‏إظهار الرسائل ذات التسميات تاثير الانترنت. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات تاثير الانترنت. إظهار كافة الرسائل

29/08/2024

اليد الخفية التي تدير العالم

مهما قيل في التأثير الهائل لانظمة الدعاية الحديثة على تفكير الناس وميولهم ، فلن تستطيع تحويل الانسان الى شبه آلة ، تحركها تلك الانظمة. بل أزعم ان التسليم المطلق بهذه الفكرة ، يناقض حكمة الله وتجربة البشر التاريخية. نعلم جميعا ان التقدم المستمر كان سمة ثابتة في تاريخ البشرية. وما ينتجه البشر اليوم من المعارف والمنتجات المادية ، دليل صريح على الفارق العظيم بين حالنا وحال البشرية قبل ألف عام مثلا. تزيد العلوم التي ينتجها انسان اليوم في عام واحد ، عما كان ينتجه الاسلاف في عشرات السنين. وينتج من الغذاء ومصادر الطاقة ووسائل المعيشة ، ما لم يصل اليه الأسلاف حتى في الخيال المجرد.

-         حسنا.. تأملوا معي في معنى التقدم ، أليس جوهره هو التمرد على الافكار السائدة والقناعات المعتادة والاعراف المعهودة.

تخيل أن "نيكولاس كوبرنيكوس" لم يتمرد على المبدأ الموروث ، القائل بان الارض مركز الكون وان الشمس تدور حولها ، فهل كان علم الفيزياء والفلك سيقفز تلك القفزة العظيمة التي نعيش نتائجها اليوم ، في حقل الاتصالات والطيران وتنبؤات المناخ وتطوير الانتاج الزراعي.. الخ؟. في تلك الايام كانت الكنيسة تعتمد نظرية الفلكي اليوناني القديم بطليموس ، وفحواها ان الأرض مركز الكون. ولهذا جوبه كوبرنيكوس بالعزل والتكفير ، فتردد كثيرا في نشر كتابه المتضمن نظريته الجديدة ، حتى الاشهر الاخيرة من حياته.

تخيل أيضا ان "آلان تورينج" لم يتمسك بنموذج الحاسبة الذكية التي طورها في 1938 رغم اخفاقاته الأولية وسخرية زملائه وأرباب عمله ، فهل سيكون لدينا الكمبيوتر والانترنت التي باتت محرك حياة العالم في هذا الزمان؟. هذا وذاك ، بل تاريخ البشرية كله ، دليل على ان فطرة الانسان الاولية ، هي التمرد على السائد والمتعارف ، وليس الانصياع له.

أقول هذا رغم اني – مثلكم – انظر للحياة الواقعية الماثلة امامي ، فأرى غالبية الناس ، تتأثر – كثيرا أو يسيرا - بتوجيه "الأيدي الخفية" التي تدير المسرح من وراء الستار.

-         كيف نوازن اذن بين الاستنتاج المثبت علميا ، عن تأثير الدعاية والبيئة الاجتماعية على تفكير الانسان وسلوكه ، وبين رفضنا للتسليم بهذا القول على نحو مطلق؟.

لاستيضاح المفارقة ، دعنا نستعين برؤية ايمانويل كانط ، رائد الفلسفة الحديثة ، حول الفارق بين حقيقة الاشياء وصورتها في الذهن.

ادرك قدامى الفلاسفة ان صورة الاشياء في الذهن ، لاتطابق دائما حقيقتها الواقعية. حين يخبرك شخص عن فرس سباق ، فربما تتخيل صورة اجمل فرس رأيته. لكن حين ترى الفرس في الواقع ، ستجده مختلفا عن صورته في ذهنك.

اولئك الفلاسفة قالوا ايضا ان معاينة الشيء تنهي تلك الازدواجية ، حيث تتطابق الصورة الذهنية مع الواقع. وقالت العرب قديما "فما راء كمن سمعا". لكن ايمانويل كانط وجد انك حين تنظر للشيء فانك تراه من خلال الصورة التي في ذهنك ، والتي غالبا ما تخالف الواقع قليلا او كثيرا. اي ان الفارق يبقى حتى لو رأيت الشيء بعينيك. هذه النقطة هي موضوع

 عمل الدعاية ، التي تحاول تثبيت صورة ذهنية عن الاشياء ، بغض النظر عن واقعها.

