله الارادية. وفي المقابل فان اللامساواة غير المبررة ، والراجعة الى اختلاف المواهب الذاتية ، أو الناتجة عن صدفة غاشمة ، ينبغي ان تعوض نتائجها من خلال نظام للتأمين الافتراضي. يوضع هذا التأمين – وفقا لتصور دوركين – من وراء "حجاب الجهل" الخاص به ، كي يوزع لاحقا في الحياة الواقعية على كل شخص ، ويجمع من خلال أنظمة الضرائب. يعتقد دوركين ان هذا هو المفتاح لجعل "اليانصيب الطبيعي" متوازنا الى حد معقول ، على نحو يحول دون ما اسماه "استعباد الموهوبين" من خلال إعادة التوزيع على نحو مفرط.

3.6- المسؤولية والمساواتية العشوائية Luck-Egalitarianism

قليل من المساواتيين تقبل الفكرة القائلة بأن اللامساواة قبيحة في حد ذاتها. أما أغلبية المساواتيين المعاصرين فانهم تعدديون يميلون لتقبل قيم أخرى موازية للمساواة تأخذ مكانها. بالنسبة لمن يسمون بالمساواتيين العشوائيين/ مساواتية الحظ luck-egalitarians فان الأهمية الاخلاقية للاختيار والمسؤولية عن الخيارات ، تعتبر احدى المصاديق البارزة للقيم التي توازي المساواة من حيث الأهمية[53]. ويرى هؤلاء انه من القبيح - بمعنى غير منصف أو غير عادل – ان يكون أحد الأفراد أسوأ حالا من غيره ، نتيجة ظروف أو تحولات أو أخطاء لا يد له ، فيها وليس مسؤولا عن وقوعها[54]. ومن هنا فهم يكافحون لاستئصال العوامل السلبية التي لا يعد المتضررون منها ، مسؤولين عما تحملوه من ضرر بسببها ، بمعنى انها لم تكن ثمرة لخياراتهم الحرة أو افعالهم الارادية.

 ان اعتماد مبدأ المسؤولية يوفر لنا معيارا مركزيا ، كي ننظر في صور المعاملات المختلفة ، المساواتية والتمييزية ، ثم نقرر الارضية التي يمكن ان تسمح بمعاملة تمييزية (لامساواة) لكنها في الوقت عينه مبررة ، وفقا لقيمة العدالة. لهذا المبدأ صيغتان ، سلبية وإيجابية:

** تتطلب الصيغة الايجابية لمبدأ المسؤولية الانطلاق من فرضية ان كل شخص مسؤول عن خياراته وافعاله الارادية ، وان اللامساواة الناتجة عن خيارات الاشخاص ، لا تعد ظلما لهم. وبناء على هذا فان حالات التوزيع غير المتساوي للسلع الاجتماعية ، والناتج حصرا عن قرارات وافعال مقصودة من جانب المعنيين بها ، لا تعد نقضا لمبدأ العدالة. حيث انه من الواجب على الافراد ان يتقبلوا الكلف الناتجة عن قراراتهم. قد يكون الافراد مسؤولين عن حالات التمييز التي تترتب على قراراتهم الطوعية ، وهم لا يستحقون اي تعويض نظير هذا التمييز. هذا لا يشمل بطبيعة الحال ما يتقرر تحت عنوان الإغاثة ، التي تقدم للأفراد في حالات الحاجة الشديدة (سنتعرض لهذا تاليا).

** في صيغته السلبية ، يقرر مبدأ المسؤولية ، أن اللامساواة التي ليست ثمرة اختيار حر من جانب الشخص المعني ، سوف ترفض باعتبارها ظالمة. وتبعا لهذا فان الاشخاص الذين يتعرضون للخسارة نتيجة لذلك النوع من الحوادث ، يستحقون تعويضا عما اصابهم. اذ ليس من العدل ان يؤاخذ الانسان عن فعل لا يد له فيه ولا يسعه القيام بشيء إزاءه. جدير بالذكر ان الفرضية الأولية في كل حدث ، تنسب المسؤولية للفاعل ، لا سيما في حال الشك. لكن كل حالة تعامل بمفردها. ان القاعدة هي ان الانسان – من حيث المبدأ - مسؤول ومحاسب ، الا إذا ‏ظهر دليل يؤكد الوجه المعاكس[55].

الحظ الغاشم

يولد بعض الناس ولديهم عيوب عقلية أو بدنية ، مثل الشلل أو العمى أو ضعف الادراك. بينما يولد آخرون ببنية بدنية قوية وذكاء ، ربما يتجاوز اقرانهم. نعلم ان العيوب في الحالة الأولى ، ستؤدي – في الأعم الأغلب - الى حصول صاحبها على نصيب أدنى ، في الترتيب الاجتماعي وفي نيل المكاسب. بينما سيحدث العكس في الحالة الثانية. نعلم أيضا ان الشخص الأول لا يد له في سوء حظه ، ولا هو مسؤول عما يجري له بسبب تلك العيوب ، كما ان الثاني لا يد له في الصفات التي ولد بها ، والمكاسب التي ربما تترتب عليها.

هذا الوصف ينطبق تماما على أولئك الذين ساءت حظوظهم أو تحسنت ، في سياق حياتهم الاجتماعية. بعض الناس مثلا يذهبون ضحايا لنزاعات عائلية أو اجتماعية ، فيخسرون فرص التقدم في الحياة ، رغم كونهم مؤهلين. وآخرون تتحسن حظوظهم ، لأن ظروفا خارجية تغيرت فانتفعوا منها ، دون ان يبذلوا أي جهد بدني أو ذهني. زبدة القول ان الناس قد يتعرضون لعوامل تجعلهم أحسن حظا أو بالعكس ، مثل الجنس ولون البشرة ومكان الميلاد ، وأمثالها. هذه العوامل قد تكون طبيعية (خلقية) وقد تكون انعكاسا لما يجري في البيئة الاجتماعية. وقد صنفت ضمن ما اطلق عليه المفكرون اسم اليانصيب الطبيعي lottery of nature وهي تتوزع على الناس بشكل اعتباطي تماما ، بحيث لا يمكن نسبتها الى قرار الشخص أو خياراته[56].

زبدة القول انه لا ينبغي احتساب المواهب الطبيعية والاجتماعية ، ضمن العوامل المؤثرة على حصة الفرد من السلع الاجتماعية. بخلاف القرارات الطوعية والافعال الارادية للشخص ، التي يجب احتسابها. ومن هنا فان النظام الاجتماعي يعتبر عادلا ، عندما يأخذ بعين الاعتبار كلا العاملين ، وذلك بالتعويض عن الأثر السلبي للعيوب الشخصية التي لا يد للشخص فيها ، وتحميل الافراد مسؤولياتهم عن الانعكاسات المترتبة على قراراتهم وافعالهم الارادية.

نختتم هذا القسم باشارة موجزة الى جوانب النقد ، الذي تعرضت له المقاربة المسماة "مساواتية الحظ الغاشم brute-luck egalitarianism". وهو نقد توجه الى كافة صيغها ، وتوزع على محورين:

المحور الاول : فريق من الناقدين ركز على رفض دعاة المقاربة ، لمبدأ التفاضل بناء على الجدارة merit. وقالوا ان انكارهم هذا المبدأ راديكالي وغير مبرر. كما انتقدوا اعتراف "مساواتية الحظ" بالاستحقاق desert ، وهو اعتراف مشروط بأن يكون ذلك الاستحقاق ثمرة لفعل منفرد من جانب الشخص نفسه ، منذ البداية حتى النهاية (اي ان لا يكون للمجتمع أو العوامل الطبيعية دور وتأثير ملموس في تكوين هذا الاستحقاق)[57]. هذا التصور – وفقا لناقدي المساواتية – يدمر مفهوم الاستحقاق في الصيغة الكلاسيكية المتعارفة عند الناس ، نظرا لأن كل شيء في عالمنا ، له اساس أو منطلق لم نساهم نحن في إنشائه. وقبولنا بتلك الصورة المتطرفة ، يعني الالغاء التام لمبدأ الاستحقاق[58] ، لأن تلك الصورة مستحيلة في الواقع. الى جانب هذا فان الاخذ بالصورة المتطرفة ، سوف يدمر هويتنا الشخصية ، لأننا لن نتمكن أبدا من نسبة الفضل لأنفسنا في أي شيء على الاطلاق ، سواء صنعناه بأيدينا أو شاركنا الآخرين في صنعه ، بل لن نستطيع حتى نسبة كفاءاتنا وقدراتنا الخاصة لأنفسنا ، لأننا لم ننفرد ببنائها ، بل شارك المجتمع والناس الآخرين بقدر أو بآخر في تطويرها وبلورتها.

المحور الثاني: رأى فريق آخر من الباحثين ان معيار المسؤولية الذي تتبناه مساواتية الحظ شديد القسوة ، بل ربما غير انساني. لأن الناس الذين يتهمون بالمسؤولية عن سوء حظهم وحالهم ، سوف يتركون لأقدارهم ، وفقا لفرضية تلك الرؤية. على خلاف هذا فان انصار المساواتية التعددية pluralistic egalitarians قادرون على المحاججة بانه ثمة حالات بعينها ، يتعرض الناس فيها لبؤس شديد ، بحيث لا يمكن انكار حاجتهم للعون ، حتى لو كانوا قد تسببوا هم انفسهم في البؤس الذي وصلوا اليه. مثل هذه الحالة يعتبرها المساواتيون جديرة بالعون. ومثلها أيضا حالات البؤس التي لم تكن نتيجة قرار الفرد أو افعاله الارادية ، اي ما يطلق عليه اسم "الحظ الغاشم" مثل ان يولد الانسان معوقا أو مريضا.

رأى دعاة المقاربة المسماة "مساواتية الحظ الغاشم" ان هذه الحالات تستحق العون. لكن ناقديهم يقولون ان هذا الاعتبار ، الذي استهدف فيما يبدو تخفيف النقد الموجه لأولئك الدعاة ، ليس نابعا من رؤية واسعة للعدالة ، بل هو مجرد تعبير عن الشفقة. معالجة قضايا العوز الاستثنائي التي من النوع المذكور ، يجب ان تنظم من جانب الدولة في إطارها الخاص ، الذي يركز - في المقام الأول - على إغاثة الملهوف ، أيا كان نموذج المساواة التوزيعية المعتمد. هذا هو الأمر الجاري فعليا ، رغم ان بعض الباحثين ربما يعترض على قيام الحكومة بجمع البيانات الخاصة بهذه الشريحة من المواطنين التي تعاني من العوز ، بالنظر لما يؤدي اليه ذلك من خرق لخصوصيتهم ، فضلا عن وضعهم تحت وصاية رجال الحكومة[59].

