‏إظهار الرسائل ذات التسميات بنغالور. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات بنغالور. إظهار كافة الرسائل

07/12/2023

التعليم والسوق.. من يصنع الآخر؟

منذ بداية القرن العشرين ، حصل 1000 من الشخصيات البارزة على "جائزة نوبل" ، من بينها 4 حالات فقط ، منحت الجائزة لزوج وزوجته بصورة مشتركة. لكنها منحت مرتين اخريين لكل من الزوج والزوجة على انفراد. وكان هذا في 1974 حين منح البروفسور غونار ميردال "جائزة نوبل التذكارية" في الاقتصاد ، ثم منحت زوجته ألفا "جائزة نوبل" للسلام عام 1982.

البروفسور غونار ميردال (1987-1898)

غونار ميردال واحد من أعلام الدراسات الاقتصادية المعاصرة. لكنه كتب وتحدث ايضا في علم الاجتماع ، وطرق احيانا ابواب الفلسفة والتاريخ. وأظن ان اهتمامه بعلم الاقتصاد على مستوى الدولة ، قد كشف له عن نقاط التعارض بين ما يصنف كنفقات عامة ، وما يعتبر استثمارا في الجيل القادم ، من اجل ضمان مستقبل البلاد.

كانت السنوات التالية لنهاية الحرب العالمية الثانية (1939-1945) قد شهدت جدالات واسعة بين تيارين في السياسة الاوربية ، يدعو احدهما الى "دولة الرفاه welfare-state "  التي تضمن للمواطن كافة الخدمات الاولية الضرورية ، بينما يدعو الثاني الى "دولة الحارس الليلي night-watchman state" التي يقتصر دورها على حفظ الامن الاجتماعي وتمثيل البلاد في الخارج. واختار ميردال النموذج الأول ، لأنه – أولا - يؤمن بان العدالة الاجتماعية تتحقق من خلال التوزيع العادل للثروة ، وان هذا يعني تحديدا قيام الدولة بتوفير الحاجات الاساسية ، التي لا يستطيع الناس توفيرها بمفردهم ، مثل التعليم الاساسي والصحة وأمثالها. لكن مجادلته الأساسية تكمن في المبرر الثاني ، وهو اقتصادي بحت ، خلاصته ان توفير الحاجات الاساسية للمواطنين ، ولو من خلال زيادة الضرائب ، اشبه بالمال الذي يستثمره التاجر او الصانع ، كي يربح لاحقا. حين توفر الدولة الخدمات العامة الاساسية ، فان الكفاءة الانتاجية للمجتمع سترتفع ، ويرتفع تبعا لها الدخل القومي والفردي ، لا سيما عند الاجيال الآتية.

يرجع اهتمامي بالاستاذ ميردال الى دراساته القيمة عن اقتصاديات النمو ، ولا سيما الارضية الاجتماعية للاقتصاد وملاحظاته على العلاقة بين الثقافة والاقتصاد ، في كتابه الشهير "الدراما الاسيوية: تحقيق في اسباب فقر الامم". وأريد الاشارة بالخصوص الى رؤيته حول دور التعليم في صناعة السوق ، وهي تخالف - من حيث المبدأ - الرأي القائل بان على التعليم ان يعمل بحسب حاجات السوق. والتي يبررها اصحابها بان الشباب يتعلم كي يضمن وظيفة ، فلا بد له ان يكيف دراسته ، على النحو الذي يريده أرباب الأعمال. هذه الرؤية جزء من منصور أوسع يركز على الانتاج وكسب المال كغاية. لكن ماذا عن الغاية الاعلى ، اي الانسان نفسه؟.

يبدو لي ان الجدل في الفكرة سيقودنا الى نوع من الدوران في حلقة مفرغة. فسواء اخذنا بهذا الرأي أو ذاك فسوف نصل الى الثاني ، اما كوسيلة او كغاية. ومن هنا فان المسألة مجرد جدل لفظي. لكن الجانب الذي يستحق الاهتمام هو حقيقة ان التعليم استثمار في العقول. وان العقول الناضجة بذاتها مصانع للثروات ، وليس مجرد خبرات تؤجر لرب عمل ما. تؤكد هذا المعنى تجربة بنغالور ، المدينة الشهيرة بانها وادي السليكون الهندي ، فقد تجاوزت صادراتها من الخدمات التقنية في العام الماضي 38 مليار دولار. هذه الاموال جاءت بشكل رئيسي من عمل العقول. وهي مثال واقعي واحد على دور التعليم كصانع للسوق ، وليس خادما للسوق. سياسات التعليم التي اختارتها الهند ، وفرت فرصة كي يتحول شبابها الى قنوات تستقطب الأموال من أسواق العالم.

لمعرفة القيمة المقارنة لهذه الصادرات ، أذكر ان مجموع العاملين في قطاع الخدمات التقنية بمدينة بنغالور يبلغ مليونين تقريبا. بالمقارنة فان مجموع صادرات الهند الزراعية بلغت 52.5 مليار دولار في 2023 ، ويعمل فيها 152 مليون شخص. اي ان كل عامل زراعي يوفر 324 دولار من الصادرات ، بينما نظيره العامل في مجال التقنية نحو 19,000 دولار.

اظن ان هذه مجادلة مقنعة بأن توجيه التعليم كي يخلق السوق وبالتالي الاقتصاد ، خير من الاتجاه المعاكس ذي الطبيعة الانكماشية.

الشرق الاوسط الخميس - 23 جمادي الأول 1445 هـ - 7 ديسمبر 2023 م https://aawsat.com/node/4713026

مقالات ذات علاقة

 اول العلم قصة خرافية

بين النهوض العلمي والتخصص العلمي

التخلي عن التلقين ليس سهلا

تدريس العلوم بالعربية.. هل هذا واقعي؟

تطوير التعليم من الشعار إلى المشروع

تعريب العلم ، ضرورة اقتصادية ايضا

التعليم كما لم نعرفه في الماضي

التمكين من خلال التعليم

حول البيئة المحفزة للابتكار

كيف نجعل الثقافة محركا للاقتصاد؟

مجتمع المعرفة لازال هدفا ضروريا

المدرسة وصناعة العقل

معنى ان يكون التعليم العام واسع الافق

يوكل علم ؟ ... يعني مايفيد !

 

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...