لكن كانط يقول ايضا – وهو بالتأكيد صادق تماما – ان عقل الانسان ليس مرتبة واحدة. فهناك العقل العملي الذي يدير حياتك اليومية ، وهناك العقل النظري الذي يتأمل حقائق الاشياء ويفكك معانيها ، باحثا عما وراء ظاهرها كي يتجاوزه ، فيتحرر من الحاجة اليه ، او يستبدله بما يغني عنه. الدافع لاختراع الطائرة – مثلا – كان شعور الناس بان السيارة عاجزة عن تجاوز قيود الجغرافيا ، مع ان احدا ربما لم يتخيل يومذاك امكانية ان يطير الحديد فوق الهواء. هذا العقل هو الذي يتمرد على تاثير الدعاية والتربية والبيئة ويختار طريقه المنفرد.

سوف اعود لهذا الموضوع في وقت لاحق. لكن يهمني التأكيد على لب الموضوع ، اي وجود حالتين متوازيتين في واقع الحياة: سلوك القطيع ومسايرة الناس ، مقابل الشك في هذا الواقع والتمرد على مسلماته. الأول يكرس النظام والراحة النفسية ، والثاني يؤكد قيمة العقل وكونه ماكينة التقدم الانساني.

الشرق الاوسط الخميس - 24 صفَر 1446 هـ - 29 أغسطس 2024 م   https://aawsat.com/node/5055340/

مقالات ذات صلة

 اختيار التقدم

اسطورة العقل الصريح والنقل الصحيح

اناني وناقص .. لكنه خلق الله

اول العلم قصة خرافية

تبجيل العلم مجرد دعوى

التعصب كمنتج اجتماعي

حول الفصل بين الدين والعلم

الرزية العظمى

العقل المؤقت

لولا الخلاف في الدين لضاع العلم والدين

ماذا يختفي وراء جدل العلاقة بين العلم والدين

مثال على طبيعة التداخل بين الدين والعلم

مغامرات العقل وتحرر الانسان - كلمة في تكريم الاستاذ ابراهيم البليهي 

من العقل الجمعي الى الجهل الجمعي


 

15/08/2024

في مسألة الجبر والاختيار: هل حقا نملك اراداتنا؟


بعض القراء مطلع – بالتأكيد - على الجدل القديم ، حول كون الانسان مسيرا او مخيرا. وهو جدل أثاره سؤال بسيط: إذا كان الانسان يفعل ما يفعل بارادة الله وعلمه المسبق ، فانه ليس مسؤولا عن افعاله ، وبالتالي لايصح عقابه. فكيف يقدر الله شيئا ويريده ، ثم يعاقب عبده اذا فعل ما أراده؟.

أقول هذه مسألة معروفة في التاريخ الاسلامي. وقد حسمت في القرون الأخيرة ، لصالح فهم موسع ، يربط الاثم بكون الفاعل قاصدا متعمدا ، وكونه عارفا بحقيقة ما يفعل. وتوصل الناس الى هذا الفهم بعدما فصلوا بين مرحلتين: القدرة على الفعل وارادة القيام بالفعل. فانت قادر على العيش في الغابة مثلا ، وانت قادر على التبرع بكل أموالك ، لكن القليل من الناس سيفعل هذا. أما الأكثرية الساحقة فهي "تريد" خيارات بديلة. هذا يعني انك تستطيع فعل أشياء ، لكنك لا تريدها ، فلا تفعلها. وهذا بالضبط معنى ان تكون مختارا وصاحب إرادة. وبناء عليه قيل ان الانسان مخير في الاعم الاغلب من افعاله.

يبدو هذا الكلام معقولا ولا غبار عليه. لكن تعالوا نناقش القول السائر ، الذي فحواه أن انسان اليوم ، واقع – من حيث يشعر او لايشعر – تحت سيطرة انظمة الاعلام والدعاية الهائلة القوة ، او انه خاضع لاعراف المجتمع وقوانينه وثقافته ، التي تجعله يفعل ما تريده هي وليس ما يريده هو.

يقول اصحاب هذا الرأي ان انسان اليوم لم يعد صاحب إرادة ، لأنه لا يختار ما يريد. اجهزة الدعاية والاعلام تتلبس عباءة العلم حينا والسياسة حينا آخر ، والاقتصاد في طور ، وحتى الحرص على الصحة العامة في بعض الأحيان. يقولون ايضا ان الذي يختار الرئيس الامريكي مثلا ، ليس الناخبين الافراد الذين يأتون الى صناديق الاقتراع ، بل اجهزة الدعاية التي تبارت في اقناع الناخبين بالشخص الذي اختارته ودعمته ، فجاؤوا للصناديق وقد اقتنعوا بما اريد لهم ان يقتنعوا به.

