تجميد اتفاق التفاهم بين حزب الله والجمعيات السلفية في شمال لبنان ينطوي على مدلولات تستحق التأمل . سوف اركز
هنا على زاوية محددة تدرس عادة في اطار علم اجتماع الدين. يدرس هذا الحقل كيفية
تاثير الدين في افعال الافراد وحياتهم الاجتماعية ، وصولا الى تاثير العوامل
الدينية في تنظيم المجتمع وحركته. وهو ينظر الى الطرفين : |
حسن الشهال (الجمعيات السلفية) - إبراهيم أمين السيد (حزب الله) |
الدين والجماعة كعاملين
متفاعلين ، كل منهما يعيد صياغة الاخر على ضوء التاثيرات التي يتلقاها من العوامل
الاخرى خارج اطار كل منهما . وكمثال على ذلك فان دين الجماعة (او مذهبها) يسهم في
تمايز هويتها عن الجماعات الاخرى كما يسهم في ترتيب همومها واولوياتها على نحو
مختلف عن غيرها. وفي المقابل فان اسلوب حياة الجماعة ، مصادر عيشها ، تراثها
الثقافي ، وتجربتها التاريخية والحياتية ، ذات تاثير عميق على فهمها للقيم الدينية
.
ولهذا السبب نجد مجتمعات تتبنى نفس الدين (او المذهب) لكنها تتفاوت في فهمها
للقيم الخاصة بذلك الدين او المذهب ، وتتفاوت في ترتيب نقاط التركيز والاولويات
ونطاق المباحات والمحرمات او المكروهات.
من هذه الزاوية يختلف السلفيون اللبنانيون عن نظرائهم السعوديين في تحديد
نطاقات الالتزام والامتناع . ترى ذلك واضحا في احكام الستر والنظر وعلاقة الرجال
بالنساء ، وفي العلاقة مع غير السلفيين وغير المسلمين بشكل عام.
ويختلف الشيعة
البحرانيون والسعوديون عن نظرائهم اللبنانيين والايرانيين والعراقيين في تلك
الموارد وفي العلاقة مع الدولة ، كما في الاطار القيمي لطرق ومصادر المعيشة
ونواظمها. العامل الذي صنع الفرق هو فهم كل من هذه المجتمعات لمقتضيات واولويات
دينه (او مذهبه) وكيفية انطباقها على وقائع الحياة اليومية ، وهو فهم متاثر كما اسلفنا
بعوامل ثقافية واجتماعية واقتصادية تولدت في مجملها خارج اطار الدين والجماعة.
موضع اهتمامنا هنا هو الشق
الثاني ، اي كيف تعيد الجماعة صياغة دينها على ضوء ضرورات ومتغيرات الحياة اليومية
. وسوف اركز خصوصا على تصور الجماعة للمصلحة (التي تسند دائما الى مبررات دينية).
في تبريره لتجميد اتفاق التفاهم مع حزب الله قال الشيخ حسن الشهال رئيس
"جمعية العدل والاحسان" السلفية انه مهتم بتهدئة "الساحة السلفية" من الخلافات التي
اثارها الاتفاق. وفسر ذلك بان الاتفاق كان يستهدف في الاساس اتقاء التناحر
والنزاعات ، وتحصين الساحة اللبنانية ، وان التوقيع جاء: "إيمانا منا بالمنهج
الإسلامي السلفي الصحيح" . لكنه ادى من جهة ثانية الى اختلاف داخل الطائفة
السنية ، وان بعضهم اعتبره تجاوزا لدار الفتوى التي ينظر اليها كراس للهرم الديني
السني ولتيار المستقبل وزعيمه سعد الحريري الذي يمثل الطائفة سياسيا ، كما عارضه
بعض الزعماء السلفيين . ولهذا فان سلم الاولويات سوف يتغير وينتقل من تحصين الساحة
اللبنانية الى تحصين الساحة السنية ولا سيما السلفية.
