‏إظهار الرسائل ذات التسميات القاعدة. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات القاعدة. إظهار كافة الرسائل

08/07/2015

بحثا عن عصا موسى


الاسبوع الماضي اعلن الرئيس التونسي فرض حالة الطواريء ، بعدما قتل ارهابيون 38 سائحا في فندق بمدينة سوسة على الساحل الشرقي. وكالعادة ، فقد رحب بالقرار كثيرون يؤمنون بالحلول السريعة والحاسمة للمشكلات.
هذا التاييد يشعرني بالقلق ، نظرا لما أراه من اعراض عام في الثقافة العربية عن الحلول الطويلة الامد. عرفت تونس العنف السياسي منذ زمن طويل نسبيا ، كما في حوادث قفصة عام 1980 وجربة عام 2002. لكني اميل للاعتقاد بأنه ليس ظاهرة مألوفة في هذا البلد. على ان هذا التاريخ بذاته يخبرنا ان هناك قابلية لظهور الارهاب وربما تحوله الى ظاهرة واسعة. وهذا بالتحديد ما يدفع للمطالبة بعدم الاقتصار على الحلول الامنية.
التحليل المتداول مغرم بنسبة العنف السياسي المنتشر هذه الايام الى ما يوصف بالغلو والتحريض. ومثل هذا التحليل ينصرف غالبا الى حل أحادي خلاصته نشر ما يوصف بالتدين الوسطي واسكات الدعاة المحرضين. كنت آمل ان لا يستمع السياسيون الى مثل هذا التحليل التبسيطي. لكن واقع الحال يخبرنا ان اكثرية الناس ورجال السياسة لا يودون الاستماع الى غيره. ذلك انه يقدم تبريرا بسيطا وحلا بسيطا مثله ، ولا يحملهم اي مسؤولية وراء ذلك. يمكن لاي سياسي ان يقول ببساطة ان سبب المشكلة يكمن في هذا المسجد او ذلك الداعية ، وليس في سياسات الدولة ولا اعمالها. الحل اذن هو اغلاق ذلك المسجد او اسكات الداعية.
لكنا نعلم ان الناس لا يحملون السلاح لانهم قرأوا كتابا او استمعوا الى خطيب. لا يتحول الانسان من شخص لطيف موادع الى آلة قتل وتدمير دون مقدمات طويلة. لا تتغير ذهنيات الناس بشكل مفاجيء. لم يحدث هذا ابدا ، ولا يوجد اي دليل علمي او دراسة ميدانية تدعم هذا التصور. السبب الوحيد الذي يدفعنا لقبول مثل هذه التحليلات الساذجة هو رغبتنا في الخلاص من همّ التفكير المعمق في اسباب واعراض المشكلات ، او قلة صبرنا على الحلول الطويلة الامد ، او ربما الاغترار بالقوة المادية التي تملكها السلطة. كثير من كتابنا وخطبائنا يكررون علينا صورة "المستبد العادل" التي طرحت في اوائل القرن العشرين ، باعتبارها الدواء الشافي لمشكلاتنا. لكننا نعلم ان هذا التصوير العتيق ينتمي الى ظرف تاريخي لم تعد شروطه قائمة ولا قابلة للانبعاث.
فكرة المستبد العادل تشبه كثيرا فكرة "عصا موسى" التي تلتهم الافك كله ، وتقضي على الباطل كله في لمحة عين. اظن ان ثقافتنا العامة مهووسة بهذا النوع من الحلول السحرية ، لانها سريعة ، حاسمة ، وغير مكلفة. لهذا السبب ربما نطالب الدولة بالحسم والسرعة وعدم التردد.
تجربة العالم ، وبالخصوص تجربة العرب في السنوات العشر الاخيرة علمتنا ان اسرع الحلول قد يكون أسوأها ، وان الحل البطيء الممل قد يكون هو الاختراق الحقيقي.
ربما نقتل جميع الارهابيين ، لكن هذا الحل بذاته سيغذي البيئة الثقافية-الاجتماعية الحاضنة لبذور الارهاب. لو واصلنا الاعتماد على الحلول الأمنية السريعة ، فقد نرتاح من العنف اليوم ، لكنه سيعود الينا غدا او بعد غد.
اعلان الطواريء يدفع بالمجموعات الارهابية تحت الارض. كانت مصر تحت قانون الطواريء منذ 1956 حتى 2011. وكانت سوريا كذلك منذ العام 1971 ، وكان العراق مثلهم منذ 1968 ، وليبيا منذ 1969. وها نحن اليوم نرى ان العنف السياسي اكثر تجذرا ورسوخا وقوة في هذه البلدان على وجه التحديد. فهل كانت احكام الطواريء علاجا؟.
المغالاة الايديولوجية والتحريض على القتل والقتال – سواء كان دينيا او علمانيا – هو الرداء الخارجي او التبرير الثقافي/النفسي للميول العنفية. أما مصدر هذه الميول فيوجد في العلاقة بين المجتمع والدولة ، او في الاقتصاد او في النظام الاجتماعي أو في الثقافة العامة.
بعبارة اخرى فاننا بحاجة الى البحث في هذه المصادر: التوترات الثقافية التي تقود الى تأزيم الهوية ، او تأزم العلاقات الاجتماعية ، او انسداد الافق السياسي ، او ضيق القانون ،  او العجز عن التكيف مع المسارات الاقتصادية ، او غيرها. كل من هذه يشكل مصدر توتر نفسي يجعل افرادا بعينهم ، او ربما شريحة اجتماعية مستعدة لتقبل العدوان باعتباره حلا او باعتباره تنفيسا او انتقاما.
معالجة هذه المصادر يتطلب سياسات موسعة وطويلة الامد ، قد لا نشعر بثمارها خلال عام او عامين. لكنها ربما تكون طريقا للخلاص من بذور العنف ومن جذوره الكامنة في اعماق المجتمع.
الشرق الاوسط 21 شهر رمضان 1436 هـ - 08 يوليو 2015 مـ رقم العدد [13371]
http://goo.gl/Z4WiIC


