في الاسبوع المنصرم كرس الاستاذ محمد العلي زاويته الظريفة في هذه الجريدة ، لاثارة التساؤل عن امكانية جمود الانسان على قديمه بينما تتطور الاشياء من حوله ، وهو اجاب على تساؤله على صورة عنوان مع وعد بالتفصيل في المستقبل ، ومضمون الفكرة كما يبدو من العنوان ، ان هذا الاحتمال ممكن ، لان تطور الانسان يعني في حقيقته تطور شبكة العلاقات الاجتماعية ، اطارها ومضمونها.
لقد سبق
الاستاذ العلي الى اثارة هذا السؤال عديد من الباحثين ، الذين درسوا قضية التنمية
والتحديث في العالم الثالث ، وفي هذا الاطار بالذات فمن الممكن اعادة طرح السؤال
على صيغ ثلاث :
1/ هل
يمكن تحقيق تنمية اقتصادية دون تنمية اجتماعية موازية ؟ .
2/ هل
يمكن للانماء الاقتصادي ان يكون فعالا ، في وضع البلاد على ابواب المدنية والتحضر
، في ظل استمرار الحياة الاجتماعية على انماطها القديمة.
3/ هل
يمكن الاعتماد على النشاط الاقتصادي كقاطرة لتحريك عجلة التغيير الاجتماعي؟.
عن
السؤال الاول يمكن الجواب بنعم ، اذا اخذنا المقاييس الكمية للنمو الاقتصادي ،
دليلا في تحديد مستوى النمو المتحقق ، فثمة مجتمعات حققت معدلات جيدة من النشاط
الاقتصادي ، وحظيت بنسبة نمو سنوي معقولة في ناتجها القومي الاجمالي ، على الرغم
من انها لم تقم باي خطوة رئيسية ، في اتجاه تحديث وتطوير حياتها الاجتماعية ، بل
ثمة بلدان قليلة السكان اقامت اقتصادا فعالا ، بالاعتماد شبه الكامل على اليد
العاملة الاجنبية ، وهذا بذاته دليل على ان الحاجة الى المجتمع المحلي في تنشيط
الاقتصاد ، غير حرجة الى الحد الذي يقال ان تنشيط هذا يتوقف على ذاك.
حيـاة مزدوجـة
ان السر
في هذه الازدواجية ، يكمن في وجود قدرة حقيقية لدى اي انسان للفصل بين دائرتين في
حياته ، هما دائرة العمل وكسب الرزق في جانب ، ودائرة الحياة الاسرية
والاجتماعية في جانب آخر ، فهو في عمله يستعمل احدث مافي العالم من وسائل ، بينما
يرتاح لكل ماهو قديم وموروث في حياته الاجتماعية.
وفي
تاريخ بلادنا ثمة امثلة غير قليلة على امكانية هذا الفصل ، في الثلاثينات
الميلادية ـ على سبيل المثال ـ استطاعت ارامكو ، شركة الزيت العربية الامريكية
التي كانت قد حصلت للتو ، على امتياز التنقيب عن الزيت في شرق المملكة ، استطاعت
استقطاب الالاف من العمال المحليين ، على الرغم من وجود تيار قوي يدعو لعدم العمل
عند النصارى والخضوع لامرهم ، وفي الوقت الراهن تجتذب البنوك المحلية ، مئات من
الموظفين الذين يتساءل بعضهم عن امكانية ابراء ذمته ، بالنظر لكونه يعمل في مؤسسة
ربوية.
بكلمة
أخرى فان الناس قادرين على ايجاد قدر من التوليف ، بين ادائهم للمتطلبات المادية ،
للحياة الجديدة التي تترافق مع النمو الاقتصادي ، مع اغفال متطلباتها الثقافية ،
بل ومحافظتهم الحازمة على انماط من العلاقات الاجتماعية ، تنتمي الى مراحل زمنية
سابقة ، وهذا الحال مشاهد ومحسوس يوميا ، بحيث لايحتاح الى بحث عن ادلة نظرية.