كذلك الحال في السلوك الغذائي للافراد ، فهم لا يأكلون الطعام الذي الفه آباؤهم ، والذي ربما يعبر عن حاجات البيئة المحلية ، بل يأكلون ما روجته اجهزة الدعاية ، اي ما عرضته عليهم باعتباره رمزا للسعادة او العظمة او الصحة. والشيء نفسه يقال عن نوع الملابس التي نرتديها ، والخيارات الثقافية التي نميل اليها ، وانظمة العمل التي نتبعها في شركاتنا ، وغيرها. نحن نعيش – كما يقول هؤلاء – مسيرين لا مخيرين. صحيح انه لم يضربنا احد على أيدينا ، وليس في طرقنا حواجز مادية تمنعنا من مغادرة الطريق الذي سلكناه. لكننا مع ذلك لا نسير كما نختار ، بل نسير وفق هوى الدعاية او هوى المجتمع ، او تبعا للفضول الذي حفزه هذا او ذاك.

هذا نوع من التسيير غير المرئي الذي ينبع من داخل الانسان ، فيدفعه لمسارات سلوكية محددة ، يظن انه يختارها بحرية ، لكنه - في واقع الامر - لا يرى غير خيارات محددة سلفا. وبالتالي فان اختياره مرسوم ، وليس خيارا حرا ، حتى لو توهم - في الوهلة الاولى - انه حر.

احتمل ان المفكر الفرنسي جان جاك روسو هو اول من أثار هذه المفارقة ، في سياق حديثه عن تلاشي المجتمع الطبيعي السابق للدولة ، وقيام المجتمع المدني المحكوم بالقانون ، اذ يقول ساخرا: "يا لغباء هذا الانسان الذي مشى الى سجن القانون بقدميه ، وكان في وسعه ان يبقى حرا الى الأبد"!.

اراد روسو كشف المفارقة ، بين حياة فيها حرية مطلقة لكنها غير آمنة (في الغابة مثلا) وحياة بنصف حرية ، لكنها آمنة ومريحة (في ظل القانون). قال هذا كي يوضح للقاريء لماذا اختار الانسان ان يتنازل عن حريته الأولى ، فهل وجد في الثانية ما يستحق التضحية؟.

الشرق الاوسط الخميس - 10 صفَر 1446 هـ - 15 أغسطس 2024 م     https://aawsat.com/node/5050790/

مقالات ذات صلة

بين العقل الجمعي وسلوك القطيع

بقية من ظلال الماضين

بماذا ننصح أينشتاين؟

التعصب كمنتج اجتماعي

حجاب الغفلة ، ليس حجاب الجهل

الحرية ، دراسة في المفهوم والاشكاليات

 القبيلة والطائفة كجماعات متخيلة

كهف الجماعة

مغامرات العقل وتحرر الانسان - كلمة في تكريم الاستاذ ابراهيم البليهي

من العقل الجمعي الى الجهل الجمعي

12/10/2023

بدايات الانقسام الاجتماعي


النتيجة التي انتهى اليها مقال الاسبوع الماضي ، لم تلق هوى عند كثير من القراء الاعزاء ، بل اثارت بعض الجدل ، ولاسيما حول الربط بين ازمة الهوية وتراثنا الثقافي. فقد ذكر هناك ان هذا التراث "يريد للفرد ان يكون تابعا مطيعا ، لا مشاركا او صانعا للقيم التي تقود حياته". رأى الناقدون ان هذا ينطوي على تعريض بموقف الانسان من دينه. وتساءل أحد الاصدقاء: لماذا نجد الدين في كل جدل حول تحولات المجتمع.. الا يمكن ان نغض الطرف أحيانا؟.

يهمني هنا ايضاح فكرة ، اظنها غائبة عن أذهان بعض القراء الاعزاء. وخلاصتها ان التحولات الجارية في حياة المجتمع ، على مستوى العلاقات الداخلية والثقافة والاقتصاد والسياسة ، تتأثر من حيث السعة والعمق ، بعوامل عديدة ، سوف اركز على ابرزها في اعتقادي ، وهو الحدود الخاصة بالبنية الاجتماعية.

