نقول ان فلانا تفكيره عقلاني ، ونعني انه ملتزم بالتأسيس المنطقي لقناعاته. لكن التفكير العقلاني اوسع من قواعد المنطق ، الا اذا توسعنا في تطبيق هذه القواعد ، فقلنا مثلا انها تنطبق على كل تفكير يتبع مسارا معروفا مترابطا ، بحيث يمكن للنهايات ان تفسر البدايات ، تفكير يمكن لكل من اتبع نفس مساره ، او التزم بنفس قواعده ، ان يصل الى ذات النتائج.
ومن اركان التفكير العقلاني ، ان المعارف والأعراف والعلوم والاخلاقيات
والجماليات ، جميعها مؤقتة ، بمعنى انها تعبير عن مستوى ذهني/معرفي ، او هي مرحلة
في فهم الذات والعالم ، ما إن تتحقق او تتجلى حتى يتجاوزها العقل الى ما وراءها. التفكير
مثل النهر ، كلما استلم موجة دفعها واستلم غيرها. ولو توقف عن هذا الفعل لركد
الماء وتحول النهر الى مستنقع آسن.ناعورة "المحمدية" وسط حماة. بنيت في 1361م
وقد تأملت يوما في نواعير الماء التي تشتهر بها مدينة حماة في غرب سوريا ، ولفت نظري
خصوصا ان الغرض الوحيد لهذه الآلة الجميلة ، هو ملء أوعية الماء وحملها الى الأعلى.
فما ان تصل الدلاء الى قمة العجلة ، حتى تسكب الماء كله ، ثم تعود الى القاع كي
تملأ الدلاء من جديد. قلت في نفسي ان عقل الانسان يشبه – من أحد الوجوه – هذه
الناعورة ، كلما تخيل الانسان انه امتلأ بمعرفة من نوع ما ، سكبها في الجانب الآخر
وعاد الى البحث عن غيرها ، مثلما فعلت الناعورة حين ملأت الوعاء وحملته الى الاعلى
، فألقت به وذهبت تأخذ غيره.
وهذا يوضح معنى زعمنا بان المعارف مؤقتة. وأظن ان الفيلسوف المعروف كارل بوبر (1902-1994) هو افضل من وصف هذه
الحقيقة ، حين قال ان النظريات العلمية لا تحكي حقيقة ولا تصف حقيقة ، بل هي ببساطة
احتمال راجح في وقته probability ، والاعلان عن اي نظرية هو بذاته المسمار الاول في نعشها. فما ان
يعرف الناس بها حتى يهلكونها درسا وتجريبا ، فيكشفون عيوبها ، فيقترحون صيغة ارفع
منها او نظرية بديلة عنها. وهكذا تتحول من احتمال راجح في وقته ، الى احتمال مرجوح
، ثم يتركها الناس الى غيرها ، وهكذا يتقدم العلم. النظريات التي نؤمن بها ونطبقها
اليوم لم تنبت في الصحراء ، بل كانت ثمرة لمجموع المعارف والنظريات التي سبقتها ،
ولولا ظهور هذه لما اكتشفنا خطأها ، ولولا تخطئتها لما عرفنا البدائل الأفضل منها.
ومن هنا قال بوبر بانه لا بد للنظرية ان تكون قابلة للتفنيد falsifiable كي نسميها علما. فان لم تكن
قابلة للتفنيد ، فهي اما علم زائف او ميتافيزيقا او ايديولوجيا ، او اي نوع آخر من
المعارف غير العلم.
ترى... هل كانت النظرية التي تخلينا عنها خطأ ، فاخترنا البديل الصحيح؟ ام
كانت صحيحة لكننا وجدنا ما هو اصح منها؟
الواقع ان هذا السؤال ليس واقعيا وليس مفيدا ايضا. فما المفيد في وصف نظرية
ما بانها صحيحة او خاطئة ، مع علمنا بانها – في كل حال – تلعب دورا في اضاءة
الطريق امامنا الى النظرية التالية؟. انها اقرب الى الجسر الذي حملنا الى ضفة
النهر الاخرى وبقي في مكانه ، فهل نشتمه او نهدمه بعدما تجاوزناه ، هل نعتبره
جامدا او كسولا لأنه لم يرافقنا الى نهاية الطريق؟.
حسنا.. هل يمكن تطبيق هذه الأوصاف على المعارف التي تنتمي الى تراثنا الديني
أو القومي او اعراف مجتمعنا وتقاليده؟.
اني اسمع اشخاصا يرفضون - من حيث المبدأ - نسبة هذه المعارف الى العقل. وهم
لا يقولون انها غير عقلانية ، بل يقولون ان العقل عاجز عن استيعابها والحكم عليها.
وأظن ان السطور السابقة قد اوضحت لماذا نحتاج للتفكير العقلاني.
الشرق الاوسط الأربعاء - 16 مُحرَّم 1445 هـ - 2 أغسطس 2023 م https://aawsat.news/nvfez
مقالات ذات صلة
اسطورة العقل الصريح والنقل الصحيح
ايديولوجيا الدولة كعامل انقسام: كيف يحدث التفارق الآيديولوجي والثقافي؟
الحكم اعتمادا على العقول الناقصة
حول القراءة الايديولوجية للدين
عن الدين والخرافة والخوف من مجادلة المسلمات
عودة الى نقاش الدور التشريعي للعقل
مدينة الفضائل
نافذة على فلسفة كارل بوبر
نافذة على مفهوم "البراغماتية"