14/01/2015

استنهاض روح الجماعة



في اكتوبر الماضي اظهرت استطلاعات الرأي ان 15% فقط من الفرنسيين يرغبون في خوض الرئيس هولاند الانتخابات الرئاسية المقررة في 2017. وهذا ادنى مستوى تاييد يحصل عليه رئيس فرنسي منذ الحرب العالمية الثانية.
لكن الحال تبدل كليا هذا الاسبوع ، بعدما نجح هولاند في تنظيم أوسع اصطفاف شعبي وراء الحكومة منذ الثورة الطلابية في 1968. الامر المؤكد ان الحكومة الفرنسية ماكانت تتمنى هجوما دمويا كالذي شهدته باريس وحصد 20 قتيلا. مثل هذا الهجوم سيثير ارتياب الجمهور في كفاءة الحكومة وقدرتها على صون الامن العام ، سيما في ظروف العالم الراهنة. لكن حكومة هولاند اظهرت براعة في التقاط كرة النار ثم رميها مرة اخرى في الاتجاه الذي ارادت ان يسرق انظار الناس ، ليس في فرنسا وحسب ، بل في اوربا والعالم اجمع. وهكذا تحولت باريس يوم الاحد الماضي الى مهوى لقلوب الفرنسيين ، بل عاصمة للعالم حين تقدم الرئيس هولاند مسيرة شعبية ، يحيط به زعماء من 50 دولة ، ويتبعهم نحو مليوني متظاهر.
لا أحسد الفرنسيين على ما حل بهم ، بل اغبطهم على هذه القدرة الفائقة في تحويل الهزائم الصغيرة الى انتصارات كبيرة. في الاحوال الاعتيادية يؤدي مثل ذلك الهجوم الارهابي الى اثارة الفزع بين الناس في المرحلة الاولى ، ثم اتهام الحكومة بالتقصير والفشل ، ثم انبعاث نزعة التلاوم والبحث عن كبش فداء ، ثم انفلات غريزة الانتقام من الشريحة التي ينتمي اليها القتلة ، وهم في هذه الحالة المسلمون والفرنسيون من اصول عربية وافريقية وربما بقية الاجانب.
مثل هذا السيناريو الذي تكرر فعليا في بلدان اخرى ، كان سيؤدي على الارجح الى مضاعفة عدد الضحايا وتعميق التفارق والانقسام في المجتمع الفرنسي ، اي تدشين ظرف اجتماعي – سياسي متأزم يصعب التنبؤ بنهاياته.
 بدل الانفعال بالحادثة ، قرر الرئيس الفرنسي تحويلها الى مناسبة لأحياء الاجماع الوطني وتعزيز دور فرنسا القيادي في العالم. منذ لحظة الهجوم تحول الرئيس ووزرائه الى مبشرين بقيم الجمهورية ، سيما قيمة الحرية والمساواة والتنوع الثقافي والسياسي ، مع التشديد على كونها ابرز اركان وحدة المجتمع والهوية الوطنية الجامعة. ولفت نظري خصوصا منع اليمين المتطرف من تنظيم مظاهرة معادية للمهاجرين ، فضلا عن منع زعيمه جان ماري لوبان من المشاركة في تظاهرة باريس الكبرى ، خشية تحويل جانب منها نحو شعارات العداء للمسلمين والاجانب.
الهجوم على صحيفة اشلي ايبدو كان من نوع الصدمات التي تهز توازن المجتمع وتطلق تيارا لا ينتهي من النزاعات الداخلية. لكن وجود قيادة بعيدة النظر حول هذه الصدمة الى مبرر لاستنهاض روح الجماعة. روح الجماعة هي الوطن الحقيقي. واذا انبعثت فانها توفر قوة هائلة ، يمكن استعمالها في النهوض بالوطن او في احتواء ما يواجه من تحديات.
الشرق الاوسط  14 يناير 2015 مـ رقم العدد [13196]
http://aawsat.com/node/266486#.VLitvbBDBTk.twitter