3.7 تكافؤ الفرص في الرفاهية أو المنافع

يمكن فهم المقاربات المبنية على ارضية تساوي الفرص equality of opportunity ، باعتبارها مراجعات للمقاربتين السابقتين ، اي المساواة في الرفاه welfarism والمساواة في الموارد resourcism. تنطلق مقاربات "تساوي الفرص" من اعتراض مبدئي على مساواة الرفاه ، ومحاولة لتفادي سقطاتها ونقاط ضعفها. ومن هنا فقد استعانت بمبدأ الاختيار والمسؤولية ، وأدمجته في اشكال متعددة من المساواتية ، كي تخرج بما يمكن اعتباره نسخة مساواتية مطورة أو محسنة. تستهدف هذه المقاربات موازنة النواتج المترتبة على عوامل قهرية (اي خارج المدى الذي تسمح به الامكانات الطبيعية للأشخاص أو ظروفهم). كما تدعو الى اعتماد تفضيلات الافراد ورغباتهم ، لتلافي اغفال المنظور الفرداني الذي يؤكد على قيمة الشخص وتمايزه.

وفقا لرؤية ريتشارد ارنيسون ، فان التفضيلات التي تحدد مقدار جودة الحياة للفرد ، ينبغي ان تفهم على نحو افتراضي hypothetical ، بمعنى ان الشخص سوف يقرر مدى ما يحصل عليه من جودة حياة ، بعد جولة من التأمل النظري. وفيما يخص جانب المسؤولية ، التي تشكل العنصر المقابل لحق الاختيار الفردي ، قرر دعاة هذه المقاربة ان ما ينبغي موازنته من المكاسب المتوقعة للفرد ، ليس رغباته على وجه التحديد ، بل الفرص الواقعية للحصول على سلع أو حيازتها ، بالقدر الذي يتطلع الفرد اليه[60].

طرح جيرالد كوهن مفهوما اوسع للمساواة في الوصول الى المزايا equality of access to advantage. يحاول هذا المفهوم إدماج منظورين ، هما المساواة في الرفاهية والمساواة في الموارد ، من خلال اعطاء اولوية لمفهوم المزايا advantage [61]. ويرى كوهن ان هناك اساسين للتعويض المساواتي:

الأول: يوافق المساواتيون على توفير كرسي ذي عجلات wheelchair للشخص المعاق ، بغض النظر عن مستواه المعيشي أو الرفاهي. هذا الجواب المساواتي على الاعاقة ، مقدم على مفهوم تكافؤ فرص الرفاهية.

الثاني: يتقبل المساواتيون فكرة التعويض عن حالات مثل الألم ، بغض النظر عن اي عوامل أخرى. فهم مثلا يقبلون بتوفير الادوية الباهضة الثمن للمرضى المحتاجين. يرى كوهن ان هذا التعويض ، غير قابل للتبرير دون العودة الى فكرة تساوي الفرص في الرفاه. ومن هنا فانه ينظر لكلا الجانبين ، مساواة الموارد والرفاه ، باعتبارهما ضروريين ولا يمكن اختزالهما.

اما المحاججة التقنية التي قدمها جون رويمر[62] فقد تركزت على بناء ميزان لتحديد المدى الذي يمكن نذهب اليه ، حين نصف شيئا بانه نتاج ظرف قسري لا يد للفرد فيه. ما يعتبر نتاجا للظرف ، اي ما لا يتحمل الفرد المسؤولية عن وقوعه ، هو كل ما يتوقع ان يحصل للأشخاص الذين ينتمون الى شريحة بعينها (ذوي الاعاقات على سبيل المثال).

3.8- مقاربة القدرات

تنسب هذه المقاربة الى المفكر الهندي امارتيا سن ، الذي يبدأ محاججته بالاشارة الى نقد متكرر يواجه النظريات المساواتية ، سيما تلك التي تحصر نفسها في التوزيع المتساوي للسلع الاساسية ، بهدف تحقيق العدالة لجميع الناس ، على اختلاف حاجاتهم ومشاربهم.

ذلك الاستهداف ينطوي – في راي الناقدين - على شيء من الهوس ، حيث يركز على الوسائل لا المكاسب الفعلية ، التي يجنيها الافراد من هذه الوسائل[63]. ان قيمة السلعة أو الفرصة تختلف من شخص لآخر ، تبعا لعوامل عديدة ، بينها امكانات موضوعية ، البيئة الطبيعية ، وقابليات الفرد. ومن هنا اقترح امارتيا سن بديلا عن مقاربة الموارد ، هو ربط فكرة التوزيع بالقدرة على تحقيق الوظائف ، اي ما يفعله الفرد كي يدير حياته أو يحقق ذاته. بعبارة اخرى فنحن بحاجة لقياس رفاه الفرد ، استنادا لامتلاكه بصورة مستمرة ، للعوامل التي تجعل حياته مستقرة وكريمة ، مثل الغذاء الكافي ، الصحة الجيدة ، القدرة على الانتقال بحرية والظهور في الفضاء العام دون خجل. كما ان الحرية الواقعية مهمة جدا هنا. ونقصد بها خصوصا قدرة الفرد على اختيار نوع الانجازات ، التي يريد السعي لتحقيقها ، ومنظومات العمل التي يريد تبنيها واستعمالها. من هنا قيل ان رؤية امارتيا سن تدور حول هدف التساوي في القدرات التي يتمتع بها بنو آدم في إدارة حياتهم.

ثمة اشكال يطرح باستمرار على "مقاربة القدرات" يتوجه خصوصا الى إمكانية وضع معيار ثابت ، لوزن كل من القدرات المنشودة ، من أجل ان نتوصل الى تقدير دقيق لموضوع المساواة. ومما يزيد هذا الاشكال حرجا ، حقيقة ان مفهوم القدرات ينطوي أيضا على عدد من المنظورات المعنوية ، التي يصعب وضعها على طاولة المقارنة مع غيرها[64].

مارثا نوسباوم

تميل مارثا نوسباوم إلى ربط مقاربة القدرات بنظرية أرسطو حول الخير. وهي "نظرية متينة" اريد لها - كما قالت نوسباوم – ان تبقى غامضة ، غير مكتملة ، ومفتوحة النهايات ، كي تسمح باستيعاب أنواع ثقافية وفردية إضافية. وعلى أساس هذا التصوير "المتين" الذي يتضمن عناصر كونية ضرورية لتشكيل الحياة الكريمة ، فانه يمكن تحديد مجموعة القدرات والوظائف التي تعتبر أساسية. وبهذه الطريقة استطاعت نوسباوم ، ان تضيف الى مقاربة القدرات ، مزيدا من الدقة الضرورية لانشاء مؤشر يقارن بين الأشخاص. نعلم ان هذا ينطوي على مخاطرة بالحياد ، فيما يخص تعددية مفهوم الخير ، واختلافه بين شخص وآخر. وتكمن اهمية هذا التحفظ ، في حقيقة ان معظم الليبراليين يرى الحياد مطلبا ضروريا[65].

4. المساواة الاجتماعية

على أبواب العقد الاخير من القرن العشرين ، شهد النقاش الفلسفي في الاطار المساواتي ، تركيزا استثنائيا على العلاقات الاجتماعية ، التي باتت موضوعا للمساواة ، ينافس مسألة التوزيع ، التي جرت العادة على ايثارها بالسهم الأوفر من جدل المساواة في الماضي.

تضم قائمة المهتمين بهذه المقاربة عددا من الأسماء البارزة في الحقل الفلسفي ، مثل اليزابيث أندرسون ، ديفيد ميلر ، توماس سكانلون ، صامويل شيفلر ، جوناثان ولف ، وإيريس يونغ[66].

يتفق هؤلاء المفكرون في نقطتين ، سلبية وايجابية. النقطة السلبية هي رفضهم للرؤية القائلة بان ازالة التفاوتات الطبيعية differential luck شرط ضروري لتحقيق العدالة. اما النقطة الايجابية ، فهي اتفاقهم على ان المجتمع لا يوصف بالعدل الا في حالة واحدة: إذا تعامل اعضاؤه مع بعضهم ، انطلاقا من قناعة بكونهم جميعا متكافئين. وبناء على هذي الرؤية ، فان الوعاء الذي يسمح بانطباق وصف العدالة أو العكس ، هو المجتمع نفسه ، وليس عمليات التوزيع الجارية فيه.

تتطابق نظرية المساواة الاجتماعية في جوانب محددة ، مع العديد من النظريات الخاصة بالاعتراف recognition وعدم الهيمنة non-domination. اما نقاط اختلافها الرئيسية مع القائلين بمساواة الحظ ، فهي تتركز في جوانب مثل وضع الاقل حظا لنفسه في موضع أدنى من غيره ، أو معاملته على هذا النحو ، وكذا الحال حين تؤدي التفاوتات الى ايجاد علاقات قوة أو هيمنة غير مقبولة. جوهر نظريات "المساواة الاجتماعية" إذن هي الدعوة لقيام العلاقة بين أعضاء المجتمع على أرضية التكافؤ ، وان كلا منهم ند للآخر.

-         ما المقصود بهذا الكلام وما الذي ينبغي أن يقود إليه؟.

ان الغرض الأول من هذه المقاربة ، هو كشف وتفكيك اشكال اللامساواة غير الصريحة في النظام الاجتماعي ، التي تؤدي بالضرورة الى تفاوت في التوزيع وغيره. التمييز العنصري – على سبيل المثال – يمثل خرقا صريحا لمبدأ المساواة والتكافؤ. لكن حين تتجاوز هذا النوع من الخروقات المفضوحة ، فان المسألة ستبدو أقل وضوحا وصراحة. وسترى اشكالا من اللامساواة ، أقرب لما يسمى بالسقف الزجاجي ، موجودة لكنها غير مرئية. ومن هنا فان أنصار فكرة "المساواة الاجتماعية" ، يعارضون أي شكل من اشكال العلاقات الاجتماعية الهرمية ، التي تسمح لبعض أعضاء المجتمع بالهيمنة واستغلال الآخرين ، أو تهميشهم أو الحط من قدرهم أو هدر حقوقهم. في هذا الصدد يقول صامويل شيفلر:

هذا مثال/معيار اجتماعي يدعو لفهم المجتمع الإنساني ، باعتباره ترتيبا تعاونيا بين أعضاء أحرار ، كل منهم يتمتع بنفس المكانة الاجتماعية. لو تعاملنا مع هذا المثال كمعيار سياسي أيضا ، فسوف يلفت أنظارنا للحجة القائلة بان لكل مواطن حقوقا على الآخر ، بناء على مكانته ووضعه كمواطن ، ومن دون حاجة لاستدلال إضافي أو بيان أخلاقي لحالته. هذه الحقوق قائمة بموجب القانون الذي جعلهم مواطنين متساوين ، وليس لأنهم في حاجة للتعاطف أو المساعدة أو غير ذلك[67].