دعنا نتخيل النظام الاجتماعي شبيها بجسد الانسان ، الذي يتلقى تأثيرات الطقس والمشكلات الحياتية الاخرى ، فيقاوم بعضها ، ويتكيف مع البعض الاخر ، فيتعايش معه ، او يتفاعل فيؤثر فيه ويتأثر ، يزداد قوة او يضعف. ومثل هذه الحالات تحصل للمجتمع حين يتعرض للمؤثرات الخارجية ، مثل التحولات الاقتصادية والسياسية الكبرى او الحروب او الكوارث.

لا تأتي تلك المؤثرات على نسق واحد. كما ان المجتمع لا يتعامل معها بنفس الطريقة في جميع الأوقات. وقد ذكرت في الأسبوع الماضي ان التحولات العميقة في المجتمع السعودي ، ترجع للعقدين الأخيرين من القرن العشرين ، نظرا لنضج التنمية الاقتصادية وتغلغل انعكاساتها في مختلف الأوساط. وللاطلاع على بحث تفصيلي عن تأثير هذا العامل ، اقترح العودة الى كتاب د. سعيد الغامدي "البناء القبلي والتحضر" الذي قدم صورة مفصلة عن الحراك الاجتماعي ، لحظة استقبال أولى انعكاسات الاقتصاد الجديد ، في قرية زراعية جنوب المملكة. ان التأمل في هذه الحادثة تعين على فهم العديد من الظواهر التي عرفناها خلال السنوات التالية ، فيما يخص التكوين الاجتماعي وتوزيع مراكز القوة ، المعنى الاجتماعي للمال والثروة ، موقع المرأة في المجتمع والاقتصاد ، والموقف من الاخر الديني او المذهبي.

الذي حصل في سنوات التحول الاقتصادي تلك ، عبارة عن عاصفة هائلة القوة ، تمثلت في برامج التنمية الاقتصادية ، هبت على مجتمع ساكن ومستقر. ازدهار الاقتصاد يؤدي – بطبعه – الى تعزيز الفردانية على حساب الروابط الاجتماعية ، كما يحرك الطبقات ومواقع الافراد في سلم التراتب الاجتماعي ، فيرفع بعض من كان في المراتب الدنيا ويهبط بمن في الاعلى ، ويأتي بأفكار جديدة متعارضة – بالضرورة – مع الموروث والسائد. وتجري هذه كلها في وقت قصير ، فلا يتسع المجال للنظام الاجتماعي كي يعيد ترتيب أوراقه او ينظر في القادم الجديد. لهذا يعود المجتمع الى موقفه المفترض في الاصل ، اي الرفض والمقاومة. هذه المقاومة تمهد – شئنا ام ابينا – لانقسام اجتماعي ، بين المستفيدين من الوافد الجديد والمستفيدين من الوضع السابق.

المثال البسيط هو الاب الذي استمد جانبا من سلطته من انفاقه على ابنائه وبناته ، وسوف يخسر هذه السلطة اذا التحق الابناء بالوظائف ، وباتوا اغنى من والديهم. هؤلاء الابناء لن يحتاجوا أيضا الى الواعظ ، فقد صار بوسعهم مراجعة الكتب التي توفر معرفة تشبه ما يقوله الواعظ. ولن يحتاجوا شيخ القبيلة او كبير القرية للواسطة او الحماية ، فلديهم الشهادة المدرسية التي تمكنهم من الالتحاق بسوق العمل دون واسطة.

اظن ان هذا الشرح الموجز قد اوضح لماذا كان الدين في قلب جدالات التحول الاجتماعي. اما ما يخص مشاركة الناس في صياغة حياتهم الدينية ، فيحتاج معالجة اوسع ، ربما اعود اليها في مقال قادم.  

الخميس - 27 ربيع الأول 1445 هـ - 12 أكتوبر 2023 م

https://aawsat.com/node/4600181/

مقالات ذات صلة

استمعوا لصوت التغيير

اعادة بناء القرية .. وسط المدينة

سجالات الدين والتغيير في المجتمع السعودي (كتاب)

صناعة الشخصية الملتبسة

طريق التقاليد

عالم افتراضي يصنع العالم الواقعي

على اعتاب الثورة الصناعية الرابعة

العولمة فرصة ام فخ ؟

غلو .. ام بحث عن هوية

 ما الذي يجعل الانترنت مخيفا للزعماء التقليديين ومحبوبا للشباب

من جيل الى جيل

النقلة الحتمية : يوما ما ستنظر الى نفسك فتراها غير ما عرفت

هكذا نتغير... مختارين او مرغمين

هوية سائلة؟

وعي المستقبل

 

08/06/2022

نحو نسق/بارادايم ديني جديد

 

فكرة هذا المقال اقرب الى تفكير بصوت عال ، أتمنى ان يشارك الأصدقاء والقراء الأعزاء فيه ، وأرى ان الموضوع جدير حقا بالتأمل.