31/12/2014

موسم الهجرة الى السلاح



ثمة حولنا ما يمكن وصفه بجيش أممي يتألف من الاف الشبان المستعدين للهجرة من أوطانهم الى سوح القتال. من افغانستان الى لبنان ومن اواسط آسيا الى تشاد والبلقان. انه جيش غير منظم ولا منضبط ، لا يسعى رجاله وراء الرواتب والرتب العسكرية ، مقصدهم الوحيد مكان يتيح لهم المشاركة في الحرب.

عرفنا رجالا من الخليج قاتلوا في الشيشان والبوسنة ، وجزائريين قاتلوا في افغانستان ، وتونسيين ذهبوا الى العراق وسوريا ، وهكذا. شهد العالم ظاهرة شبيهة في اربعينات القرن المنصرم حين تنادى الشيوعيون للمشاركة في الحرب الاهلية الاسبانية (1936-1939) نصرة للجمهوريين بقيادة "الجبهة الشعبية"  اليسارية. كذلك الحال في السبعينات حين انضم عشرات من الناس من دول مختلفة الى المقاومة الفلسطينية. لكن هذه مثل تلك كانت اضيق نطاقا من الحشد الاممي الذي نشهده اليوم.

اظن ان الاف الشبان الذين تسللوا من بلدانهم للالتحاق بالجماعات المقاتلة منذ اوائل الثمانينات ، كانوا يسعون وراء تحقيق ذواتهم من خلال القيام بعمل ، قدروا انه يسهم في تغيير العالم. الاف مثلهم حاولوا تحقيق ذواتهم من خلال التجارة او العلم او الدعوة الدينية او حتى من خلال المشاركة في الصراعات السياسية السلمية ، او غيرها من الحقول. لكن اولئك الشبان على وجه التحديد رأوا في الحرب ظرفا وحيدا لتحقيق الذات. 
والمثير في الامر ان هؤلاء اشد ميلا الى الجماعات الاكثر تطرفا ، اي الاكثر استعمالا للعنف. ثمة عشرات من الجماعات المسلحة التي توصف احيانا بانها معتدلة ، لكن المهاجرين للحرب يتجهون عادة للجماعات المشهورة بالتطرف. هذا يكشف ربما ان العامل المحرك لهم ليس الجهاد كموضوع ديني ولا التحرير كموضوع سياسي ، بل الحرب ذاتها كأداة للتغيير. السلاح هو عباءة سوبرمان التي يرتديها الانسان العادي فيمسي قادرا على قهر الغير والزامه بمشيئة المسلح او الجماعة التي ينتمي اليها.
من يستمع لأحاديث الشباب الذين تضيق نفوسهم بأساليب الدعوة البطيئة والحوارات الطويلة المملة والاساليب البيروقراطية التي تتبعها الحكومات ، فسوف يكتشف دون عناء انهم يبحثون عن عصا سحرية ، يهزونها في وجه المشكلة فيولد الحل. بالنسبة لكثير من الشباب الحالم ، فان السلاح هو العصا السحرية التي تغير الحقائق على الارض ، وتحولهم من كائنات متسائلة معطلة او مقيدة الى شركاء في تغيير العالم.
بحث الشباب عن ذاتهم ، بحثهم عن دور في تغيير الواقع ، ليس السبب الوحيد الذي حرك الاف المهاجرين نحو ساحات الحرب المتنقلة. لكنه – كما أظن – عامل يستحق التأمل. لو درسناه كواحد من الاحتمالات فلربما ساعدنا في كشف نقاط ضعف في نظامنا الاجتماعي او في سياساتنا او في نظامنا القانوني ، تشكل في مجموعها الثقب الاسود الذي يتساقط فيه هؤلاء الشباب ، فيتحولون من قوة بناء الى مكينة قتل وتدمير في هذا البلد او ذاك.
الشرق الاوسط 31 ديسمبر 2014 مـ رقم العدد [13182]
http://aawsat.com/node/255216