من المفهوم طبعا ان اشكال التفاوت التي لا تهدر المساواة القيمية (أي مبدأ التكافؤ الأصلي وتطبيقاته) ليست مستبعدة أو مرفوضة بذاتها ، أي لمجرد كونها تفاوتا. ما ينبغي التأكيد عليه ، هو ان اشكال التفاوت هذه ، يجب ان تكون قائمة على نفس الأرضية ، أي أرضية التكافؤ والمساواة ، بحيث تعتبر استثناء مقبولا وليس قاعدة موازية لمبدأ المساواة. ومن الأمثلة على هذا ، نذكر التفاوت على أساس المؤهلات والجدارة ، والتفاوت على أساس اختلاف الحاجات ، وكذلك – في حالات خاصة – التفاوت بسبب الاختلاف العرقي أو الجندري ، أو اختلاف الخلفية الاجتماعية ، كما هو الحال في سياسات التمييز الإيجابي affirmative action أو العقوبة المنصفة fair punishment.

حين تكون المساواة الاجتماعية هي السائدة في علاقة الناس ببعضهم ، فانهم جميعا سيشعرون بان المكانة التي يحتلها كل منهم تساوي مكانة الآخر ، وان هذا الواقع فوق أي اعتبار معاكس ، أيا كان مرجعه أو سببه[68].

هذا يقودنا الى سؤال مشروع: لماذا نعتبر الابعاد الأخرى ، مثل المواهب الطبيعية التي يتمتع بها بعض الأشخاص ، القدرات الإبداعية ، الذكاء ، الابتكار أو القابلية للقيادة ، لماذا نعتبرها أساسا مقبولا للتفاوت واللامساواة؟.

يحتاج دعاة المساواة الاجتماعية الى تحديد أدق لمعنى المكانة المتساوية في المجتمع ، وما يترتب عليها وما تشير اليه ، من حقوق وخيرات اجتماعية. وتمثل "مقاربة القدرات Capabilities Approach" التي اقترحها امارتيا سن ، طريقة مناسبة لتحديد المعنى المقصود بالمساوة الاجتماعية. هذا أيضا رأي اليزابيث اندرسون ، التي تشير بدورها الى مقاربة الكفاية sufficitarianism كطريقة أخرى لتحديد معنى "المساواة الاجتماعية"[69]. طبقا لهذه الرؤية فان ضمان الحق في الحرية والمساواة للمواطنين في مجتمع ديمقراطي ، يوجب توفير ثلاث مجموعات من الشروط على الأقل:

الأولى: يجب ان يتضمن النظام الاجتماعي شروطا سياسية محددة ، غرضها تمكين المواطنين من المشاركة في الحياة السياسية ، على قدم المساواة. هذا يتضمن – من بين شروط أخرى – القدرة على التصويت ، تولي المناصب ، التجمع ، تقديم المطالبات للحكومة ، التعبير الحر والحركة الحرة[70]. مبدأ المساواة الديمقراطية يوجب علينا ان نزيل التراتبيات الاجتماعية التي تمنع نضج التجربة الديمقراطية ، أي نضج المجتمع المنظم على نحو ديمقراطي ، المجتمع الذي نتعاون فيه ونقرر سياسات الدولة وافعالها ، انطلاقا من كوننا شركاء متساوين. الأشخاص مدينون – أخلاقيا - لبعضهم البعض بالتمكين المتقابل ، وتوفير الظروف المناسبة للعيش المتساوي في مجتمع ديمقراطي. ومن هنا أمكننا تعريف الديمقراطية – وفقا لراي اندرسون أيضا - بأنها النظام الذي يؤمن تساوي الجميع في عملية صنع القرار العام.

الثانية: كي يتمكن الأشخاص من المشاركة المتساوية في المجتمع المدني ، يجب توفير الظروف الحياتية والقانونية ، التي تجعل من المرجح بشكل جدي ، ان يتمكن الأشخاص من تفادي انعكاسات غياب العدالة ، نظير التهميش والمسكنة ، الخضوع للهيمنة الثقافية أو السياسية.

الثالثة: يجب مساعدة الأشخاص على حيازة الامكانات ، التي تجعلهم قادرين على الاستفادة من الفرص والاطارات القانونية ، وكذا توفير الظروف الاجتماعية الضرورية ، كي يتمكن الناس من التمتع بالمكانة المتساوية في المجتمع. في هذا السياق ، يجب ان يحصل المواطنون على الغذاء الكافي والسكن والملبس والتعليم والرعاية الصحية.

هذه النقطة الأخيرة تفتح الباب لجدل ، حول امكانية ان يتقبل دعاة المساواة الاجتماعية ، المبررات الداعية للاهتمام بالتفاوت التوزيعي في السلع الاجتماعية ، مع ان قبولهم بهذا سيؤدي لنقل جانب من الاهتمام الى موضوع التوزيع ، خلافا لما قرروه سلفا ، من حصر التركيز والاهتمام على العلاقات الاجتماعية العادلة ، وليس توزيع السلع في حد ذاته[71].

5. المساواة بين من؟

يتعلق وصف العدالة بالأفعال الفردية في المقام الأول. وفقا للمبدأ التأسيسي في الفردانية الأخلاقيةethical individualism ، يتحمل الفرد المسؤولية الرئيسية عن خياراته وأفعاله. هذا يثير أمامنا قضيتين جدليتين:

الأولى: ربما نقول بان الأعراف المنظمة للمساواة التوزيعية ، تنطبق على الجماعات لا الأفراد. الجماعات هي التي – في العادة – تشكو من اللامساواة في التعامل معها ، قياسا الى التعاملات الجارية مع بقية أطياف المجتمع ، كما هو الحال في قضية حقوق النساء والأقليات العرقية والاثنية. السؤال الذي يطرح نفسه هنا ، يتناول النقطة الآتية:

-         هل ينبغي ان يعد التمييز بين هذه المجموعات ، في ذاته ، مرفوضا من الناحية الأخلاقية ، ام ان الاهتمام بالجماعات ، هو – في نهاية المطاف – اهتمام بالأفراد الذين تتشكل منهم أي جماعة. إذا ‏كان ثمة قلق يتعلق باللامساواة بين المجموعات ، فلعل من الضروري أيضا ان نترجم هذا الى قلق على اللامساواة بين أعضاء الجماعة نفسها.

الثانية: تتعلق القضية الثانية بمعايير المساواة التوزيعية: هل تنطبق على جميع الافراد ، في أي مكان وأي زمن عاشوا. أم ان الحق في المساواة مقصور على أعضاء المجتمع الوطني؟. هذا السؤال مبرر بحقيقة أن معظم نظريات المساواة ، تعالج قضايا المساواة التوزيعية بين مواطني دولة محددة. مع ان تقييدا كهذا يفتقر لتبرير منطقي. ان قبول التقييد يعني قصر المطالبات التي سيتم تلبيتها ، على تلك الآتية من مجموعة معرفة سلفا ، بغض النظر عن قوة المطالبات الآتية من خارج هذه المجموعة.

ان العديد من النظريات تميل – ضمنيا – الى هذه الوجهة ، خصوصا حين تربط عدالة التوزيع أو السلع التي سيجري توزيعها ، بالتعاون الاجتماعي أو الإنتاج. بالنسبة لأولئك الذين لا قدرة لهم على لعب دور في الإنتاج أو التعاون الاجتماعي ، مثل الأشخاص الذين يعانون من اعاقات بدنية أو ذهنية ، وكذلك الأطفال والاجيال القادمة ، فانه – وفقا لميول تلك النظريات - سيجري انكار حقهم في حصة عادلة. وبالتالي فان دائرة الأشخاص الذين سيحصلون على حصة من التوزيع ، ستكون مقيدة منذ البداية.

ثمة نظريات أخرى اقل تقييدا ، حيث انها لا تربط التوزيع بالتعاون الاجتماعي الفعلي ، لكنها مع ذلك تربط التوزيع بقيود أخرى ، مثل المواطنة. تقرر هذه النظريات ان تطبيقات العدالة التوزيعية محصورة في أعضاء المجتمع الوطني. كل شخص لا يحمل صفة المواطنة في هذه الدولة ، فانه غير مؤهل للحصول على حصة من التوزيع. ويرى أصحاب هذه الرؤية ان التفاوت بين مواطني هذه الدولة وغيرهم ، ليس مشكلة أو عيبا في العدالة التوزيعية أو النظام الاجتماعي[72].

رغم هذه الملاحظة ، فان التقدير المتساوي لبني آدم ، قيمة كونية. كذلك الحال في التوزيع المتساوي. وكلاهما يستدعي ان يعتبر كل انسان نظيره الانسان ، مساويا له من حيث المبدأ. وأول تجليات هذا الاعتبار هو الحق في الحصول على حصة متساوية في أي توزيعات عامة ، الا إذا ‏قدمت - سلفا - مبررات معقولة تسمح بتجاوز هذه القاعدة. وفي هذا السياق يمكن ان تكون مبررات الاستثناء متعلقة بالمشاركة في الإنتاج (تفضيل المشاركين على غيرهم) لكن لا يصح تقديم مبررات مسبقة لاستثناء آخرين ، من قبيل انتماء الشخص المستثنى لبلد آخر.

القول بأن التقدير المتساوي للبشر ، قيمة كونية ، قد يدعم فكرة اشراك الجميع في التوزيع. بعض الناس سوف يرى هذه فكرة معقولة في حالات خاصة ، كالبترول او الموارد الطبيعية ، التي قد يكتشفها فرد بالصدفة في حديقة بيته او مزرعته مثلا. ربما يقال في هذه الحالة ، انه ليس ثمة مبرر لتخصيص هذا المورد لمالك الأرض التي وجد تحتها ، بل هي للناس جميعا.

مع ذلك فانه لا بد من القول بان كثيرا من الناس ، ربما الغالبية ، يرون في العدالة الكونية ، أي تمديد العدالة التوزيعية المساواتية على مستوى الكرة الأرضية ، خيارا مكلفا للأفراد وحكوماتهم. ويجادل هؤلاء بان الرابطة الخاصة التي تجمع أبناء وطن واحد ، لا يوجد نظيرها فيما بينهم وبين المجتمعات الأخرى[73]. فكرة العدالة التوزيعية في اطار وطني ، التي جادل دونها البروفسور ديفيد ميلر ، مثال (جدلي) على هذا النوع من النظريات التي يمكن ان تقدم نموذجا لنوع من المساواة على مستوى محلي[74].

