‏إظهار الرسائل ذات التسميات ستيف بيكو. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات ستيف بيكو. إظهار كافة الرسائل

21/03/2024

رحلة البحث عن الذات

 

قلت في الاسبوع الماضي ان كتاب الاستاذ اياد مدني "حكاية سعودية" ليس سيرة ذاتية بالمعنى الدقيق ، وان بدا هكذا. وسألت نفسي حينئذ: ان لم يكن سيرة ذاتية ، فما هو موضوعه اذن ، ما الذي يقوله الكتاب وما الذي اراده الكاتب؟.

بالنسبة لي فالكتاب اقرب الى دراسة في "تاريخ الافكار". وهذا - للمناسبة – حقل علمي لم ينل حظه من الاهتمام حتى اليوم. وأذكر مثلا ان أعمال الفيلسوف البريطاني ايزايا برلين (1909-1997) تصنف عادة ضمن هذا الحقل. لعل غيري من القراء صنفه كدراسة في تكوين الهوية. والحق ان هذا الوصف اقدر على الجمع بين فصول الكتاب.

المدينة المنورة التي انطلق منها الكاتب أحتلت جانبا محدودا من الفصل الاول. فقلت لنفسي: ان سيرة الشخص هي – في جانب رئيسي - تاريخ المكان الاجتماعي الذي ينتمي اليه ، فلماذا لا يبدو المكان بارزا هنا؟. وضعت بعض الاحتمالات ، لا استطيع الجزم بأي منها. احتمالات من قبيل ان المدينة منذ تلك الحقبة ، أي ستينات القرن العشرين ، لم تكن مجتمعا مستقرا  بل لعل الوصف الاقرب اليها انها مجتمع في حال سيولة ، يكثر الآتون اليها ويكثر الخارجون منها. وبالنظر لخصوصية الوضع الديني – العلمي للمدينة ، فهذه الحركة البشرية تجلب معها ثقافات متفاوتة واعراقا مختلفة ، تحتاج لوقت طويل كي تندمج فتشكل وحدة اجتماعية. وهو وقت لم يكن متاحا في غالب الاحوال.

لكن لو اعتمدنا تفسير الكاتب نفسه ، فهو يأخذنا سريعا الى رحلته المصرية ثم الامريكية ، وهما – فيما بدا لي – المرحلتان الاعمق اسهاما في تكوين الاسئلة التي شغلت ذهنه طيلة العقدين التاليين. المهم اذن هو ولادة الاسئلة التي ستحدد مسار الحياة.

في الفصل الثاني سنفهم العلاقة بين نكبة حزيران 1967 وبين اختياره للصحافة كمحور لحياته التالية. الواقع ان معاناته كطالب أجنبي في الولايات المتحدة في تلك السنوات ، قد عمقت شعوره بالحاجة لتصميم هوية "يختارها بنفسه" لا الهوية التي يفرضها المحيط. خلال هذه المكابدة ، كان قد لاحظ النقطة الغامضة التي نادرا ما التفت اليها أمثالنا ، اي عملية القولبة او التنميط القسري التي يفرضها عليك المحيط ، فتتقبلها بصورة عفوية لانك لا تعرف بديلا ، او تضطر لقبولها لانك لا تحتمل كلفة البديل. في الفصل 12 يقدم مدني معالجة عميقة ومفصلة الى حد ما عن هذه القصة ، ويذكرنا بمقولة شهيرة للمناضل الجنوب افريقي ستيف بيكو "ان اقوى سلاح في يد الجبابرة هو عقل المقهورين".

لقد رسمت المجتمعات الغربية صورة للعالم الاسلامي ، تجعله مستحقا للقهر ، لانه عاجز عن اكتشاف تخلفه ، وعاجز في الوقت نفسه عن تجاوز تلك المحنة ، او ربما غير راغب في التغيير. هذه الفكرة تقبلها كثير من المسلمين ، وباتت – وهذا هو الجانب المؤلم في القصة – مبررا للتعامل معهم تعاملا فوقيا ، او حتى تبرير اذلالهم. وضع العرب والمسلمون في موقف من يتوجب عليه تبرير قناعاته وسلوكياته ، والإجابة على كل سؤال يختاره الطرف الاخر. ان تقبل المسلم لهذا الموقف واعتياد الطرف الآخر عليه ، انشأ تعريفات ضيقة لما هو صحيح وما هو خطأ ، اي ما يسمح بقوله وما يجب السكوت عنه. وهذي هي المرحلة الحاسمة في توليف الهوية الفردية.

لم يقل اياد مدني صراحة انه اراد اصدار صحيفة باللغة الانكليزية ، كي تساهم في تصحيح هذه الصورة البائسة ، مع انه أشار الى ان صحيفة كهذه ، سوف تخبر العالم بان لدى هذه البلاد واهلها ما يستحق ان يقال وما يجب الاصغاء اليه. المرحلة الاخيرة في رحلة البحث عن الذات ، هي العودة الى المكان الذي خرج منه. المهمة الرئيسية الآن هي ان تختار هويتك بنفسك. ربما لا يرتاح الاخرون لرؤيتك على هذا النحو ، لكن المهم ان تقتنع بها أنت ، حينئذ سيعمل الزمن لصالحك وسيضطر الاخر الى قبولها في نهاية المطاف. هذا هو ملخص الحكاية السعودية.

الشرق الاوسط الخميس - 11 رَمضان 1445 هـ - 21 مارس 2024 م

https://aawsat.com/node/4923371

مقالات ذات صلة

 اشكالية الهوية والتضاد الداخلي

أن نفهم الآخرين كما هم لا كما نتصورهم

تأملات في حدود الفردانية

تكون الهوية الفردية

حكاية سعودية.. تحولات اياد مدني

حول الانقسام الاجتماعي

الخيار الحرج بين الهوية والتقدم

عن الهوية والمجتمع

القبيلة والطائفة كجماعات متخيلة

كيف تولد الجماعة

مسيرة الهويات القاتلة

الهوية المتأزمة


اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...