26/08/2014

مقدسات التغيير


لو اردنا الاعتبار بدروس التاريخ ، فسوف نعرف ان الازمات الكبرى شكلت نقطة انبعاث للمجتمعات المغلوبة ، يوم  حظيت بشجاعة التحرر من الغرائز البدائية وقيود العادة.
كان ارنولد توينبي ، وهو ابرز مؤرخي القرن العشرين ، قد اعتبر الصراع محركا رئيسيا للتحولات الحضارية وحركة التاريخ بشكل عام. الامم التي تواجه تحديات وجودية تبدع وسائل جديدة لاستيعاب التحدي ومواجهته. صنف توينبي تلك التحديات الى ثلاثة مستويات: تحد ضعيف لا يثير اهتمام المجتمع ، وتحد جارف يقوده الى الاستسلام وربما تدمير الذات ، وتحد متوسط القوة يطلق طاقة حيوية جديدة ، تقاوم عوامل الوهن والهزيمة ، فيشكل - بالتالي- نقطة انطلاق الى مسار جديد نحو التقدم والقوة.
Arnold Toynbee
ارنولد توينبي
مناسبة الكلام هو التحولات الهائلة التي تواجه العرب هذه الايام ، وتحمل في مجموعها صفة التحدي الوجودي ، على النحو الذي شرحه توينبي. كشفت هذه التحولات عن نقاط ضعف كبرى في البنية الاجتماعية/السياسية لكافة المجتمعات العربية. لكنها كشفت ايضا عن نقاط قوة عظيمة الاهمية ، لا يصح اغفالها او تهوين اهميتها. 
ويهمني في هذه الكتابة التنبيه على ما اظنه شرطا ضروريا لتحديد اتجاه "الاستجابة للتحدي". الا وهو توفر ايديولوجيا التغيير. تتألف ايديولوجيا التغيير من مجموعات مقولات ميتافيزيقية (نتبناها بها لاننا نريدها وليس بالضرورة لانها ثابتة علميا او تجريبيا). 
تتمحور هذه المقولات حول ثلاثة مباديء ينبغي رفعها الى درجة القداسة:
 واولها تعزيز الايمان باننا - كمجموع - قادرون على حل مشكلاتنا بانفسنا ، قادرون على منافسة الاخرين والتفوق عليهم ، واننا – كأفراد – قادرون على تجاوز خلافاتنا والانصهار في بوتقة فكرة قائدة ، هي فكرة التقدم.
 المبدأ الثاني: هو ثنائية المتعدد/الواحد وخلاصتها ان كل مواطن فرد ، رجلا او امرأة ، مختلف عن الاخر في عقله او فكره او تطلعاته او همومه ، وان هذا التنوع في الافكار والتعبيرات والقدرات والتطلعات يقود طبيعيا الى فتح مسارات كثيرة ، يجب تأطيرها على نحو يجعلها روافد تصب في المجرى الرئيس لنهر التغيير وتساهم في حركة التقدم. 
المبدأ الثالث يتناول موضوع التغيير ، ويتلخص في اصلاح سياسي باتجاه توسيع ومأسسة المشاركة الشعبية في  الحياة العامة ، وتحول اقتصادي باتجاه التركيز على الصناعة سيما الصناعات الاساسية والتحويلية ، وتحول اجتماعي محوره صون الحريات الشخصية والمدنية لكافة الافراد.
زبدة القول ان الازمات الهائلة التي نمر بها هذه الايام يمكن ان تعصف بوجودنا كله (وقد شهدنا بدايات هذه الكارثة في اكثر من دولة مجاورة) ، كما يمكن ان تشكل مفتاحا لعصر جديد وتاريخ مختلف ، نحقق فيه اكثر آمالنا. اعلم ان احدا لن يختار الكارثة ، لكن اختيار البديل رهن بالاستعداد لدفع ثمنه السياسي والثقافي والنفسي. ولهذا حديث آخر ربما نعود اليه لاحقا.
الاقتصادية 26 اغسطس 2014
http://www.aleqt.com/2014/08/26/article_880253.html