إضافة لما سبق ، فان النقاش يتمدد الى العلاقة بين الأجيال. فهل على الجيل الحالي واجب مساواتي تجاه الأجيال الآتية ، في خصوص ظروف الحياة المتساوية؟. ثمة مجادلة تدعم الاستنتاج القائل بهذا الواجب ، فحواها انه لا ينبغي ان يجد الناس انفسهم في ظروف غير متساوية ، كنتيجة لعوامل لم يكونوا مسؤولين - أخلاقيا - عن حدوثها. لكن على أي حال فان مسالة العدالة بين الأجيال معروفة بالتعقيد.[75]

6. قيمة المساواة: لماذا المساواة؟

هل تلعب المساواة دورا رئيسيا في نظرية العدالة ، وإذا كان الأمر كذلك ، فما هو هذا الدور؟.

حسنا. توصف العدالة بأنها مساواتية ، حينما ينظر للمساواة باعتبارها هدفا جوهريا للعدالة. وفقا لصياغة لاري تيمكين ، فان:

المساواتي هو الشخص الذي يسبغ بعض القيمة على المساواة بذاتها ، الشخص الذي يهتم بالمساواة كقضية مستقلة ، ويدعو لها بقدر يتجاوز القيم والمثاليات الأخرى. ليس ضروريا ان تكون المساواة قيمة وحيدة ، ولا القيمة الأعظم أهمية. لدى المساواتيين رؤية عميقة وشديدة الالحاح ، فحواها انه لأمر سيء ، ظالم وغير منصف ، ان ينتهي بعض الناس الى حال سيء ، من دون اثم جنوا أو خطأ يستحق الملام[76].

في العموم ، يمكن القول ان تركيز المساواتية المعاصرة على تحقيق المساواة ، يستهدف تحسين فرص التوصل الى حياة طيبة ، أي تحسين آفاق الحياة وظروف المعيشة ، من خلال طرق متعددة تتناسب مع واقع حياة الناس وحاجاتهم ، كما اوضحنا في الفقرة الخاصة بموضوع المساواة (الفقرة 3 – المساواة في ماذا).

6.1 أنواع المساواة

يظهر الآن أن لدينا ثلاثة مفاهيم للمساواتية ، هي: الجوهرية intrinsic ، الأداتية instrumental ، والتأسيسيةconstitutive [77].

المساواة الجوهرية

ينظر أنصار المساواة الجوهرية إلى المساواة باعتبارها خيرا في ذاتها. انهم يدعون الى المساواة بذاتها ، ومن دون شرط أو ربط بأي قيمة أو غاية أخرى. ومعظمهم يدعو الى جعل الظروف الاجتماعية متساوية للجميع. وتبعا لهذا ، فهم لا يرون من الصحيح أن يكون بعض الناس في حال أدنى من غيرهم ، رغم انهم لم يفعلوا ما يستدعي هذا التفاوت.

لكن لابد من الإشارة الى حقيقة ان الناس ، لا ينظرون على الدوام الى اللامساواة باعتبارها شرا. يرى دعاة المساواة الجوهرية ان المساواة راجحة ومرغوبة ، حتى لو كانت اقامتها غير ذات نفع لأي من الأطراف ذوي العلاقة ، كما هو الحال حين تكون إقامة المساواة رهنا بخفض مستوى الرفاهية لجميع الأطراف.

هذا رأي لا يسهل قبوله. لأن القيمة الجوهرية للأشياء ، رهن بكونها ذات نفع ولو لشخص واحد ، أي حين تجعل الحال احسن – بطريقة أو بأخرى - لحياة واحدة على الأقل.

يطلق على هذا الاعتراض اسم "حجة التسوية للأدنى leveling-down objection". ويقول أصحابه ان ترجيح المساواة معقول ، إذا ‏اتضح انه يقود الى حال أفضل. لكن حين يكون الطريق الى المساواة ، هو خفض المستوى العام لحياة الجميع ، كي يصبحوا سواسية ، فما الذي يبرر ترجيحها؟[78].

 في بعض الاحيان لا يمكن التخلص من اللامساواة ، الا بحرمان بعض الاثرياء من مواردهم ، وجعلهم متساوين مع أولئك الادنى حظا والفقراء. هذا النتيجة يجب ان تكون مقبولة ، وفقا لمفهوم المساواة الجوهرية. لكننا نعلم انه ليس من السهل تقبل فكرة كهذه. دعنا نضرب مثلا آخر أكثر تطرفا: افرض ان لدينا شخصا اعمى وآخر أصم .. فهل نفقأ عين الأصم كي يتساوى مع الأعمى ، أم نثقب أذن الأعمى كي يتساوى مع الأصم ، لأننا ببساطة لا نستطيع منح الاعمى بصرا أو منح الأصم قابلية السمع؟.

نعلم ان هذا سيكون بعيدا جدا عن مقتضيات الاخلاق. ولن يرضى به أي عاقل.

وفقا لمعارضي هذه الرؤية ، فان التخلص من اللامساواة عن طريق التسوية للأدنى / تخفيض مستوى المعيشة للجميع ، ليس خيارا مفيدا لأحد. ربما يمكن اعتبار هذا الخيار صالحا في حالة واحدة فقط ، عندما ينعدم أي بديل افضل. ولهذا فقد نذهب مع الحجة المضادة ، القائلة بانه ثمة – على الدوام – بدائل. من تلك البدائل على سبيل المثال ، القول – في حالة الاعمى والاصم – بانه بدل ان تفقأ عين المبصر كي يتساوى مع الاعمى ، يمكن الزام الأول بمساعدة الثاني كي يتغلب على نقاط عجزه. كما يمكن الزام القادر على السماع بمساعدة الأصم ، وهكذا. مثل هذا الحل يتضمن وضع الزامات إضافية على القادرين ، لكن دون تجريدهم من نقاط تمايزهم ، أو الحاق الأذى بهم. يمكن أيضا تعويض ذوي العلل ماليا ، لردم الفجوة المعيشية ، أو تقريب المسافة بين القادرين على العمل كليا والقادرين جزئيا أو العاجزين.

اما حين تنعدم البدائل كليا ، فان الحل السليم هو تنحي "المساواتية الجوهرية" لصالح "مساواتية تعددية" ، أي بكلمة أخرى اعتبار المساواة غير ممكنة ، والبحث عن قيم بديلة تأخذ مكانها في سلم الأولويات. انصار "المساواتية التعددية" لا يعتبرون المساواة هدفا وحيدا. فهم يقرون بالقيم والمباديء الأخرى ، وأبرزها مبدأ الرفاه ، الذي فحواه ان من الأفضل السعي لتحسين المستوى العالم للحياة ، لأن هذا سيكون خيرا للجميع. ينبغي لانصار المساواتية التعددية أيضا ان يكونوا معتدلين بالقدر الكافي ، بحيث لا يجري تغليب المساواة على الرفاهية كلما تعارض الاثنان. بدلا من هذا ، فان عليهم القبول بوجود قدر من التمايز ، إذا ‏كان وجوده سيسهم في رفع مستوى المعيشة للجميع ، وفقا لمبدأ الفرق عند جون رولز (المثال على هذا هو تشجيع الاستثمارات الجديدة التي تزيد الأثرياء ثروة ، لكنها أيضا توفر وظائف جديدة ترفع مستوى معيشة المئات غيرهم).

المساواة الأداتية والتأسيسية

في أيامنا هذه يقر العديد من دعاة المساواة ، بأن تساوي ظروف الحياة بين الناس ، ليس مفيدا في حد ذاته. ولهذا لا يميلون لصرف مبدأ المساواة الى هذا المعنى ، أي "المساواة الجوهرية" على وجه الخصوص. بدلا من هذا ، تبدو "المساواة التعددية" أكثر اقناعا ، ولا سيما في إطار المفاهيم الليبرالية للعدالة ، التي تظهر في معنى السعي وراء مثل وقيم أخرى ، مثل الحرية لكافة بني آدم ، تنمية القدرات الشخصية والكفاءات لكافة البشر ، كي يحفظوا كرامتهم ويعتمدوا على انفسهم في تحسين معايشهم ، تخفيف معاناة الشرائح الضعيفة ، مكافحة التحكم والاستعباد والاذلال ، ودعم مقومات استقرار المجتمعات الحديثة القائمة على التعاقد الحر ، وما إلى ذلك.

بالنسبة لهؤلاء الذين يقعون في الطبقات الدنيا من سلم المعيشة ، ثمة معنى وحيد لتفاوت الظروف المعيشية ، وهو عسر الحياة (نسبيا) ، إضافة الى ما قد تنطوي عليه من شرور كثيرة. ذلك العسر النسبي وهذه الشرور هي الدافع وراء موقفنا الأخلاقي ، اي استنكار التفاوت في ظروف المعيشة. مع هذا ، ينبغي التذكير بأن اللامساواة بذاتها ليست شرا مطلقا ، إذا ‏كنا نضع في اعتبارنا القيم الأساسية المساندة للمساواة وان اختلفت عنها ، القيم التي نتطلع اليها بدافع أخلاقي ، هو نفس الدافع الذي يجعلنا نتطلع للمساواة.

ومن هنا فان رفض التفاوت واللامساواة انطلاقا من تلك القيم ، يعني الرغبة في المساواة ، إما كوسيلة أو كناتج جانبي ، وليس كهدف أولي أو قيمة ذاتية. إذا ‏تم التعامل مع المساواة كفضيلة فرعية ، فان "المساواتية" التي تتبنى هذه الفكرة – ان صح ان نطلق عليها هذا الوصف – هي مساواتية ذرائعية أو أداتية instrumental. [79]

ثمة – إضافة لما ذكر – مقاربة ثالثة ، ربما تكون أكثر ملاءمة لمبدأ المساواة ، هي المساواة التأسيسية constitutive egalitarianism. وخلاصتها ان التطلع للمساواة لا ينطلق من الرغبة فيها بذاتها ، بل لأن قيمتها متجذرة في مباديء ومثل أخرى. بيان ذلك: ان بعض أشكال اللامساواة ظلم وفعل غير أخلاقي ، وأن البديل الضروري عنها هو المساواة. ان الدافع للتصحيح هنا ليس اللامساواة بذاتها ، بل الظلم الناتج عنها. هذا يعني ان المساواة استمدت قيمتها من مبدأ خارجي أعلى ، هو مبدأ الاحترام الواجب والكرامة المتساوية لجميع بني آدم.

