أردت في مقال
الاسبوع الماضي دعوة القراء للتفكير في قيمة المعارف
التي يحملونها بالقياس لما عند غيرهم. ولعلي بالغت قليلا إذ زعمت ان ما تراه العين
وما تسمعه الاذن ، كلاهما من نوع الظنون ، ولا يرقى لمرتبة الحقيقة ، رغم ما شاع
بين الناس من اعتبار رؤية العين دليلا لا يقبل الشك.
اعمق الردود على تلك الفكرة ، هي قول احد الزملاء ،
بأن مضمون المقال يساوي انكار اي وجود للحقيقة في العالم. ، فكأن مراده ان الذي نراه
أو نعرفه مجرد وهم ، او – على احسن التقادير – مرحلة انتقالية بين الظن والحقيقة.ستيف جوبز (1955-2011)
لكني ما قصدت هذا بطبيعة
الحال ، بل اردت تشجيع القاريء على مجادلة قناعاته ، لا سيما الراسخة والعميقة
منها ، التي نظنها حقائق نهائية لا تقبل الشك ولا التعديل. وقد وجدت ان طرح
المسألة في صورتها الاكثر تطرفا ، أدعى لتحقيق المراد ، وهو إثارة الأذهان. ان
التفكير والتأمل هو الطريق الوحيد في اعتقادي لاكتشاف حدود المعرفة وقيمتها ، الأمر
الذي يهدينا للتواضع والتسامح ، واحترام الرأي المضاد ، مهما بدا غريبا عما ألفناه
أو ارتحنا اليه.
ما يثير الجدل في غالب
الأحيان ، ليس الحقائق الصريحة ، بل الآراء الملتبسة بالحقيقة او التي يدعي اصحابها انها تطابق الحقيقة. ان
اطلاق شخص مثلي صفة الحقيقة على رأيه ، لا يزيل عنها صفة الرأي الشخصي ، الا اذا
وافقه الناس جميعا ، او غالبية معتبرة منهم ، حيث تلبس حينئذ صفة الوجود الموضوعي
، مثل وصف "آيفون" الذي اخترعه ستيف جوبز ، فكان مجرد فكرة شخصية ، لكنه تحول لاحقا الى حقيقة موضوعية تشبه
الحقيقة التي نسميها التراب والشجر والحديد. فهل ياترى يمكن اطلاق نفس الوصف على
الآراء التي احملها انا وأنت أو سائر الناس ، الآراء التي تتعلق بمختلف قضايا
حياتنا او حياة الآخرين؟.
كنت قد شرحت في كتابة
سابقة رؤية الفيلسوف المعاصر كارل بوبر ، الذي
قسم موضوعات المعرفة الى ثلاثة اطارات او عوالم ، أولها الكون المادي الذي نعيش
فيه ، والذي يتكون من عناصر واقعية نستطيع لمسها بأيدينا. يتأمل البشر في هذه
العناصر ويسعون لفهمها واستكشاف الصلات التي تربط بينها ، ثم يضعون استنتاجاتهم في
صورة نظريات تتضمن وصفا وتفسيرا لما تعرفوا عليه.
اما العالم الثاني فهو
تصوراتنا عن ذواتنا وعن العالم المحيط بنا ، والتي تتشكل على ضوئها مواقفنا من
الاشخاص والحوادث. حركة الذهن في هذا الاطار هي ما يشكل عالمنا الذي نعرفه. بعبارة
اخرى فان مجموع تأملات البشر في انفسهم وفي الاخرين ، هي المصدر الذي يشكل معنى
العالم ومعنى الافعال التي يقوم بها البشر ، حين يتعاملون مع بعضهم.
ثالث العوالم هو مجموع ما
ينتجه العقل الانساني ، ويطرحه كموضوع مستقل عن صانعه وعن الاشخاص الآخرين ، نظير
مثال الآيفون الذي يبقى ويتطور بعد رحيل صاحبه ، الذي – على الارجح – ليس معروفا
عند غالبية مستعملي هذا الاختراع. ومثله ايضا الآلات والشبكات والبرامج والاعمال
الفنية والكتب والادوية والاغذية ، وكل شيء مطروح امام البشر كمنتج نهائي ، لا
يرتبط استمرار وجوده بارادة من صنعه.
هذه عوالم متفاعلة. فالعالم الاول يوفر موضوعات عمل الثاني ، حيث يتحول
التأمل الى فكرة جديدة ، يتحول بعضها الى منتج معياري ، يحفظ في العالم الثالث. رغم
انها مترابطة ومتفاعلة ، الا ان هذه العوالم الثلاثة لا تقبل التحديد أو الحصر ، كما
لا تقبل السكون والثبات ، فهي في حال تغير دائم: في الوصف والفهم والاعتبار ، كما
في حالة العالم الاول ، او في التفسير وطرق الانتاج ، كما في الثاني ، او في نوعية
المنتج النهائي وانتقاله من الأدنى للأعلى ، الذي نسميه "الاحدث" كما في
العالم الثالث.
عد الآن وفكر في رأيك: الى اي من هذه العوالم ينتمي ، كي تظنه حقيقة لا تقبل
الشك او الجدل؟.
الشرق الاوسط الخميس - 17 ربيع الثاني 1445 هـ - 2 نوفمبر 2023 م
https://aawsat.com/node/4642841
مقالات ذات صلة