22/07/2014

احتواء التحدي وتحييده


اعلان داعش عن دولتها وخليفتها كان الشغل الشاغل للمجتمع السعودي خلال الاسبوع المنصرم. كان هذا واضحا في احاديث المجالس والصحافة وفي مواقع التواصل الاجتماعي.
كثير منا لا يرى في داعش تهديدا وشيكا. لكن كثرة النقاش حولها تشير الى قلق عميق في نفوس الناس من تحد لا يبدو اننا متفقون على "كيفية" تحييده. والمؤكد ان هذا القلق ازداد بعد العدوان الآثم على مركز الوديعة الحدودي الذي كلف البلد خمسة شهداء من رجال الامن. هذا الحادث ذكرنا جميعا بأن داعش ليست في شمال العراق ، بل هي ، بعض منها على الاقل ، على حدودنا.
لا ينبغي تهويل الامر. فهذا العدوان الغادر ليس دليلا على تهديد وشيك من النوع الذي تمثله داعش العراقية. لكن المسألة ككل تمثل خطرا ثقافيا وسياسيا لا ينبغي التقليل من اهميته. اعلان داعش عما تسميه "خلافة اسلامية" يستهدف مباشرة التشكيك في الشرعية السياسية والقانون الجاري في دول المنطقة كلها. وقد يكون مجتمعنا ابرز المستهدفين بهذا المخطط ، نظرا لأن النموذج الثقافي- الديني السائد يحمل سمات مقاربة ويعبر عنه بلغة مماثلة. وهو قادر على التاثير خصوصا في الشرائح الاجتماعية التي تشعر بالاحباط او تتطلع الى حلول سحرية للمشكلات التي تعانيها او تتخيلها.
يتجه تهديد الخطاب الداعشي في المقام الاول الى "الاجماع الوطني" ، أي ذلك التوافق الضمني على نظام العلاقة بين ابناء الوطن والسبل المتعارفة لادارة تعارضات المصالح.
حكومتنا هي اللاعب الوحيد في الميدان السياسي والقانوني. فهي تحتكر بشكل كامل العمل السياسي ، كما تراقب بشدة  العمل المدني (الذي يفترض ان يكون اهليا). ولذا فهي تتحمل الجانب الاعظم من الاعباء الخاصة بصيانة الاجماع الوطني وتعزيزه.
هذا يعني ان على الحكومة الكثير مما ينبغي القيام به لتحصين البلد من اخطار الخطاب الداعشي. واشير هنا الى عنصر واحد اراه ضروريا وعاجلا ، الا وهو التخلي عن السياسات الخشنة التي اتبعت خلال العامين الاخيرين ، واستبدالها بسياسات ملاينة للمجتمع والقوى الاجتماعية. نستذكر هنا الخطاب الرباني للرسول عليه الصلاة والسلام "ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الامر".
في 1993 سمعت المرحوم الملك فهد يقول ان "الحكومة اقوى من كل احد في البلد وانها قادرة على سجن من تشاء وقهر من تشاء لو ارادت ، لكن هذا لا يقيم مجتمعا متعاطفا مترابطا. التفاهم والحلول اللينة هي التي تبني الاوطان". واني اجد بلادنا بحاجة الى هذه الرؤية اليوم ، اكثر من أي وقت مضى. اني ادعو حكومتنا الى تبني استراتيجية الملاينة والتفاهم واعادة استيعاب المختلفين والمخالفين ، أيا كان رأيها فيهم ، فهذا هو السبيل اليوم لسد الثغرات التي يتسلل منها اعداؤنا لضرب السلم الاهلي وخلخلة الاجماع الوطني.
الاقتصادية 22 يوليو 2014
http://www.aleqt.com/2014/07/22/article_869551.html
مقالات ذات علاقة
·         فلان المتشدد
·         ثقافة الكراهية
·         تجريم الكراهية
·         تجارة الخوف
·         في انتظار الفتنة
·         العامل السعودي
·         قبل ان نفقد الامل
·         تعـزيــز الامــل