لكن هذا لا يعني ان المساواة أداتية ، بمعنى ان قيمتها مستمدة بشكل حصري من مبدأ المساواة القيمية وعدم جواز الظلم ، كما ذكر في المقاربة السابقة ، بل هي في ذاتها – أي المساواة - تنطوي على قيمة رفيعة[80].

بيان ذلك: ان المساواة متصلة بالعدالة صلة الجزء بالكل. الحاجة لتبرير الفعل مطلوبة على أرضية المساواة الأخلاقية. وفي سياقات معينة ، يؤدي التبرير الناجح الى المباديء المذكورة أعلاه ، أي المساواة المعياريةformal equality والتناسبية proportional والمساواة كفرضية مسبقة presumption of equality. ومن هنا ، وتبعا للمساواتية التأسيسية ، فإن المباديء السابقة الذكر والمساواة الناتجة عنها ، مقتضيات للعدالة ، ولنفس السبب فهي عنصر أساسي في تكوين العدالة الاجتماعية.

مستويان

إضافة لما ذكر آنفا ، يهمنا التمييز بين مستويين للمساواتية واللامساواتية. في المستوى الأول تنطلق المساواتية التأسيسية من فرضية مسبقة ، فحواها ان أي تفسير أو توضيح للموقف الأخلاقي ، لن يكتمل من دون مصطلحات نظير "متساو" ، "مماثل" الخ. إضافة الى هذا فان المساواة سوف تحظى في هذه المقاربة بوزن قيمي ثقيل.

وعلى خلاف هذا ، تقول المقاربات اللامساواتية ان مصطلحات كهذه ، متكلفة ، مضللة ، أو في غير محلها.

في المستوى الثاني ، حين نأتي الى تحديد مفهوم العدالة ، فسوف نرى مواقف متباينة ، أقل مساواتية أو أكثر مساواتية ، تبعا لاختلاف "عملة المساواة" المختارة ، أي المعيار الذي نستعمله للتحقق من المعاملة المتساوية أو العكس. إضافة الى مقدار ما نقبله من مبررات للتوزيع غير المتساوي ، أي الاستثناءات من قاعدة المساواة الأولية. ولكل من هذه المواقف ، ثمة أساس نظري يمكن الرجوع اليه.

ومن هنا يمكن القول ان المساواتية في المستوى الثاني ، تتعلق بالنوع ، أي كيفية وكمية الأشياء التي سوف يجري مساواتها. ونظرا لهذه المتغيرات ، فانه لا يمكن وضع صيغة دقيقة ومحددة للمساواتية في هذا المستوى.

في مقابل هذا التصور (مساواتية المستوى الثاني) يدعو اللامساواتيون الى نظرية في العدالة ، تعتمد معيار أهلية غير مقارنة non-relational entitlement theory.

6.2 المساواة مقابل الأولوية أو الكفاية

في الفقرة المعنونة "3.1 المساواة البسيطة" تعرفنا على عدد من الاعتراضات التي تثار عادة ضد المساواة. لكن ثمة نقد مختلف أكثر جذرية ، طوره دعاة المقاربة اللامساواتية من المستوى الأول ، التي أشرنا اليها فيما سلف. فحوى هذا النقد ان المساواة لا تساهم بدور جوهري في تأسيس دعاوى العدالة. نعلم ان النقد القديم للمساواتية ، ينسب للاتجاه المحافظ في المشهد السياسي ، الذي تنصب احتجاجاته بشكل عام ، ضد ما اسماه روبرت نوزيك "المباديء النمطية للعدالة patterned principles of justice"[81]. اما النسخة الجديدة من نقد المساواة ، فيمكن سماعها أيضا من أوساط تقدمية. نقد المساواة من المستوى الأول ، يثير سؤالا فحواه: لماذا ينبغي ان نتصور العدالة على نحو علائقي أو مقارن؟.

روبرت نوزيك

في مقالته المعنونة "العدالة غير المقارنة -1974" ميز جويل فاينبرج ، بين صورتي العدالة كمفهوم قائم بذاته وكمفهوم مقارن[82]. وقد اتخذ معارضو المساواتية هذا التمييز ، منطلقا لانكار الدواعي الأخلاقية القائلة بوجوب معاملة الناس باعتبارهم أكفاء لبعضهم ، وما يترتب عليها من مطالبات كثيرة بالعدالة.

ويحتج معارضو المساواتية ، بأنه لا الفرضية الأساسية ولا هذه المطالب ، تنطوي على مباديء مقارنة ، فضلا عن مباديء المساواة ذاتها. ويحتجون على المساواتية من الدرجة الأولى بالخلط بين المساواة والمسلمات. بل يجادلون بأن مصطلح المساواة ، يعد متكلفا أو زائدا عن الحاجة في العديد من مباديء العدالة[83]. وهم يرون انها ليست أكثر من ناتج جانبي/عرضي ، يبرز حين يتم الوفاء العام بالمعايير غير المقارنة للعدالة[84].

المؤكد – على أقل التقادير - أن المعايير المركزية للحياة الإنسانية الكريمة ليست مقارنة/علائقية ، بل مطلقة. وبحسب تعبير هاري فرانكفورت فان "الأمر يتعلق بما إذا ‏كانت حياة الناس طيبة ، وليس بالمقايسة بين حياتهم وحياة الآخرين"[85]. ومن هنا ، فهو يرى أن "المساواتية قد اخفقت في ادراك هذه النقطة ، لأنها افترضت أن مركز الاهتمام الاخلاقي ، يكمن في كون احد الناس يملك أقل من الآخر ، بغض النظر عن مقدار ما يملكه كل منهما"[86].

خلاصة المنظور الذي يتبناه اللامساواتيون ، هي أن الذي على المحك في خصوص مساعدة أولئك الأقل حظا وتحسين حياتهم ، هو الاهتمام الانساني ، أي الميل إلى تخفيف المعاناة. مثل هذا الاهتمام لا يفهم باعتباره مساواة ، لأنه لا ينطلق من المقارنة بين الأحسن حالا والاسوأ حالا ، ولا يركز على الفرق بين هذا وذاك. ان الاهتمام هنا منصب على تحسين ظروف الأسوأ حالا ، بغض النظر عن ظروف الشخص الآخر.

إن الدافع الحاسم لذلك الاهتمام ، هو محنة هؤلاء الذين يعانون ، وهي – أي المحنة – تشكل الأرضية الاخلاقية الواقعية الداعية للفعل. أما ثروة أولئك الأحسن حالا ، فهي تمثل الوسيلة التي تستعمل لتخفيف المعاناة المذكورة ، طالما تأكدنا من امكانية تحقيق هذا الغرض ، من دون تبعات أخلاقية غير مستحبة. إن قوة الدافع للمزيد من المساواة ، يكمن في شدة الحالة الداعية للعون والحاحها ، وليس في مدى عدم المساواة.

لهذا السبب ، فان معارضي المساواتية يفضلون عليها هذه النسخة أو تلك من نظريات "العدالة بناء على التأهل entitlement theory of justice " مثل النظرية التي اقترحها روبرت نوزيك ، و "نظرية الكفاية doctrine of sufficiency " التي اقترحها هاري فرانكفورت. وفقا لرؤية فرانكفورت فإن "ما هو مهم من الناحية الاخلاقية ، ليس تساوي الأملاك بين شخص وآخر ، بل امتلاكه لما يكفيه. إذا أمتلك كل شخص ما يكفيه ، فلن يكون ثمة عبء اخلاقي ، حتى لو امتلك بعضهم ما يفوق ملكية الاخر"[87].

انطلاقا من هذه الفرضية ، يدعو ديريك بارفيت في "رؤية الأولوية The Priority View" إلى التركيز على تحسين أحوال الفقراء والشريحة الضعيفة في المجتمع ، مع إعطاء أولوية للأشد فقرا والأضعف حالا ، حتى لو كان احتمال حصولهم على العون في هذه العملية ، أقل من سواهم[88]. ويميز بين المساواتية ورؤية الأولوية Prioritarianism بالتركيز على أن الدواعي الأخلاقية ستكون أشد الحاحا في السياق الذي يتبناه ، لأن انتفاع الناس سيكون أكثر أهمية والحاحا ، كلما كانوا أقل حظا وأسوأ حالا[89].

منح الأولوية على هذا النحو ، سيؤدي في غالب الاحوال الى زيادة المساواة. لكن هذا لا ينبغي ان يحجب حقيقة اننا بصدد قيمتين متمايزتين ، حتى لو خدمتا غرضا واحدا. ذلك ان المساواة ، في جانب مهم ، قيمة علائقية/مقارنة ، بينما الأولوية ليست كذلك. على أي حال فان كلا من المساواتيين ودعاة الأولوية ، يشتركون في ميزة مهمة هي الاعتقاد بان افضل توزيع ممكن لخيرات محددة ، هو التوزيع المتساوي.

ولهذا سيبقى السؤال قائما ، حول ما إذا كانت المقاربة المسماة بالأولوية تعد نوعا من المساواتية ، ام يمكن اعتبارها نوعا "مقبولا" من اللامساواتية.

على أي حال ، يمكن للمقاربات اللامساواتية المبنية على معيار التأهل entitlement أن تؤدي عمليًا إلى مساواة في الناتج ، بنفس القدر المتوقع من المقاربات المساواتية. وبناء عليه فان الوفاء بمعيار مطلق / غير مقارن / لا مساواتي ، على نحو ينتفع به كل شخص (بحيث لا يبقى احد مهددا بالجوع على سبيل المثال) سوف يؤدي في كثير من الأحيان الى تعزيز المساواة. الوفاء بهذا المعيار لا ينتج مستوى معيشة مقبولا فحسب ، بل حياة جيدة.

ان مبدأ الخلاف بين هذين النوعين من المقاربات ، هو الأرضية التي نقف عليها: هل هي المساواة ام غيرها ، وليس النتائج من قبيل: هل المساواة متحققة بالنسبة لهؤلاء الأفراد أو هذه المجموعات ، قليلا أو كثيرا. كذلك فان النقاش لا يدور حول المعايير التي نقيس عليها وصف المساواة او اللامساواة.

بعبارة أخرى فان الاختلاف الجوهري بين المقاربتين يكمن في مكان آخر. ولعلنا نجده في نقطة أعمق، في مفهوم الطرفين لما هو اخلاقي بشكل عام ، وما هو غير أخلاقي.