اما الموضوع فهو العلاقة بين الدين والمتدين ، الإسلام والمسلم خصوصا ، وهي مسألة لا تطرح للنقاش الا نادرا ، مع اني أظنها في غاية الأهمية. وهي تزداد غموضا مع زيادة احتكاك التقاليد الدينية بتحولات الحياة الحديثة. 


الصورة الحالية للعلاقة المذكورة ، اقرب الى تنازع صريح أحيانا وضمني أحيانا أخرى ، بين اتجاهين:

** اتجاه سائد في المجتمع الديني ، يدعو الانسان للتسليم بما بلغه عن الله ، من أمر ونهي وقيم وقواعد ، بلا تردد ولا شك ولا نقاش ، لأنه مكلف بطاعة ربه.

** اتجاه يتبلور تدريجيا ، كنتاج لتطور مكانة الانسان الفرد ، وشعوره بذاته المستقلة عن الجماعة. ويتجلى في ميل الفرد لمساءلة موروثه الثقافي والمسلمات الشائعة في محيطه الاجتماعي ، ومن بينها خصوصا ، القيم والاحكام الدينية ، التي يظهر بعضها كقيد على الحرية الشخصية.

 لقد مرت ازمان متطاولة ، ما كان الفرد المسلم فيها غير نقطة في بحر الجماعة ، شخصيته نسخة منها وهويته امتداد لهويتها. اما في هذا الزمان ، فان العالم كله ، يميل للتخفف من ثقل الهويات الكبرى والقوميات الممتدة ، وينظر للافراد كذوات مستقلة ، تشارك في توليف هويتها الخاصة ، كما تساهم في صياغة العالم الذي تعيش فيه.

لم يعرف تاريخ البشرية زمانا كهذا الزمان. لقد تراجع دور الدول والمنظمات الكبرى ، بينما تصاعد دور الأفراد في تطوير الاقتصاد الجديد والثقافة. وينسب الفضل في هذا الى التوسع الهائل لانظمة الاتصال الحديثة ، التي وفرت للافراد من مختلف الطبقات والفئات العمرية ، فرصا متعاظمة للتعرف على ثقافات العالم وتياراته وتحولاته. كما ان تزايد اعتماد العالم على التقنيات الرقمية والذكاء الصناعي ، جعل الافراد لاعبا رئيسيا في انتاج التطبيقات التي يحتاجها هذا الحقل ، وحولهم من أرقام في سجلات المنظمات الصناعية الكبرى ، الى صناع للارقام والمعادلات ، ومشاركين مؤثرين في تطوير اقتصاديات العالم الجديدة. ان المزيد من المعرفة يقود الى المزيد من تقدير الذات والمزيد من الاستقلال.

في تجارب اجتماعية سابقة ، كانت مثل هذه التحولات عاملا محركا للتساؤل حول ضرورة الأيديولوجيا وفائدة الايمان ، وحول علاقة الفرد بمصادر الأيديولوجيا والايمان. كما ان أسئلة مشابهة ، مطروحة بالفعل في مجتمعاتنا. ان كثرة ما يسمع من شكاوى حول ابتعاد الجيل الجديد عن التقاليد الدينية ، مؤشر على تفاقم تلك التساؤلات واخفاق المجتمع الديني في تقديم الأجوبة المناسبة.

في اعتقادي ان ظروف العالم اليوم ، تمثل فرصة سانحة لمراجعة النسق الديني بمجمله ، ولا سيما في اتجاه التحول من العلاقة القائمة على التلقي والانفعال (مثلما اشرت في مطلع المقال) الى علاقة تفاعلية ، تحقق احدى ابرز الغايات التي تستهدفها الرسالات السماوية ، أعني بها مشاركة الناس جميعا ولا سيما المؤمنين ، في إعادة انتاج نموذج للحياة الدينية ، يلائم حاجات العصر والزاماته.

