ضمان العدالة هو الموضوع
الجوهري في العلاقة بين الحكومة والمجتمع في اي دولة. ويبدو مبدأ العدالة - على
المستوى النظري المجرد - واضحا الى درجة يستحيل معها تعريفه او وصفه. وهو من
المفاهيم القاعدية في الفكر الانساني، ولهذا اعتبره الفلاسفة اول المستقلات
العقلية، اي المفاهيم الثابتة بذاتها والتي لا تحتاج الى دليل خارجي.
والمستقلات
العقلية معايير موضوعية مقدمة على كل فكرة أخرى بما فيها الدين والعرف والعلم
والايديولوجيا والسياسة. فنحن نتخذ العدالة مقياسا لاثبات سلامة كل من هذه
الافكار، لكننا لا نحتاج الى اي منها لاثبات الحاجة الى العدالة او سلامتها كمبدأ.
لا زال معظم الابحاث
المتعلقة بالعدالة تتبع منهج ارسطو، الفيلسوف اليوناني، الذي قسم العدالة الى
ثلاثة سياقات:
العدالة الجزائية «اي معاقبة المعتدي» والعدالة التصحيحية «اي تعويض
المجني عليه عما لحق به بسبب العدوان» والعدالة التوزيعية «اي توزيع المنافع
والاعباء بين افراد المجتمع على نحو منصف». وقد اجتذب القسم الاخير الجانب الاكبر
من النقاشات في الفلسفة السياسية في العصور الحديثة. وتبعا لهذا تحول مفهوم
التوزيع العادل للموارد الى موضوع مستقل بذاته، يحمل عنوان "العدالة
الاجتماعية".
طريقة تأمين العدالة
الاجتماعية هي الفارق الرئيسي بين الايديولوجيات وانظمة الحكم الرئيسية في العالم
المعاصر. نظرية السوق الحرة التي تدعو اليها الليبرالية، مثل نظرية التخطيط
المركزي التي تدعو اليها الاشتراكية، هي وسائل مختلفة يراها اصحابها اقدر على
تحقيق العدالة الاجتماعية.
يميل كثير من الفلاسفة
المعاصرين الى نظرية ديفيد ميلر الذي ادعى ان مفهوم العدالة مستقل على المستوى
التجريدي، لكنه نسبي على مستوى التطبيق. وهو يرى ان في العالم ثلاثة انواع من
الانظمة الاجتماعية، لكل منها مفهوم خاص للعدالة: المجتمع البدائي، والمجتمع
الطبقي، ومجتمع السوق الحرة. وتبعا لايمانه بالنظام الاخير، فهو يعتقد ان آليات
التبادل الحر للسلع والخدمات هي الوسيلة الامثل لتوزيع الثروة والنفوذ وبالتالي
تحقيق العدالة الاجتماعية.
واجتذبت هذه النظرية اهتمام الباحثين لانها تربط بين
العدالة وتساوي الفرص. وفي الوقت الحاضر ثمة فلاسفة يدعون ان دور الحكومة يتمحور
في ضمان تساوي الفرص لجميع الناس. وانعكس هذا الاتجاه بشكل عميق على الفكر السياسي
والدراسات المتعلقة بالدولة والتنمية والديمقراطية. ولعل كثيرا من القراء يعلمون
ان التعريف الاكثر رواجا للتنمية هو ذلك الذي تبناه برنامج الامم المتحدة للتنمية
البشرية، والذي ينص على ان الحكومات مسؤولة عن توفير البيئة المناسبة لضمان
المساواة في الفرص لجميع المواطنين من خلال زيادة الخيارات المتاحة لهم.
وطبقا
للشروحات التي اعتمدها البرنامج في ادبياته، فان تساوي الفرص يقتضي جملة من
التمهيدات الضرورية من بينها اخضاع جميع المواطنين لقانون عام واحد، من دون تمييز
لاشخاص او مجموعات. ومن بينها تمكين المواطنين جميعا من الاعتراض والشكوى لمحكمة
مستقلة اذا تعرضوا لتمييز على اي مستوى. ويدعو البرنامج الى معالجة العوائق التي
تحول دون تحقق المساواة في الفرص، مثل عدم قدرتهم على الوصول الى مصادر المعلومات
ومصادر التمويل الضرورية للمنافسة المتكافئة.
ومن بين الموضوعات الاكثر
اثارة للجدل اليوم هو الثمن المعادل للفرصة. ففي كل مجتمع ثمة اشخاص يحصلون على
فرص اكثر من غيرهم، ربما بسبب كفاءتهم الشخصية او بسبب علاقاتهم او مواقعهم
الاجتماعية. التجار المقربون من الحكومة مثلا يحصلون على فرص اكثر من غيرهم، ورجال
الدولة انفسهم اكثر معرفة بالفرص والموارد المتاحة للتوزيع واكثر قدرة على اختيار
الافضل من بينها. على صعيد آخر فان الاثرياء اكثر استهلاكا للموارد المشتركة كمثل
على هذا فان الذين يملكون السيارات يستهلكون الطرق المبنية باموال عامة يشترك فيها
من يملك ومن لا يملك، والمقاولون يستهلكون الموارد البيئية «في الحقيقة يدمرون
البيئة» التي يشترك في ملكيتها جميع الناس.. الخ.
فهل يتوجب على هؤلاء ان يدفعوا
ثمن المنافع الاضافية التي يختصون بها دون غيرهم؟. بعبارة اخرى فان جميع الناس
شركاء في المال العام الذي بني به الشارع مثلا، لكن بعض هؤلاء لا يملك سيارة ولا
يستعمل هذا الطريق، وبعضهم الاخر يملك عشرات السيارات التي تستهلك الطريق اكثر من
غيرها، فهل يتحمل هؤلاء نفس العبء المالي المقابل لاستهلاكهم؟. هل من العدل ان
نبني باموال الفقير شارعا يستمتع به الغني؟.
مثل هذا السؤال كان مبررا
لاتجاه دول كثيرة الى فرض ضرائب على الدخل، غرضها اعادة توزيع الموارد المالية بين
جميع المواطنين، فالذي يملك اكثر يستهلك اكثر، والذي يستهلك اكثر يدفع ضرائب اكثر.
ويبدو هذا المبدأ جذابا للوهلة الاولى، رغم انه لا يخلو من اشكالات. لكن المسالة
الاكثر حيوية هي توفر الفرص المتساوية على جميع الاصعدة لجميع المواطنين. يجب
القول مبدئيا ان اي بلد في العالم لا يوفر – حاليا على الاقل – فرصا متساوية تماما
لجميع مواطنيه.
لكن الحكومات تتفاوت من حيث عزمها على السير في هذا الاتجاه. ان اي
حكومة لا تعتبر عادلة ما لم يكن لديها استراتيجية واضحة وعملية لزيادة الفرص
المتاحة للجميع. استراتيجية تحدد اسباب التمايز والتمييز والطرق المناسبة والممكنة
للقضاء عليه.