بطبيعة الحال ، هذا القول لا يجرد المساواتيين من كل حججهم ، مع انه يوجب عليهم ان يجدوا طريقا للتسوية مع الفريق الآخر ، طالما استطاع التدليل على إمكانية الوصول الى نفس النتائج التي يدعون اليها ، بكلفة أقل. في هذا السياق يمكن للمساواتيين الرد على نقادهم ، بطريقتين:

الأولى: الاقرار بأن من طبيعة قواعد الاخلاق والعدالة ، بعضها بالتأكيد وليس كلها ، ان تهتم في المقام الأول بالفروقات بين الأفراد. وبالتالي فهي تنظر في المطالبات الفردية على نحو منفصل. لكن قبول هذه المطالبات او ردها ، مشروط بقبولها من جانب جميع المتأثرين بموضوع الشكوى ذاته ، إذا عبروا عن رأيهم – افتراضيا – في ظرف يضمن الحرية والمساواة. الغرض من هذا الجواب هو التمييز بين الموضوع الذي يتطلب اجراء منطلقا من مبدأ المساواة ، وذلك التي يتطلب عونا إنسانيا ، ولا يتعلق بمبدأ المساواة.

هذا الإجراء – الذي طابعه العام تبريري - سيغدو أكثر ضرورة ، إذا كان ثمة شك في ان الذي على المحك ، هو في واقع الامر معاناة أو ضيق شديد ، أو حاجة موضوعية ملحة.

يعتقد دعاة المساواتية التأسيسية أن جميع الأحكام المتصلة بالعدالة التوزيعية ، يجب ان تدرس في إطار علائقي ، من خلال السؤال عن مشروع التوزيع الذي يحظى بقبول كافة الأطراف المعنية. وقد اوضحنا في الفقرات السابقة بقدر من التفصيل ، ان العديد من المساواتيين يجادلون بان الفرضية المسبقة المؤيدة للمساواة ، تنطلق من هذه المتطلبات التبريرية ، وان هذا هو كل ما يحتاجه الأمر لتعيين القيمة التأسيسية للمساواة.

الثانية: حتى لو فرضنا - جدلا – اننا أعرضنا عن اجابة السؤال المتعلق بما إذا ‏كانت المطالبات بالتوزيع طبقا للحاجات الموضوعية (مثل تخفيف الجوع) تنطوي على دعوى تأهل غير مقارنة non-comparative entitlement ، فاننا سنحتاج للجواب عن السؤال المتعلق بمسؤولية الفرد كعضو في المجتمع الإنساني تجاه بقية الاعضاء ، انه الدين الذي بدين به كل انسان لكل انسان اخر ، سواء كانت ظروفهم متماثلة أو كان أحدهم أسوأ حظا من الآخر. كما يرتبط من ناحية ثانية بالطريقة الصحيحة لاستثمار الموارد النادرة (المال ، الوقت ، الطاقة، الخيرات) على ضوء المحصلة الاجمالية لما يترتب علينا من التزامات.

ربما لا يتضح لنا ان كان تكليفنا الأخلاقي بالمساعدة ، علائقيا/مقارنا أم لا ، الا ان تحديد نوع المساعدة ومدى ما يتوجب تقديمه منها ، سوف يكون على الدوام مقارنا وعلائقيا ، على اقل التقادير في ظروف الندرة (ونعلم ان الموارد شحيحة دائما). حينئذ يسعنا القول ان المطالبة بالعون ، اما ان تكون قابلة للاشباع satiable بالقدر المطلوب ، أي انه يمكن الوصول بها الى نقطة الكفاية أو المستوى الأعلى ، بحيث يمكن القول ان مطالبة هذا الشخص بتلك المساعدة قد تم تلبيتها تماما ، أو ان تلك المطالبة عسيرة الاشباع[90].

بالنسبة للمطالبات العسيرة الاشباع insatiable فليس بوسعنا تحديد المستوى الذي يحقق رضا الشخص المعني ، أو يصل الى حد الكفاية بشكل دقيق. ربما نقول أن مستوى الاشباع المقصود يتحقق بالوصول الى الحد الأدنى. لكن ما الذي يحمل الأشخاص المعنيين على الرضى بالحد الأدنى؟. ولماذا لا نأخذ بالطريقة المتبعة في توزيع الخيرات والموارد ، حيث يتعين مستوى الاشباع بما يتجاوز حد الفقر. يمكننا في واقع الامر ان نأخذ بهذه الطريقة ونعالج مسألتنا كمطالبة بالعدالة.

اما لو كان اهتمامنا منحصرا – من حيث المبدأ - في الدعاوى "القابلة للاشباع" فقط ، وان لدينا تعريفا معقولا لحدود الكفاية الخاصة بهذه الدعاوى ، فان معايير الكفاية هذه ستكون ، على الأغلب ، عالية جدا. وفقا لتعريف فرانكفورت على سبيل المثال ، فان الوصول الى حد الكفاية (الاشباع) رهن بتحقيق رضا الشخص المعني ، وانه ما عاد يكافح من اجل المزيد. لكن نظرا لان الناس يجدون انفسهم – عمليا - في ظروف أدنى كثيرا من حدود الكفاية تلك ، فانهم – بطبيعة الحال – يعيشون في ظروف شح (معتدلة). هذا يطابق فحوى المحاججة السابقة ، وخلاصتها ان تحديد مستوى الكفاية الذي ينبغي الوصول اليه ، يقتضي معالجة تتضمن المقارنة بين كافة المطالبات ذاتها ، ثم مقارنتها مع الموارد المتوفرة.

وأضيف الى ما سبق ، اننا بحاجة للفصل بين معاناة الناس من جهة ، ووصولهم حد الاكتفاء من جهة أخرى. ان الواجب الأخلاقي الذي يدعونا للتخفيف من المعاناة الحرجة (كالجوع مثلا) لا يمكن صرفه الى واجب أخلاقي لحصول الشخص على ما يكفيه. هذا موضوع مختلف عن سابقه من حيث المستوى ومن حيث الالحاح الأخلاقي. في كلا الحالين ، أي حالة المطالبة القابلة للاشباع والأخرى غير القابلة للاشباع ، لا يمكن النظر الى الحق الاجتماعي أو المطالبة بالخيرات ، باعتبار أي منهما امرا مطلقا أو غير قابل للمقارنة. ومن هنا فانه يمكن للمساواتيين الخروج باستنتاج فحواه ان العدالة التوزيعية هي دائما مقارنة. هذا يعني ان المساواة التوزيعية ، لاسيما المساواة في ظروف المعيشة ، ينبغي ان تلعب دورا أساسيا في أي نظرية كاملة للعدالة على وجه الخصوص ، وفي النظريات الأخلاقية على وجه العموم.


مقالات ذات صلة

افكار للاستعمال الخارجي فقط

برنارد وليامز : الفيلسوف المجهول

 التنمية على الطريقة الصينية : حريات اجتماعية من دون سياسة

حاشية على سجال قديم

حجاب الغفلة ، ليس حجاب الجهل

عدالة ارسطو التي ربما نستحقها

العدالة الاجتماعية كهدف للتنمية

العدالة الاجتماعية وتساوي الفرص

العدالة كوصف للنظام السياسي

عودة لمبدأ المساواة

فكرة المساواة: برنارد وليامز

الليبرالية في نسخة جديدة: رؤية جون رولز

مجتمع العقلاء

مراجعة لحقوق النساء في الاسلام: من العدالة النسبية الى الانصاف: محسن كديور

المساواة بين الخلق ... المساواة في ماذا ؟ : رؤية امارتيا سن

المساواة والعدالة : ديفيد ميلر

المساواة: اشكالات المفهوم واحتمالاته ايزايا برلين

معالجة الفقر على الطريقة الصينية

مفهوم العدالة الاجتماعية

من دولة الغلبة الى مجتمع المواطنة: مقاربة دينية لمبدأ العقد الاجتماعي

نحن مدينون لليسار المكافح

من اراء الفيلسوف ديفيد ميلر

هكذا انتهى زمن الفضائل

 



* Gosepath, Stefan, "Equality", The Stanford Encyclopedia of Philosophy (Summer 2021 Edition), https://plato.stanford.edu/entries/equality/

Professor Stefan Gosepath teaches practical philosophy at the Free University of Berlin. He is co-director of the Centre for Advanced Studies "Justitia Amplificata".

أود الاعتذار للقراء الأعزاء الذين ربما يجدون النص عسيرا شيئا ما. للأسف كان الأصل عسيرا. وقد حاولت جهدي تيسيره وتبسيطه. ولعلي أخفقت في بعض المواضع.

[1] برنارد ويليامز (1973): "فكرة المساواة" ترجمة توفيق السيف ، مدونة قلم (27-04-2019) https://talsaif.blogspot.com/2019/04/blog-post_27.htm

[2] Dworkin, Ronald, 2000, Sovereign Virtue. The Theory and Practice of Equality, Cambridge: Harvard University Press., p2

[3] Westen, Peter, 1990, Speaking of Equality, Princeton: Princeton University Press, p. 39

[4] Oppenheim, Felix, 1970, “Egalitarianism as a Descriptive Concept,” in L. Pojman & R. Westmoreland (eds.), 1997, Equality. Selected Readings, Oxford: Oxford University Press, pp. 55–65, p. 56.

[5] المقصود بهذه العبارة ان سؤال: من تنطبق عليه القوانين الامريكية؟ يعني: من الذي صفته هكذا (امريكي/اجنبي) وبناء عليه ما الذي له من حقوق وعليه من واجبات بموجب كونه حاملا لتلك الصفة. هذا الجزء من الكلام دعوي (يعني يجب ان يعطى تلك الحقوق ويؤدي تلك الواجبات) بناء على الجانب الاول (الوصفي).

[6] Westen, Peter, 1990, Speaking of Equality, op. cit. p. 10

[7] Temkin, Larry S., ‘Inequality’, Philosophy & Public Affairs, Vol. 15, No. 2 (Spring, 1986), pp. 99-121,

http://www.jstor.org/stable/2265381

[8] Temkin, Larry, 1993, Inequality, Oxford: Oxford University Press, P. 19

[9] Rae, Douglas et al. (eds.), 1981, Equalities, Cambridge: Harvard University Press. p. 132

[10] برنارد ويليامز (1973): "فكرة المساواة" مرجع سابق

[11] For details on the history of the concept, cf.:

Albernethy, George (ed.), 1959, The Idea of Equality, Richmond: John Knox.

Benn, Stanley, 1967, “Equality, Moral and Social,” in P. Edwards(ed.), Encyclopedia of Philosophy, Vol 3, New York: Macmillan, pp. 38–42.