لقد جرت العادة (وترسخت بمرور الزمن) على النظر للدين على انه نسق جمعي ، يتمثل في كيان اجتماعي خاص ، له أيديولوجيا رسمية وقيادة وتقاليد ، وهو محاط بسور يميز بين اهل الداخل واهل الخارج. جوهر فكرة التدين هو الانتماء الى هذه الجماعة.

وقد حان الوقت للانتقال الى نسق/بارادايم جديد ، يتمثل في ثقافة مشتركة جوهرها الورع والتقوى ، أي الخوف من الله والرغبة في العمل الحسن وتجنب الفعل القبيح. نسق يجمع بين بني آدم جميعا ، باعتبارهم مخاطبين بأمر الله ، من دون تمييز بين اهل الداخل والخارج.

الشرق الأوسط الأربعاء - 9 ذو القعدة 1443 هـ - 08 يونيو 2022 مـ رقم العدد [15898]

https://aawsat.com/home/article/3690591

مقالات ذات علاقة

«21» الفردانية في التراث الديني

«22» الهوية الفردانية

أن نفهم الآخرين كما هم لا كما نتصورهم

الانسان الذئب

تأملات في حدود الفردانية

تكون الهوية الفردية

حزب الطائفة وحزب القبيلة

الحق أولا

عن العالم المحبوب

في ان الخلاف هو الاصل وان الوحدة استثناء

القبيلة والطائفة كجماعات متخيلة

كهف الجماعة

كيف تولد الجماعة

المسألة القومية واستقلال الفرد

مكانة "العامة" في التفكير الديني

 

19/01/2022

كثرة المتحدثين وسيولة الأفكار

 

كل تحول اجتماعي تصاحبه سيولة في الافكار والمفاهيم ، تؤثر على عقائد الناس واعرافهم ، وبالتالي مواقفهم الفكرية والاجتماعية.

-        ماذا نعني بالتحولات الاجتماعية وسيولة الافكار؟.

تأمل وضع السعودية اليوم: هل تلاحظ التغير الحاصل في الشخصيات المرجعية ، في تركيب قوة العمل ، في العلاقات الاجتماعية ، مفهوم ومحتوى "وقت الفراغ" ، نوعية القيم الموجهة ، وفي لغة النقاش العام وموضوعاته؟. وهل تلاحظ التغير في منظومات الادارة الوسطى وبعض العليا ، في الادارة الرسمية والقطاع الخاص؟.  انشغالات الناس واهتماماتهم ومواقفهم ومواقعهم؟. اذا كنت تلاحظ هذا ، فانت ترى جانبا مما نتحدث عنه.

يتحول المجتمع حين تتغير طريقة الناس في التعبير عن انفسهم ومواقفهم. وتبعا لهذا تتغير  موضوعات النقاش بين الناس ، في لغتها وفي اتجاهاتها ، من توكيد المألوف والمتعارف الى معارضته وابتداع قيم واعراف جديدة.

حصل هذا في اوائل القرن الجاري مع تعرف جمهور الشباب على الانترنت. وهو يعود اليوم على نطاق اوسع ، مع نضج الجيل الجديد ، لاسيما الذين أتموا تعليمهم الجامعي خلال السنوات العشر الأخيرة ، والذين يتمتعون بقدرة على الوصول الى المعلومات وجرأة على التعبير عنها ، تتجاوز كثيرا ما يملكه الجيل السابق ، فضلا عن الذي قبله.

أما سيولة الافكار ، فتعني كثرتها وتنوع مجالاتها ، وكثرة "المتحدثين في العلن". واريد استعمال هذا التعبير بدل تعبير "المتحدثين في الشأن العام" كما هو متعارف ، لأني أرى للحديث في العلن ميزات تشابه الحديث في الشأن العام ، لكنه اوسع منه وأعمق تأثيرا. الحديث في العلن يعني خروج الفرد من حالة التلقي والانفعال ، الى حالة الالقاء والفعل او التفاعل. وهذا يعادل ما نسميه تبلور "الفردانية" ، أي شعور الفرد بكينونته المستقلة ، وكونه صاحب إرادة مستقلة عن إرادة الجماعة التي ينتمي اليها او يعيش في وسطها. الحديث في العلن قد يشمل أشياء قليلة القيمة او حتى تافهة ، لكنه مع ذلك يعبر عن نزوع استقلالي.