الاقـتصـاد والمدنيـة
اما
السؤال الثاني فهو لب القضية والاجابة عليه تعتمد كليا على تعريفنا لمعنى المدنية
والتحضر ، ومستوى التناسب بينها وبين النمو الاقتصادي ، وثمة اتفاق على ان المدنية
بمفهومها المتداول ، غير قابلة للتحقق دون تحديث مواز للحياة الاجتماعية ، بما
فيها من انماط تفكير وشبكة علاقات وقيم ناظمة لشئون الحياة المختلفة.
ويظهر
الفرق بين المجتمعات المتمدنة ونظيرتها المتخلفة ، متجسدا في اربع صفات:
1 ـ
الاستثمار الامثل للطاقات والامكانات المادية والبشرية المتوفرة في البيئة .
2 ـ
الكفاية المعيشية لعامة الناس .
3 ـ
ارتفاع مكانة الفرد ، وقدرته على التعبير عن ذاته ، واستثمار كفاءاته الشخصية في
الارتقاء الاجتماعي .
4
ـ قدرة المجتمع على تطوير امكاناته القائمة بما يلبي حاجاته الجديدة بأقل
قدر من الاعتماد على الخارج.
واضح ان
تحقق هذه الصفات في المجتمع ، لايأتي اذا اقتصر النمو على الجانب الاقتصادي ، وهذا
يقودنا الى السؤال الثالث ، فهل يمكن اعتبار النشاط الاقتصادي محركا للتغيرات
الاخرى المطلوبة ، لاسيما على المستوى الثقافي والاجتماعي؟.
يختلف
الباحثون من العالم الثالث عن نظرائهم الغربيين ، في الاجابة على هذا السؤال ، وهم
اميل الى القول بان تحديث المجتمع هو ثمرة لوجود ارادة محددة وقرار بالتغيير ،
بينما يعتقد اكثر الباحثين الغربيين ، ان وجود اقتصاد نشط من شأنه ان ينتج
اعتبارات وقيم جديدة ، تحتل مكان الثقافة التقليدية السائدة ، ويبدو لي ان الاتجاه
الاول صحيح في حالة الدولة المنفصلة عن السوق الدولية ، وقد كان هذا هو التوجه
السائد في معظم البلدان النامية ، في الفترة بين نهاية الحرب الثانية الى منتصف
السبعينات الميلادية ، اما في حالة الاقتصاد الوطني المتواصل والمفتوح على السوق
الدولية ، فان للاقتصاد فاعلية ملحوظة في التغيير الثقافي والاجتماعي ، لاتقل عن
فاعلية القرار والارادة الوطنية ، على الرغم من ان التغيير لاياتي على صورة منظمة
وخلال وقت قصير.
تكلفـة النمــو
ويرد
على هذا التوجه اشكالات رئيسية ، اهمها ان استثمار آلية الانفتاح الاقتصادي في
التغيير ، قد يؤدي ـ جبرا ـ الى تهشيم المقومات الثقافية الخاصة بالمجتمع النامي ،
ومن بينها هويته ومتبنياته التي تعبر في مجموعها عن شخصيته الوطنية.
وبالنسبة
للباحثين الغربيين فان هذه النتيجة ليست مؤلمة ، نظرا لسيادة فكرة العالم الواحد ،
الذي لاتفصل بين اجزائه حدود ثقافية ولاتعيق معاملاته حدود سياسية ، لكن بالنسبة
للعالم النامي فان هذا الانفتاح لايعني في خلاصته ، سوى تبعية دول الاطراف النامية
، للحواضر الرئيسية في الغرب الذي يحتل الان مكان المركز.
يبدو ـ
اذن ـ ان هناك امكانية لتطور ذي مسارين في اطار واحد ، احدهما سريع للاقتصاد ،
والآخر بطيء للانسان الذي يعيش في نفس الاطار ، لكن هل تؤدي هذه المسيرة الى
المدنية؟.
فلنقل
انها ربما تؤدي الى الرفاهية ، والفرق بينها وبين المدنية في غاية الوضوح.
نشر في
(اليوم) 14نوفمبر1994