ذكرت في مقالين سابقين ان
التيسير اصل في سلامة الحكم الشرعي. بمعنى ان الحكم المؤدي للعسر او الحرج قابل
للطعن من جانب المكلف. وهذه قاعدة جارية في الفقه وفي القانون كما في الاخلاق.
هناك بطبيعة الحال اناس يرغبون في التشديد على انفسهم تطوعا او رياضة.
وتنقل كتب
السير عن رجال روضوا انفسهم بخشونة العيش وترك اللذائد ، حتى تعتاد الانس بطريق
الذاكرين. نعرف ان هذه الممارسة تجربة ذاتية ، يأخذ بها القليل من الناس ويستصعبها
الكثير. وقد يوصي بها الفقيه حوارييه او خلص اصحابه، لكنه لا يأمر بها عامة الناس.
فالاصل في الدعوة وتبليغ الرسالة هو الامر بالعرف، اي الحد المتعارف والمقبول من
عامة الناس، وهو فحوى الرواية التي تنقل عن الامام علي بن ابي طالب.
التيسير في الفتوى واجتناب
ما يؤدي الى العسر والحرج من القواعد الراسخة في الشريعة وهي مؤيدة بنصوص صريحة في
القرآن والسنة النبوية الشريفة، اضافة الى الادلة العقلية. ولهذا تبدو الفكرة
واضحة بما يغني عن مزيد البيان. لكن الامر الذي يبدو غامضا هو طبيعة العسر والحرج
الذي نتحدث عنه ومن هو المرجع في تشخيص ما اذا كان حكم معين سببا في عسر ام لا.
فهل نتكلم عن الحرج النفسي، او المادي، او الاجتماعي ؟. وهل يا ترى نرجع الى
الفقيه في تشخيص الحالة، ام نرجع الى العرف الاجتماعي، ام نترك للمكلف ان يشخص
حالته؟.
بعض الناس قد يرى الخيار
الثالث اقرب الى روح الدين فالشخص اعرف بظروفه واوضاعه الخاصة. كما ان تطبيق الحكم
الشرعي منظور فيه نية التقرب الى الله، والنية مكانها القلب فلا يعرفها غير المكلف
نفسه. لكن الخيار الاول هو الخيار السائد بين الدعاة والفقهاء. وهو امر متوقع، فهم
يرون انفسهم اعرف بالحكم وموضوعاته وانهم الامناء على سلامة تطبيق الشرع. وذهب
كثير من اهل العلم الى ان العرف هو المرجع في تشخيص موضوعات الاحكام. وامتدادا له
يمكن القول ان تشخيص موارد العسر والحرج راجع ايضا الى العرف العام.
لا يخلو اي من الخيارات
الثلاثة من اشكالات نظرية وعملية. فالتعويل على تشخيص الفرد معقول اذا كانت حدود
انطباق الحكم محصورة في شخصه. لكنه غير معقول اذا ترتبت عليه الزامات او تصرفات
تمس الغير. والتعويل على تشخيص الفقيه فيه احتمال الانحياز، خاصة مع اختلاف نمط
المعيشة ومصادرها واختلاف الثقافة بينهم وبين عامة الناس. وقد رأينا امثلة لذلك في
موقف اكثرية الدعاة من تحريم اقتناء اجهزة استقبال القنوات الفضائية رغم ميل
الاكثرية الساحقة من الناس اليها، ونسمع اليوم عن الجدل حول تجويز او منع اقتناء
اسهم شركات معينة لانها تتعامل مع بنوك تتهم بالربوية.
وثمة حوادث نشرتها الصحف في
الايام الماضية تشير الى ميل كثير من الدعاة الى التشدد في امور ليس فيها نص وليست
من مواضع الاجماع، وهو خلاف التيسير. فهذه وتلك تشير الى ان العرف السائد بين
الدعاة مختلف عن عرف عامة الناس، بغض النظر عن الرأي في سلامة هذا العرف او ذاك.
وعلى نفس الخط فان الرجوع
الى العرف العام، اي رأي عامة الناس، يثير اشكالات غير قليلة، خاصة مع قلة الادوات
العلمية المعتبرة لكشف الرأي العام. لعل ابرز تلك الاشكالات هو تحديد نطاق العرف
المقصود. فلو كنا نتحدث عن قرية معزولة لامكننا اكتشاف العرف الخاص بها. لكن ماذا
نفعل في دولة او مدينة كبيرة يهاجر اليها الناس من شتى بقاع الارض، وتجد فيها
اعرافا عديدة بعدد المجتمعات التي ينتمي اليها سكانها.
ثم ان العرف ليس قيمة ساكنة،
فهو يتغير مع تغير الثقافة والظروف المعيشية ونظام المجتمع. فبعض الاعراف التي كانت
راسخة قبل عقدين او ثلاثة لم تعد اليوم سوى ذكرى قديمة. بعض ما كان مرغوبا اصبح
اليوم متروكا وبعض ما كان مستغربا اصبح اليوم اعتياديا مألوفا. خذ مثلا الحرف
اليدوية التي كان ابناء القبائل يعتبرون الانشغال بها عيباً، لكنها اليوم حرف
محترمة ومرغوبة. وخذ مثلا إعراض رجال الامس عن الزواج من المرأة العاملة، فاذا بها
اليوم مقدمة على تلك القاعدة في البيت. فهذه وتلك اعراف متحركة ومتغيرة بتأثير
الثقافة والمعيشة فضلا عن السياسة.
عكاظ 14 مايو 2008 https://www.okaz.com.sa/article/184679