Brown, Henry Phelps, 1988, Egalitarianism and the Generation of Inequality, Oxford: Clarendon.

Thomson, David, 1949, Equality, Cambridge: Cambridge University Press.

[12] ارسطوطاليس: علم الأخلاق إلى نيقوماخوس ، ترجمة احمد لطفي السيد ، دار الكتب المصرية (القاهرة 1924) ج2 ك 5 ب 3 ، ص 69.

[13] ايزايا برلين (1955 – 56) "المساواة: اشكالات المفهوم واحتمالاته" ، ترجمة  توفيق السيف ، مدونة قلم (29-01-2020) https://talsaif.blogspot.com/2020/01/blog-post.html

[14] ارسطوطاليس: علم الأخلاق إلى نيقوماخوس ، مصدر سابق ، ص 70

[15] Aristotle,’ Politics’, in J. Barnes (ed.), The Complete Works of Aristotle, Princeton: Princeton University Press. P. 22

[16] Dahrendorf, Ralf, 1962, “On the Origin of Social Inequality,” in P. Laslett & W. G. Runciman (eds.), Philosophy, Politics, and Society, 2nd Series, Oxford: Blackwell, pp88-109, P. 93

[17] جان جاك روسو: في العقد الاجتماعي او مباديء القانون السياسي ، ترجمة عبد العزيز لبيب ، المنظمة العربية للترجمة (بيروت 2011) الفصل السادس ، ص 92

[18] برنارد ويليامز (1973): "فكرة المساواة" مصدر سابق

[19] Habermas, Jürgen, 1983, ‘Discourse Ethics: Notes on a Program of Philosophical Justification’, in J. Habermas, 1990, Moral Consciousness and Communicative Action, tr. C. Lenhardt and S. Weber Nicholsen, Cambridge: MIT Press, pp. 43–115.

[20] Kymlicka, Will, 1990, Contemporary Political Philosophy, Oxford: Clarendon Press. P. 5.

عبارة "السقف المساواتي egalitarian plateau" صاغها رونالد دوركين ، وأراد بها ان جميع النظريات السياسية المعاصرة تقريبا ، تسلم بالمساواة المعنوية كأصل ثابت في السياسة ، بمعنى ان أي دولة عادلة او محايدة ملتزمة باحترام مواطنيها ومعاملتهم جميعا على قدم السواء.

Dworkin, Ronald,’ Comment on Narveson: In Defense of Equality, Social Philosophy and Policy , Vol. 1, No.1, Autumn 1983 , pp. 24 – 40. https://doi.org/10.1017/S0265052500003307.

[21] Dworkin, R., Taking Rights Seriously, op. cit, p. 227

[22] Kymlicka 1990, op.cit., p. 44

[23] This principle is conceived as a presumption (With different terms and arguments) by Benn, Stanley & Richard S. Peters, 1959, Social Principles and the Democratic State, London: Allen & Unwin, p. 111. and by Bedau, Hugo, 1967, “Egalitarianism and the Idea of Equality,” in J. R. Pennock, J. Chapman (eds.), Equality, New York: Atherton, pp. 3–27 , p. 19

And Accepted as a relevant reason approach by Williams, Bernard, 1973, “The Idea of Equality”, in B. Williams, Problems of the Self (راجع الترجمة العربية لمقالة ويليامز المذكورة انفا )

[24] For a justification of the presumption in favour of equality, see Gosepath, Stefan, 2015, “The Principles and the Presumption of Equality,” in C. Fourie, F. Schuppert, I. Wallimann-Helmer (eds.), Social equality: on what it means to be equals, Oxford University Press, pp. 167–185

[25] احتمل ان جيرالد كوهن هو الذي صاغ مصطلح "عملة المساواة/المساواتية currency of egalitarianism" وذلك في رده على سؤال محوري طرحه امارتيا سن في محاضرة شهيرة عام 1979 عنوانها“Equality of What?”. سأل سن مؤيدي نظرية العدالة المساواتية: "ما هو موضوع المساواة الذي يتحدثون عنه ، المساواة في ماذا؟". وفق لطرح المساواتيين تتضمن "عملة المساواة" في المقام الاول ما اسمي بالسلع الاجتماعية ، اي الموارد والخدمات العامة ، والفرص المتاحة في المجال العام. انظر:

G. A. Cohen, On the Currency of Egalitarian Justice, and Other Essays in Political Philosophy, (Princeton University Press, 2011) Oxford, chapter1.

[26] F. Babeuf & S. Marechal, 1796, “The Manifesto of Equality” in L. Pojman & R. Westmoreland (eds.), 1997, Equality. Selected Readings, Oxford: Oxford University Press, pp. 49–52.

[27] Shaw, George Bernard, 1928, The Intelligent Woman’s Guide to Socialism and Capitalism, New York: Brentano’s Publishers.

[28] For more on the topic, see Dennis McKerlie, ‘Equality and Time’, Ethics, Vol. 99, No. 3, Apr., 1989, pp 475-491, https://www.jstor.org/stable/2380861

[29] For more on the topic, see Okun, Arthur, 1975, Equality and Efficiency: The Big Trade-off, Washington: The Brookings Institution.

[30] لبعض التفاصيل عن امثلية باريتو ، انظر عبد علي كاظم المعموري: تاريخ الأفكار الاقتصادية ، دار الحامد ، عمان 2011 ، ص 429

[31] Sen, Amartya, 1970, Collective Choice and Social Welfare, San Fransisco: Holden-Day; reprinted Amsterdam 1979, chap. 2, 2*

[32] Kaldor, Nicholas, 1939, “Welfare Propositions of Economics and Inter-Personal Comparison of Utility,” The Economic Journal, 49: 549–552. https://doi.org/10.2307/2224835

[33] Pogge, Thomas W., 1999, ‘Human Flourishing and Universal Justice’, Social Philosophy and Policy , Vol 16 , no.1 , Winter 1999 , pp. 333 – 361, https://doi.org/10.1017/S0265052500002351

[34] On the justification of inequality by Social Darwinists, see Claire Goldstene, ‘Our Social Darwinists Then and Now’ Inequality, Feb,.22, 2015, https://inequality.org/research/american-social-darwinism/

[35]Cohen, G., ‘On the Currency of Egalitarian Justice’, op. cit.

[36] Walzer, Michael, 1983, Spheres of Justice. A Defence of Pluralism and Equality, New York, Basic Books. Ch. 4 p. 95

[37] For mor on the libertarian arguments, see Nozick, Robert, 1974, Anarchy, State, and Utopia, New York: Basic Books.

[38] Kymlicka, Contemporary Political Philosophy, op. cit., pp 108-117

[39] Rawls, John, 1993, Political Liberalism, New York: Columbia University Press. pp. 356–363

[40] ورد هذا القول في كتاب جيريمي بنثام

 ‘Rationale of Judicial Evidence’, in J. Bowring (ed.), The Works of Jeremy Bentham, (Edinburgh, 1838–43), vii, p. 334.

واشتهر بعدما وصفه جون س. ميل ب "القول الفصل=Bentham’s Dictum" في كتابه(1863) Utilitarianism. انظر:

John. S. Mill, Utilitarianism, ed. J. Bennett 2017, chapter 5, p 42. https://www.earlymoderntexts.com/assets/pdfs/mill1863_2.pdf

[41] Dworkin, Ronald, 1977, Taking Rights Seriously, Cambridge: Harvard University Press. p. 234

[42] Kymlicka 1990, op. cit., p. 40

[43] جون رولز (1971): نظرية في العدالة ، ترجمة ليلى الطويل ، الهيئة العامة السورية للكتاب ، دمشق 2011 ، ص 30.

[44] جون رولز : نظرية في العدالة ، مرجع سابق ، ص 56

[45]  تتعلق حجة الذوق المهين offensive taste بمجادلة الرغبات او التفضيلات التي يرتبط التمتع بها بالتمييز ضد الآخرين أو التضييق على حريتهم او جرح مشاعرهم. ويعتقد جيرالد كوهن ان هذه الرغبات لا ينبغي ان تحسب ‏ضمن التفضيلات التي يصح المطالبة باشباعها  (باعتبارها سلعة اجتماعية) اذا نظرنا الى هذه الملذات من زاوية العدالة ، فانها تستحق الإدانة ولا ينبغي الاصغاء ‏لمطالبات أصحابها ، حتى لو كانت رفاهيتهم (او رضاهم عن حياتهم) مشروطة باشباعها. انظر:‏

G. A. Cohen, “On the Currency of Egalitarian Justice”, op. cit.  p. 912

[46] Dworkin, Ronald, ‘What is Equality? Part 1: Equality of Welfare’ Philosophy & Public Affairs, Vol. 10, No. 3 (Summer, 1981), pp. 185-246, p. 228. http://www.jstor.org/stable/2264894

[47] الفرق بين الرغبات desires والتفضيلات preferences ان الأولى متوجهة الى شيء واحد (فلان يرغب في الأكل) اما الثانية فتشير الى مقارنة بين بدائل عديدة (فلان يفضل الحرية الشخصية على الوظيفة العالية المردود). كلا الصفتين حالات ذهنية ذات علاقة بالارادة. لكن التفضيلات هي الراجحة ، لأنها تعبر عن حالة تحكم في الانفعالات. ولذا حظيت باهتمام في نظريات الخيار العقلاني rational-choice theories ونظرية القرار decision theory. للمزيد ، راجع 'Preference', Wikipedia, (5 May 2022) https://en.wikipedia.org/wiki/Preference

[48] Feinberg, Joel (1970), “Justice and Personal Desert”, Law and Philosophy Library, pp. 221–250. https://doi.org/10.1007/978-94-015-9403-5_13

[49] السلع العامة public goods المنظورة هنا هي الخدمات التي توفرها الدولة للمواطنين مجانا او بأسعار مخفضة ، باعتبارها منافع غير قابلة للتقسيم. ويشترك الجميع في الاستفادة منها على قدم المساواة. ومن أمثلتها: الدفاع ، الأمن الداخلي، صيانة والنظام العام ، العدالة ، المواصلات العامة ، التعليم الأساسي ، الرعاية الصحية الاساسية.. وامثالها. ليلى الطويل ، في رولز: نظرية في العدالة ، مصدر سابق ، ص 334 – الهامش.

