لا
بد ان كثيرا من العرب قد اصيب بالدهشة حين انتخبت الهند ، في مايو 2004 ، رئيس
حكومة ينتمي للطائفة السيخية. وبالنسبة للاسلاميين فقد كانت الدهشة مضاعفة حين
علموا ايضا ان رئيس الجمهورية في الهند عالم مسلم. يمثل الهندوس 80 بالمائة من
سكان الهند ، ويمثل السيخ اثنان بالمائة فقط من سكان الهند ، بينما يمثل المسلمون
14 بالمائة . والحق ان الهند تنطوي على الكثير من العجائب ، لكن اعجب ما فيها هو
ديمقراطيتها المتينة التي مكنتها من صيانة وحدتها الوطنية في وسط خضم هائل من
اللغات والاديان والهويات المتعارضة. في 1984 تمرد السيخ على الحكومة المركزية ،
فهاجم الجيش معبدهم الرئيسي (المعبد الذهبي) في امريتسار . وعلى اثر ذلك قتل ضابط
في الحرس الرئاسي رئيسة الحكومة يومذاك انديرا غاندي. لكن الهند الديمقراطية لم
تنتقم من السيخ بعد هذه الحادثة ولم تعزلهم عن الحياة العامة . وهاهي اليوم تنصب
واحدا منهم رئيسا لها بدعم الجميع .
مصلون في النهر قرب المعبد الذهبي في امريتسار - الهند |
المجتمع
الوطني في اي بلد هو توليف من عدة مجتمعات صغيرة تتمايز عن بعضها في اللغة او في
الدين او المذهب او نمط المعيشة او مستوى النمو. كل واحد من هذه التمايزات يمثل
اساسا لهوية خاصة. الاساس في فكرة الدولة الحديثة ، انها توفر هوية وطنية تجمع في
ظلها كل الهويات الصغرى التي تنتعش وتتفاعل دون تعارض مع الهوية الوطنية الاعلى.
تصارع
الهويات المحلية (دون الوطنية) هو واحد من اعقد المشكلات التي يعانيها العالم
العربي . كل قطر ينطوي على تنوع مذهبي او ديني او معيشي ، لكن السياسة العربية
مترددة في الاعتراف بما يترتب على هذا التنوع من حقوق متساوية للجميع. السياسة
العربية هي سياسة اكثريات تنفي الاقليات بل تقمعها . وهي في بعض الاحيان سياسة
اقليات تنفي الاكثريات وتقمعها . وفي كلا الحالين ، فان المشهد السياسي هو مشهد
فئة غالبة تستأثر بكل شيء وفئة مغلوبة تكافح من اجل ابسط الاشياء. مشكلة لبنان
ومشكلة العراق ومشكلة الجزائر والسودان والكثير من الاقطار الاخرى هي في جوهرها
مشكلة العجز عن استيعاب التنوع القائم بالفعل . اي اقامة العلاقة بين المواطنين من
جهة ، وبينهم وبين الدولة من جهة اخرى على قاعدة المواطنة ، ايا كانت مذاهبهم او
لغاتهم او ثقافاتهم او مواقفهم السياسية والايديولوجية.
بعض
المهذبين يتحدث عن استيعاب المختلف باعتباره مبدأ اخلاقيا ، وهو صحيح في العموم ،
لكنه فيما يخص الوحدة الوطنية ، ليس موضوعا اخلاقيا ، بل هو جوهر فكرة الحقوق
والواجبات المتبادلة التي تقوم عليها وحدة الوطن.
يعجب
الانسان للمنطق الذي يرى ان للاكثرية حقا خاصا يتجاوز حقوق الاقلية باسم الدين او
السمو العرقي او الصفاء العقيدي او التقدم المعيشي او اي سبب اخر . الدولة الحديثة
هي دولة المواطن وليست دولة الاكثرية او الاقلية . هذا هو المنطق الوحيد القادر
على صيانة الوحدة الوطنية على المدى البعيد .
اذا كنا لم نتعلم من تجارب الصراعات الاهلية في
الوطن العربي ، فلنتعلم من تجربة الديمقراطية في الهند . الديمقراطية التي سمحت
بوصول اثنين يمثلان 16 بالمائة فقط من السكان الى اعلى منصبين في البلاد.
عكاظ 5 يونيو 2004