استقبلت الساحة اللبنانية
اتفاق التفاهيم السلفي – الشيعي كخروج معلن من بيت الطاعة الذي تمثله الزعامة
التقليدية المتمثلة في دار الفتوى وتيار المستقبل. ونظر اليه كثيرون كتمهيد لدخول
التيار السلفي في الانتخابات النيابية القادمة منافسا لتلك الزعامة. وايا كانت نية
اطراف الاتفاق ، فان النتيجة النهائية هي تحول التيار السلفي من جماعة دينية خارج
السياسة الى جماعة سياسية تهتم باستثمار مخزون العواطف الدينية لصالحها بعدما كان
احتياطيا مفتوحا لتيارات اخرى ، من تيار الحريري الى العائلات التقليدية مرورا
بالاحزاب المختلفة النشطة على الساحة اللبنانية. بعبارة اخرى نحن نتحدث عن محاولة
مقصودة لتحويل العلاقة الدينية من عامل محايد مفتوح للجميع الى فاعل محدد الاتجاه
يخدم الجماعة السياسية ومشروعها الخاص.
جاء الاتفاق كما قال الشهال تعبيرا عن
المنهج الاسلامي السلفي الصحيح ، ولا بد ان تجميده يعبر عن ذات المنهج ، فاصحاب
المنهج لا يرون انفسهم مخطئين او خارجين عليه . تكشف هذه المفارقة عن تحول مثير في
فهم وتطبيق المنهج ، جرى خلال 48 ساعة فقط. فهل كانت الجمعيات الموقعة على الاتفاق
جاهلة واكتشفت خطأها بعد ساعات من التوقيع ؟. ام انها اعادت تحديد المصالح
والاولويات على عكس ما كانت قد توصلت اليه سابقا؟. هل كان الاتفاق عملا صالحا
وتراجعت عنه ، ام كان فسادا اقدمت عليه ثم تابت الى الله منه ؟.
الواضح ان الحساب هنا ليس
بمثل هذا التحديد . فقد وضع الاتفاق وتقرر التراجع عنه على ضوء حسابات عقلية
للمصالح الخاصة بالجماعة . ما كان يحرك الجماعة في اول الامر هو مصلحتها الخاصة ،
وما حركها في نهاية المطاف هو مصلحتها الخاصة ايضا . لكنها ادخلت القيمة الدينية
كعامل تبرير وتسويغ لتلك المصلحة في الحالين. نحن اذن لا نتكلم عن دين يحدد ما هو
صالح وما هو فاسد ، بل ارادة بشرية تقرر ما هو ديني ، اي صالح ، وماهو غير ديني ،
اي فاسد. بعبارة اخرى فان الدين هنا صنيعة الجماعة وانعكاس لمصالحها ، وليس العكس.
يرفض التيار الاسلامي بجميع
فصائله تقريبا العلمانية ويعتبرها خروجا عن الدين. لكن في التحليل العلمي يعتبر
السلوك السابق علمانيا . لو قربنا المسألة بجعل العلمانية مساوية لعرف الجماعة ،
اي اتخاذ القيم التي يصنعها البشر – وليس الوحي - معيارا للصلاح والفساد في فهم
الدين او في تطبيقه ، فان ما حصل ينطبق عليه وصف العلمانية لان راي البشر
ومعاييرهم قد طبقت في واحد من الحالين على الاقل ، اي في توقيع الاتفاق او في
تجميده. هذه العملية التي يمارسها عامة الناس ، فضلا عن الجماعات السياسية كل يوم
تقريبا ، تنطوي على اعادة صياغة للقيمة الدينية كي تطابق العرف مثلما يفصل الخياط
الثوب كي ياتي على قياس لابسه . القيمة الدينية هنا مثل الثوب واللابس هو العرف او
مصلحة الجماعة.
زبدة القول ان المثال السابق
يكشف عن طبيعة التفاعل القائم بين الدين والجماعة ، وكيف ان الجماعة تعيد يوميا
صياغة دينها وتؤثر فيه مثلما يؤثر الدين في الجماعة ويسهم في تحديد هويتها وسلوكها.