14/07/2014

خلاقة على منهاج نبوة


 (1)
اعلان "الدولة الاسلامية" في الموصل وتنصيب زعيم تنظيم "داعش" خليفة للمسلمين كان صدمة للتيارات الدينية ، بصورة مختلفة عما اصاب التيارات الاخرى. في 1994 نشر سيد ولي نصر دراسة حول الجماعة الاسلامية في باكستان ، محاولا استقصاء العوامل التي مكنت التنظيمات الدينية الجديدة من اختراق التيار العام التقليدي. وتوصل يومئذ الى ان العامل الرئيس هو نجاح تلك التنظيمات في اعادة تفسير الثقافة الدينية التي يروجها التيار التقليدي ، على نحو يماهي بين العناصر الاكثر شيوعا في هذه الثقافة وبين احلام وتطلعات المسلم المعاصر.  لعل ابرز عوامل فشل التيار التقليدي يكمن في نزعته التجريدية والميتافيزيقية ، في الوقت الذي يتساءل مسلم اليوم: اذا كان ديننا بهذه العظمة واذا كان اسلافنا قد حققوا كل تلك النجاحات التي نتحدث عنها ، فلماذا نفشل اليوم في تكرار التجربة؟ بل لماذا نفشل في معالجة ابسط قضايانا؟.
(2)
خلال ستينات وسبعينات القرن العشرين كان الطابع العام لاحاديث الاسلاميين وكتاباتهم هو التاكيد على فكرة ان "الاسلام هو الحل" و "عندما يحكم الاسلام .....". حاولت هذه المقاربة الاجابة على سؤال "لماذا تاخر المسلمون وتقدم غيرهم؟" الذي طرحه شكيب ارسلان قبل قرن من الزمن. وأظن ان معظم المسلمين ، سيما الناشطين والشباب قد اقتنعوا بالجواب ، اعني الجواب القائل بان تأخر المسلمين سببه ابتعادهم عن الاسلام او قلة ايمانهم ، او عدم اتحادهم حول راية واحدة. هذه قناعة ضرورية رغم انها خاطئة. هي قناعة ضرورية لان البديل عنها هو نقيضها ، اي القول بان غير المسلمين تقدموا لانهم غير مسلمين ، فطريق التقدم مشروط اذن بالتخلي عن الاسلام. ولم يكن عامة المسلمين مستعدين ، لا بالامس ولا اليوم لقبول فرضية كهذه. لكنه جواب خطأ ايضا لان مجرد التمسك بالدين لا يقود بالضرورة الى التقدم كما ان مجرد التخلي عنه لا يقود بالضرورة الى التخلف. والدليل هو ان كثيرا من الحضارات قامت وتغلبت ولم تكن مسلمة ، مثلما قامت حضارات وتغلبت وهي مسلمة ، وقد سقطت هذه مثلما سقطت تلك ، مما ينفي التلازم المفترض  - والذي اراه متكلفا – بين الدين والحضارة.
لكن هذا النقاش المفصل ليس مطروحا اليوم كما لم يكن مطروحا بالامس. يهتم عامة الناس بالاسئلة العامة وينتظرون جوابا عاما ، لا يصادم في الغالب توقعاتهم او مرادتهم. ولهذا قبلوا بالجواب المقترح ، اي ان سبب ضعف المسلمين وتخلفهم يكمن في ابتعادهم عن الاسلام.
(3)
ولم يحفل الاسلاميون كثيرا بالتدليل المادي الواقعي على جوابهم. الحركيون مثل التقليديين ركزوا على استثمار التاريخ على نحو يؤكد صدق الجواب. والتاريخ دليل جبار لانه تجربة مادية انسانية واقعية ، لا يمكن تكذيبها. عيب هذا الدليل يكمن في انتقائيته ، فنحن لا نقرأ التاريخ كاملا بل نلتقط وقائع محددة ونشحنها باضافات بلاغية وتصويرية كي تطابق التصور الذي نريد اقناع الناس به.