[50] رولز: نظرية في العدالة ، مصدر سابق ، ص 110

[51] Scheffler, Samuel, ‘What Is Egalitarianism?’, Philosophy & Public Affairs, Vol. 31, No. 1 (Winter, 2003), pp. 5-39 https://www.jstor.org/stable/3558033

[52] Dworkin, Ronald, 1981, “What is Equality? Part 2: Equality of Resources,” Philosophy and Public Affairs, Vol. 10, No. 4 (Autumn, 1981), pp. 283-345 https://www.jstor.org/stable/2265047

[53] On the discussion over this point, see Lippert-Rasmussen, Kasper, 2015, Luck Egalitarianism, London: Bloomsbury Academic.

[54] Temkin, L., (1993), Inequality, op. cit. P. 13

[55] For a different interpretation, see: Stemplowska, Zofia, ‘Rescuing Luck Egalitarianism’, Journal of Social Philosophy, Vol. 44, no. 4, Winter 2013, 402–419. https://doi.org/10.1111/josp.12039

[56] رولز : نظرية في العدالة ، ص 384

[57] Nozick, Robert, 1974, Anarchy, State, and Utopia, op. cit. P. 225

[58] ارجو الالتفات الى الفارق الدقيق بين ثلاثة مفاهيم (الاستحقاق ، الجدارة ، والأهلية). وهي كثيرا ما تذكر كمرادفات ، مع انها ليست كذلك. يشير مفهوم الاستحقاق desert الى فعل شخصي يؤدي إلى معاملة خاصة للقائم به ، إما في شكل مكافأة أو عقاب. ولذا تعتبر مسؤولية الفاعل عن فعله ، جزء من مفهوم الاستحقاق. ويرى معظم المفكرين ان استحقاق الشخص مرتبط بفعله في الماضي ، أي ان مرور الوقت على فعله مبرر لدعوى الاستحقاق ، فلا يقال ان فلانا يستحق مكافأة او عقابا على فعل في المستقبل.

ويشير مفهوم الجدارة merit الى صفة محبوبة في شخص. سواء ساهم في ايجادها ام لا. فمثلا يمكن امتداح شخص لأنه جميل المظهر او قوي البنية ، مع انه لم يفعل شيئا كي يحصل على هذه الصفات. ويمكن ان نصف بها حتى الاشياء غير الحية مثل قولنا ان الكتاب جدير بقيمته او جدير بالثناء.

اما الاهلية entitlement فهي حق قائم او ممكن نتيجة لانطباق بعض المعايير او القواعد على الشخص المعني. وقد يتأتى بفضل جهد يبذله الشخص او من دون جهد أصلا. مثلا: لو ولدت لاب امريكي فستحصل على حقوق المواطن الأمريكي فور ولادتك. ولو كان ابوك اميرا فستحمل لقب الامير مثله. للمزيد انظر:

Rashmi Gopi, ‘Idea of Just Desert’ in BPSC-103 Political Theory – Concepts and Debates, Block 3 Unit 8, pp. 97-106, p. 99,100. https://egyankosh.ac.in/bitstream/123456789/66930/1/Unit-8.pdf (accessed 23-05-2022)

[59] Hayek, Friedrich A., 1960, The Constitution of Liberty, London: Routledge. pp. 85-102

[60] Arneson, Richard, 1990, ‘Liberalism, Distributive Subjectivism, and Equal Opportunity for Welfare’, Philosophy and Public Affairs, vol. 19, no. 2, 1990, pp. 158–194. http://www.jstor.org/stable/2265408.

[61] Cohen, G., 1989, “On the Currency of Egalitarian Justice, op. cit. P. 916

[62] Roemer, John E., 1998, Equality of Opportunity, Cambridge: Harvard University Press.

[63] Sen, Amartya, 1979, “Equality of What?,” The Tanner Lectures on Human Values, Oxford Poverty and Human Development Initiative (OPHI), https://www.ophi.org.uk/wp-content/uploads/Sen-1979_Equality-of-What.pdf

[64] Cohen, Gerald (1993), ‘Equality of What? On Welfare, Goods, and Capabilities’, in M. Nussbaum & A. Sen (eds.), The Quality of Life, Oxford: Oxford University Press, pp. 9–29. P. 17.

[65] لمناقشة أوسع ، انظر المقالة الخاصة بمقاربة القدرات في موسوعة ستانفورد الفلسفية.

Robeyns, Ingrid and Morten Fibieger Byskov, "The Capability Approach", The Stanford Encyclopedia of Philosophy (Winter 2021), <https://plato.stanford.edu/archives/win2021/entries/capability-approach/>.

[66] Anderson, Elizabeth, 1999, “What Is the Point of Equality?” Ethics, Vol. 109, No. 2 (Jan. 1999), pp. 287-337. https://doi.org/10.1086/233897.

ديفيد ميلر (1996): المساواة والعدالة ، ترجمة توفيق السيف ، قلم (مدونة شخصية 14-10-2019) الجزء الثالث. https://talsaif.blogspot.com/2019/10/blog-post.html

Scanlon, Thomas, 1996, The Diversity of Objections to Inequality, in T. Scanlon, 2003, The Difficulty of Tolerance: Essays in Political Philosophy, Cambridge: Cambridge University Press, pp. 202–218.

Scheffler, Samuel, 2003, “What is Egalitarianism?” Philosophy and Public Affairs, Vol. 31, No. 1 (Winter, 2003), pp. 5-39 https://www.jstor.org/stable/3558033

Wolff, Jonathan, 1998, “Fairness, Respect, and the Egalitarian Ethos,” Philosophy & Public Affairs, Vol. 27, No. 2 (Spring, 1998), pp. 97-122, https://www.jstor.org/stable/2672834

Young, Iris Marion, 1990, Justice and the Politics of Difference, Princeton: Princeton University Press.

[67] Scheffler, Samuel, ‘What Is Egalitarianism?’, op. cit.

[68] ديفيد ميلر (1996): المساواة والعدالة ،  مصدر سابق

[69] Anderson, Elizabeth, 1999, “What Is the Point of Equality?”, op. cit

[70] رولز: نظرية في العدالة ، ص 92

[71] Elford, Gideon, 2017, “Relational Equality and Distribution”, Journal of Political Philosophy, Vol 25, No.4, Dec. 2017, pp.80-99, https://doi.org/10.1111/jopp.12139

[72] Nagel, Thomas, ‘The Problem of Global Justice’, Philosophy & Public Affairs, Vol. 33, No. 2 (Spring, 2005), pp. 113-147. https://www.jstor.org/stable/3558011

[73] لمناقشات أوسع ، انظر المادة الخاصة بالعدالة الكونية في موسوعة ستانفورد الفلسفية. ‏ Brock, Gillian, "Global Justice", The Stanford Encyclopedia of Philosophy (Summer 2022), <https://plato.stanford.edu/archives/sum2022/entries/justice-global/>

[74] Miller, David, 1995, On Nationality, Oxford: Clarendon Press. Especially Ch. 4, p. 81

[75] لتفصيل أكثر ، انظر المدخل الخاص بالعدالة بين الأجيال في موسوعة ستانفورد الفلسفية.‏

Meyer, Lukas, "Intergenerational Justice", The Stanford Encyclopedia of Philosophy (Summer 2021), <https://plato.stanford.edu/archives/sum2021/entries/justice-intergenerational/>.

[76] Temkin, L., (1986) ‘Inequality’, op. cit, p.100

[77] for more on the topic, see Parfit, Derek, ‘Equality and Priority’, Ratio, 10, Dec. 1997, pp.202–221. https://onlinelibrary.wiley.com/doi/10.1111/1467-9329.00041

[78] On the “levelling-down objection”, see Joseph Raz, ‘On the Value of Distributional Equality’, Oxford Legal Studies Research Paper No. 41/2008 (2008).https://scholarship.law.columbia.edu/faculty_scholarship/1553

[79] For a detailed account on the extrinsic value of equality, see: Scanlon, Thomas, ‘The Diversity of Objections to Inequality’, The Lindley Lectures, Lawrence, KA: University of Kansas (1996). https://kuscholarworks.ku.edu/handle/1808/12409

[80] For a comparative account on the origin of a value VS its being intrinsic or extrinsic, see Christine Korsgaard, ‘Two Distinctions in Goodness’, The Philosophical Review, Vol. 92, No. 2 (Apr. 1983), pp. 169-195. https://doi.org/10.2307/2184924

[81] Nozick, Robert, Anarchy, State, and Utopia, op. cit, pp. 155-157

[82] Feinberg, Joel, “Non-Comparative Justice,” The Philosophical Review, Vol. 83, No. 3 (Jul. 1974), pp. 297-338, https://www.jstor.org/stable/2183696

[83] في سياق مجادلته حول عدم أولوية المساواة ، لاسيما جانب المقارنة فيها ، يقارن جوزف راز بين طريقتين في قول الفكرة نفسها: الطريقة أ- كل الناس لهم الحق في تعليم متساو. ب- كل الناس على السواء لهم الحق في التعليم. رغم ذكر المساواة هنا الا ان موضوع الكلام ليس المساواة بل حق التعليم. نحن لا نتحدث عن حق البعض في التعليم لان غيرهم حصل عليه ، أي مساواتهم بالغير ، ولا حتى عن المساواة في مستوى التعليم ، بل الحق في التعليم للجميع وحسب.  

Raz, Joseph, 1986, The Morality of Freedom, Oxford: Oxford University Press. p. 220

[84] Raz, Joseph, The Morality of Freedom, ibid., p. 228

[85] Frankfurt, Harry, 1997, “Equality and Respect,” Social Research, Vol. 64, No. 1, spring 1997, pp. 3-15. P. 6 https://www.jstor.org/stable/40971156

[86] Frankfurt, Harry, ‘Equality as a Moral Ideal’, Ethics, Vol. 98, No. 1 (Oct. 1987), pp. 21-43, p. 34. https://www.jstor.org/stable/2381290

[87] Frankfurt, Harry, ‘Equality as a Moral Ideal’, ibid., p.21

[88] Parfit, Derek ‘Equality and Priority’, Ratio (new series) V o l 3, Dec. 1997, pp. 202-221, p. 213 https://onlinelibrary.wiley.com/doi/10.1111/1467-9329.00041

[89] Parfit, Derek, (1995) ‘Equality or Priority?’, University at Buffalo, pp 81-125, P. 101, https://www.buffalo.edu/romanell/blog/equality-or-priority.html

[90] Raz, Joseph, 1986, The Morality of Freedom, op.cit. p. 235.

ثقافة المجتمع.. كيف تحفز النمو الاقتصادي او تعيقه

  ورقة نقاش في الاجتماع السنوي 42 لمنتدى التنمية الخليجي ، الرياض 2 فبراير 2024 توفيق السيف يدور النقاش في هذه الورقة حول سؤال : هل ساهمت ...