   تكاثر المتحدثين في العلن يؤدي لظهور الافكار المخالفة للسائد ، في كل مجال ، من السائد الديني الى السياسي الى الأدبي والفني والمهني والتجاري.. الخ. وهذا يستثير رد فعل الطبقات المحافظة والمستفيدة من  الاعراف الموروثة ، فتشتبك مع المتحدثين الجدد ، فينقسم المجتمع بين هذا القطب وذاك ، ويزداد تبعا لذلك عدد المتحدثين على الطرفين وعدد الافكار المطروحة ، كما ان الجدل فيها يزيدها عمقا ومتانة ، حيث ان التراكم الكمي يولد تراكما كيفيا ، كما يقال.

 لكن سيولة الافكار ، وظروف التحول ذاتها ، تسبب فوضى عارمة في المفاهيم ، اي اختلاف الصور الذهنية للشيء الواحد بين شخص وآخر. اظن ان كثيرا من الناس قد لاحظ النقاشات التي تشابه ما يسمونه حوار الطرشان ، حين يتجادل اشخاص كثيرون حول مفهوم معين ، ثم يتبين لاحقا ان هذا المفهوم مجرد اسم ، أما صورته الذهنية ومضمونه فمتعدد بعدد الذي يتجادلون حوله.

لست متشائما من سيولة الأفكار ولا فوضى المفاهيم ، فهي ظرف انتقالي يصعب تفاديه. وأظنه سيوصلنا الى نمط حياة ليبرالي وعقلاني. لكنني أردت لفت نظر القراء الأعزاء للتدقيق في المفاهيم والمسميات التي يسمعونها او يقرأونها ، للتحقق من مطابقتها لتصورهم الذهني عن ذات المفهوم او المسمى. لقد لاحظت هذا بشكل واسع حين كتبت حول العدالة الاجتماعية والمساواة والحرية ، وعن المسافة بين المصلحة الشخصية والعامة ، لاحظت ان الناس يتحدثون عن العدالة وهم يبررون التمييز بين الناس ، او ينكرون الحرية بدعوى صون المصلحة العامة .. وهكذا.

الشرق الاوسط الأربعاء - 16 جمادى الآخرة 1443 هـ - 19 يناير 2022 مـ رقم العدد [15758]

https://aawsat.com/node/3422476/

 

مقالات ذات علاقة

 

 

استمعوا لصوت التغيير

التعليم كما لم نعرفه في الماضي

حان الوقت كي يتوقف الحجب الاعتباطي لمصادر المعلومات

سجالات الدين والتغيير في المجتمع السعودي (كتاب)

شغب الشباب في اليوم الوطني   

صناعة الشخصية الملتبسة

عالم افتراضي يصنع العالم الواقعي

على اعتاب الثورة الصناعية الرابعة

العولمة فرصة ام فخ ؟

من جيل الى جيل

غلو .. ام بحث عن هوية

الفقر والإحباط والغضب

فلان المتشدد

ما الذي يجعل الانترنت مخيفا للزعماء التقليديين ومحبوبا للشباب ؟

معنى ان يكون التعليم العام واسع الافق

نقد مقولة "التغرير"

النقلة الحتمية : يوما ما ستنظر الى نفسك فتراها غير ما عرفت

هكذا نتغير... مختارين او مرغمين

هوية سائلة؟

وعي المستقبل

 

24/11/2021

هكذا نتغير... مختارين او مرغمين

 

سألني احد الاعزاء عن تأثير التكنولوجيا على الهوية الفردية: ماهي طبيعة هذا التأثير وكيف يحدث ، وهل لنا يد في تحديد اتجاهاته وانعكاساته.

وكنت قد لاحظت في كتابة سابقة ان هذه المسألة تعامل بنوع من الاستخفاف. ولذا فهي لا تدرس بعناية ، ولا تعامل من جانب الباحثين المحليين كتحد جدي أو داهم. هناك أيضا من يحصر المسألة في تأثر الشباب بسلوكيات المجتمعات التي يتواصلون معها ثقافيا ، من خلال الانترنت او الاعلام المرئي او السفر ، ولا ينظر الى التحول الذهني الذي يحفر في العمق .