الخلافة الراشدة هي ابرز الصور التي قدمت للمسلمين كدليل على عظمة الاسلام ورفعته وكفاءته وعدالته وقوته. استمرت الخلافة الراشدة 30 عاما ، كانت مليئة بالحوادث والتحولات ، غير ان ما يعرفه عامة المسلمين منها ، لا يتجاوز صفحات قليلة ، تتلخص في بضعة فتوحات وصور عن السلوك الشخصي للخلفاء والولاة ، وقليل من صور الحياة العامة. هذه الحقبة القصيرة لخصت في راي المؤرخين والفقهاء والمفسرين والرواة ، فضلا عن الكتاب والخطباء المعاصرين ، اسمى ما يعد به الاسلام. ولهذا اكتسبت مسحة قدسية. فهي تذكر دائما باعتبارها الفترة النموذجية. ويذكر رجالها باعتبارهم المثال الاسمى لما ينبغي ان يكون عليه  الاسلام. انها – حسب الوصف الدارج والذي يقال انه مدعوم بحديث عن الرسول عليه الصلاة والسلام – خلافة على منهاج نبوة.
(4)
لماذا لم ينجح المسلمون في اعادة احياء الخلافة الراشدة ، او اقامة نموذج قريب منها طيلة ثلاثة عشر قرنا ونصف بعد سقوطها ؟.
يجيبون على ذلك احيانا باتهام المسلمين انفسهم بقلة الايمان ، او قلة معرفة الدين. ويتهمون احيانا الاستعمار او القوى المعادية للدين بالحيلولة دون احيائها. لكن الخلافة تبقى - رغم ذلك - املا ومثلا اعلى يتطلع اليه المسلمون ، رغم قناعتهم بعجزهم عن تحقيقه في ارض الواقع.
عبد الله العروي
لم يحصل ابدا ان قام مجتمع مسلم بمحاسبة علماء الدين او زعماء الحركات الاسلامية او رؤساء الدول على تقصيرهم في السعي لاقامة الخلافة الاسلامية ، او على فشلهم في اقامتها. لان الفكرة في الاساس ليست مطروحة كحل ممكن ، بل كنموذج مثالي نريده ولا نستطيع الوصول اليه. انه كما قال عبد الله العروي "طوبى" تنزع مشروعية الدولة القائمة ، دون ان تقدم بديلا واقعيا ممكنا عنها. هذه النقطة للمناسبة مشتركة بين جميع المسلمين ، فما يسميه السنة خلافة ، يسميه الشيعة امامة  وليس ثمة فرق في المبررات المعيارية ولا الغايات.
(5)
قوة الطرح الذي قدمه تنظيم الدولة الاسلامية في العراق والشام "داعش" تكمن في هذه النقطة بالذات: انه استطاع تحقيق ما عجز عنه المسلمون طيلة 1350 سنة ، اي كسر ارادة المستعمر المفترضة وكسر اسباب العجز الداخلي ، واقامة الخلافة على ارض محددة استنادا الى قوة ذاتية منبعثة من مجتمع مسلم ، رغم معارضة كافة الحكومات والدول التي يفترض انها معادية للاسلام. نجاح "داعش" ايا كانت قيمته ينطوي على ادانة للحكومات والتنظيمات الدينية ، ولكل من قال بان المسلمين غير قادرين على تحقيق اراداتهم. هذه الادانة تقود بالضرورة الى انقسام جديد يضيف مسارا رابعا الى المسارات القائمة ، اي الحكومات المختلطة (علماني/تقليدي) ، التنظيمات الدينية التي تشكلت خلال القرن العشرين ، الجمهور العام ، والقوة الناهضة التي حققت ما فشل فيه كل اولئك ، اي تنظيم الدولة الاسلامية  "داعش".
المسار الجديد ليس مجرد خيار اضافي كما هو الحال في المقارنة بين الاخوان المسلمين وحزب الحرية والعدالة مثلا ، ولا هو قوة اضافية كما هو الحال في المقارنة بين الاخوان والتيار السلفي ، بل هو – ببساطة - قوة بديلة عن الجميع ، لانها تنفي شرعيتهم وحقهم في العمل باسم الدين. الدليل الحاسم الذي يملكه هذا التيار هو قدرته على استنباط القوة حيث عجز الاخرون ، وتحقيق الهدف حيث قصر الاخرون او فشلوا.  في مطلع القرن الماضي كتب ماكس فيبر ، احد الاباء المؤسسين لعلم الاجتماع الحديث ، ان الفكرة تصبح مؤثرة حين تشير الى قوة او تعبر عن قوة. طبيعة البشر انهم ينجذبون الى القوة ويعتبرونها رمزا للنجاح ودليلا عليه. لا يتوقف الناس كثيرا عند التفاصيل ، فالذي يؤثر فيهم هو الذي يشغل عيونهم وآذانهم ، اي القوة المتجسدة في بنيات مادية. ولهذا تهتم الحكومات بالاحتفال واستعراض سلاحها وعسكرها ومظاهر قوتها الاخرى ، لانها تضفي عليه مشروعية او تعزز مشروعيتها ، اي تحول "القوة العارية" الى مصدر "حق" لصاحبها.