حسنا. دعنا نضع النقاط على الحروف: من حيث المبدأ نحن لا نتحدث عن تطور تكنولوجي منفرد ، او معزول في جوانب معينة من الاقتصاد. صحيح ان علاقتنا بالتقنية مقصورة على استعمال منتجاتها ، فنحن لا نشارك في انتاجها أو تطويرها. مع ذلك فان هذا الاستعمال لا يجري في فراغ ، بل هو جزء من نمط معيشي/ اقتصادي جديد ، وهو يشير الى قدر من المعرفة بطبيعة هذه التقنية وحدودها ، واستعداد (نفسي) للتنازل عن التزامات ، كانت تبدو في الماضي ضرورية جدا. ومثالها البسيط هو تقبل امتلاك الشاب والفتاة لهاتف خاص لا يخضع لرقابة العائلة ، وهو أمر لم يكن متاحا في الماضي ، سيما بالنسبة للفتيات (الواقع انه لا زال مشكلة وسببا للنزاع في وسط العائلات الاشد تحفظا).

زبدة القول ان التقنية لا تأتي منفردة. فهي تعبير عن تحول حدث فعلا في نفس صاحبها او مستعملها. الى ذلك فهي تفتح الباب امام فرص جديدة ، اي تحولات أخرى ممكنة. ان الذي أمامنا ليس مجرد "شيء" او "سلعة" بل رمز لخيارات حياتية مختلفة عن خيارات آبائنا. الواقع ان آباءنا لم يرفضوا هذه الخيارات ، ولا نعلم كيف سيكون موقفهم منها ، فهم لم يعرفوها ولا هي فرضت نفسها على حياتهم ، كما جرى لنا.

التكنولوجيا تغير صلب حياتنا. فهي تؤثر بعمق على مصادر المعيشة وعلى طريقة العيش ، كما تلغي مصادر للمعرفة اعتدنا عليها ، وتستحدث مصادر جديدة. هذا يعني – ضمنيا - انها تقطعنا عن أفق تاريخي كنا جزء منه ، وتعيد وصلنا بآفاق جديدة مختلفة. نحن إذن نتحدث عن تطورات متوازية ، تنعكس – قسرا – على حياة كل فرد فيتغير موقعه من الخريطة الاقتصادية للبلد ، لكنه قبل ذلك يغير رؤيته لنفسه وطريقة عيشه ، ويتحقق هذا التغير من خلال مقارنة بين ذاته السابقة وذاته الراهنة ، وعلاقة كل منهما بالأشخاص الآخرين الذين يعرفهم او يسعى للتعرف عليهم.

 انظر الى نفسك والى الاشخاص الذين تتعامل معهم اليوم ، كيف كنتم قبل 30 او 40 عاما: اعمالكم ، مصادر عيشكم ، نطاق علاقاتكم الاجتماعية ، ثقافتكم ، علاقتكم مع آبائكم واخوانكم ، تطلعاتكم ، رؤية كل منكم لنفسه وللعالم المحيط. كل من هذه العناصر يساهم في تشكيل ذهن الانسان ،  أي تشكيل شخصيته او هويته.  

قارن بين اعضاء الجيل الذي تنتمي اليه ، والجيل التالي لكم: الفوارق في مصادر الدخل والقيم الاساسية ، وفي التفكير والتطلعات والمخاوف ، وفي سرعة الانتقال بين الافكار والقناعات.

الفوارق بين الجيلين تعكس التحول في العوامل المؤلفة للهوية ، اي العوامل التي تؤثر في فهم الشخص لنفسه وعالمه.

زبدة القول ان تحول التقنية والاقتصاد يغيرنا بعمق ، لكن ببطء. وهو يحدث لأننا اخترنا الانضمام الى العالم الجديد ، بما فيه من اقتصاد وتقنية ومعارف وقيم.

الشرق الاوسط الأربعاء - 19 شهر ربيع الثاني 1443 هـ - 24 نوفمبر 2021 مـ رقم العدد [15702]

https://aawsat.com/node/3321556/

مقالات ذات صلة

الفقر والإحباط والغضب

فلان المتشدد

استعادة الايمان بالذات

اعادة بناء القرية .. وسط المدينة

تطوير التعليم من الشعار إلى المشروع

الحق أولا

سجالات الدين والتغيير في المجتمع السعودي (كتاب)

شغب الشباب في اليوم الوطني

صناعة الشخصية الملتبسة

غلو .. ام بحث عن هوية

ما الذي يجعل الانترنت مخيفا للزعماء التقليديين ومحبوبا للشباب ؟

المدرسة وصناعة العقل

المدرسة ومكارم الاخلاق

معنى ان يكون التعليم العام واسع الافق

من جيل الى جيل

نقد مقولة التغرير

وعي المستقبل

 

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...