(6)
يستطيع الحركيون الاسلاميون وتستطيع الحكومات حشد مئات الادلة على ان "الخلافة" الجديدة بغي وضلال. لكن شريحة كبيرة من المسلمين ، سيما الشباب الذي امتلأ بالاحباط بسبب الصعوبات الحياتية او بسبب عجز اسلافه عن تحقيق انجازات مثيرة للاهتمام ، او بسبب الخطاب الديني القديم الذي يؤجل النجاحات الى الاخرة ، هذا الشباب سيتوقف مليا عند نجاح داعش في السيطرة على الارض واعلان دولة ، وسيتعامل مع هذا النجاح كمعيار لتقييم كفاءة الاخرين ، وتبعا كمعيار على صدق دعاواهم وربما شرعية وجودهم وتمثيلهم للدين الحق.
رأينا هذا بعد انتصار الثورة الاسلامية في ايران في 1979، ورأينا مثله في باكستان خصوصا ، بعد اجتياح حركة طالبان للعاصمة الافغانية كابل في 1996.
هذا هو التحدي الاكبر الذي يواجه حكومات الشرق الاوسط وبدرجة اكثر حدة التيارات الاسلامية بمختلف اشكالها. وهو تحد ستظهر اثاره اذا نجحت داعش في ابقاء سيطرتها على الارض خلال الاشهر الثلاثة القادمة. علينا ان ننتظر الى الربع الاخير من العام الجاري كي نرى هذه الاحتمالات.
(7)
 يمكن للحكومات والتنظيمات الاسلامية مواجهة هذا التحدي اذا استطاعت تغيير ذاتها. وهي مهمة في غاية العسر. لكنها ممكنة على اي حال. واعني بتغيير الذات بشكل محدد ، تغيير الباراديم او النسق الثقافي والسياسي الذي يمثل قاعدة ومبررا لعملها ومحددا لاستهدافاتها. يمكن الاشارة الى تبني الحداثة بكل تجلياتها السياسية والقانونية والثقافية كاحد معاني تغيير البارادايم ، والدخول في معارضة مفتوحة وعلنية للنسق التراثي والثقافي القديم الذي تستطيع "داعش" واخواتها استثماره بشكل افضل ، كما ثبت حتى اليوم. تغيير البارادايم سيؤدي قطعا الى انكسارات كثيرة ، لكنه سوف يستنهض ايضا قوى لازالت خارج ساحة الفعل حتى الان. بعبارة اخرى فاننا امام معادلة فيها خسائر وارباح كما في اي عملية اعادة هيكلة.
هذا التحول ضروري ، ليس فقط من اجل ان تحافظ الحركة الاسلامية على وجودها ، بل ايضا من اجل: أ) ان لا يتحول الربيع العربي الى ميراث لتيارات عمياء مثل "داعش" واخواتها. ب) ان لا نعود الى علاقة العنف الاعمى بين الحكومات والمجتمعات المسلمة التي كانت سائدة حتى وقت قريب.
دعوة "الخلافة على منهاج نبوة" تبدو بسيطة وقابلة للتفنيد لو كان الظرف ظرف نقاش علمي. لكننا في ظرف سجال يغلب عليه الطابع الانفعالي وتستقطب عناصره القوة العارية. وفي ظرف كهذا فان من يعرض صور المذبوحين سيكون برهانه اقوى من الذي يعارض بالكلام. هذا برهان يفكك شرعية أي مدع للنجاح وأي وعد للمستقبل.
التقرير 14 يوليو 2014
http://altagreer.com/  الملف-النشط/د-توفيق-السيف-خلافة-على-منهاج-نبوة





رحلة البحث عن الذات

  قلت في الاسبوع الماضي ان كتاب الاستاذ اياد مدني " حكاية سعودية " ليس سيرة ذاتية بالمعنى الدقيق ، وان بدا هكذا. وسألت نفسي حينئذ...