‏إظهار الرسائل ذات التسميات اليد الخفية. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات اليد الخفية. إظهار كافة الرسائل

01/05/2025

حقيقة "اليد الخفية" التي تحرك السوق

أرى ان تبلور مفهوم "الفردية" ولاحقا مبدأ "الفردانية" هو الحجر الأساس لمبدأ "حقوق الانسان" الذي يعرفه عالم اليوم. لا ينبغي – طبعا – تناسي الخلافات الواسعة حول مبدأ "الفردانية" في المجتمعات الليبرالية والتقليدية على السواء ، سيما مع ربطه - انصافا او تكلفا – بالميل الطبيعي عند بني آدم للاستئثار بالمنافع قدر امكانهم. ونعرف ان المجتمعات قد تعارفت منذ نشأتها ، على مراعاة الجماعة ، والتضامن بين أعضائها ، واعتبروا هذه من الاخلاقيات الضرورية للعيش السليم.

عموما ، فان الموازنة بين الفرد والمجتمع في الحقوق والتكاليف ، كانت موضع جدل على امتداد التاريخ. في مختلف الازمان ، كان الفرد مطالبا بغض الطرف عن حقوقه ورغباته ، وبالاندماج في الكتلة الاجتماعية ، كي يكسب لونها وهويتها. وفي المقابل ، كان ثمة محاولات لأفراد ، أرادوا الانعتاق مما اعتبروه قيدا متكلفا على حياتهم أو تطلعاتهم.

اني مقتنع تماما برؤية الفيلسوف المعاصر جون رولز ، التي تدعو لموازنة حاسمة بين حقوق الفرد والجماعة. لكني أعتقد أيضا ان الفردانية كمبدأ وكفلسفة ، ضرورة للتقدم والحياة الكريمة ، لا يمكن الاستغناء عنها ، وان مكانتها وأهميتها لا تقل عن الحرية والمساواة ، سيما في المستوى السياسي والتطبيقي.

كان آدم سميث ، الاقتصادي الاستكتلندي المعروف (1723-1790) قد أشار في كتابه المرجعي "ثروة الأمم" الى ما عرف لا حقا باسم "اليد الخفية". هذه الفكرة تعالج مسألة في عمق الجدل السابق الذكر ، اعني بها الدوافع الشخصية ، الأنانية في بعض الأحيان ، وتأثيرها على الاقتصاد المحلي ، وقدم رؤية عميقة جدا رغم بساطة عرضها ، في بيان ان  المبادرات المنبعثة من مصلحة شخصية ، ضرورية لتحريك عجلة الاقتصاد[1].

وفقا لهذه الرؤية فان المصلحة الشخصية هي الباعث وراء الغالبية الساحقة من تعاملاتنا مع الآخرين ، في الاعمال والسوق وغيرها. ولو أردنا مراقبة النوايا ، فان غالبية الافراد ينطلقون من رؤية ضيقة ، أنانية نوعا ما. لكن هذا التعامل ، أيا كان دافعه ، يؤدي بالضرورة الى منفعة عامة. خذ على سبيل المثال شخصا دخل المتجر لشراء معطف يقيه البرد. سوف يختار هذا الشخص المعطف الأنسب لحاجته وقدرته الشرائية ، بغض النظر عن حاجات البائع او ميول الجماعة. لكن البائع سينتفع من هذا التبادل ، حتى لو لم يكن مقصودا من جانب الشخص الذي أنشأ المعاملة. لا يقتصر الامر على البائع ، فالخياط الذي صنع المعطف والفلاح الذي انتج المواد الخام ، وعامل النقل الذي جلب هذه المواد ثم جلب المعطف الى المتجر ، والحكومة التي تفرض ضرائب على المشتريات والدخل ، سينتفعون جميعا ، بقدر قليل أو كثير ، مع انهم لم يكونوا مقصودين بالمنفعة ، بل لم يكونوا أصلا في ذهن الشخص الأول أو الثاني اللذين اشتركا في تلك المعاملة.

"اليد الخفية" ببساطة ، أشبه بالحجر الصغير الذي ترميه في بركة كبيرة ، فيحرك موجة تتسع كلما ابتعدت عن نقطة البداية. ذلك الحجر هو المبادرة الشخصية المدفوعة بمصلحة خاصة لفرد واحد ، اما البركة فهي الاقتصاد الوطني ، والموجات هي مجموع التبادلات التي تتولد نتيجة لتلك المعاملة الصغيرة. انها خفية لأن أحدا لم يقصدها ، مع ان المخططين وقادة الاقتصاد ، يعلمون تماما انها ستحدث على هذا النحو ، بل ويستطيعون تقدير حجمها وأثرها.

الواقع ان هذا يشبه تماما دور الفرد الذي يحاول ان يصنع شيئا لنفسه ، لاشباع فضول او صناعة ثروة او مجد. لكنه – من وراء هذا – يضع لبنة جديدة في عمارة التقدم وعمران العالم. لو نظرنا الى ابرز التطورات التي عرفها البشر ، سنجد انها نتاج مبادرات أفراد أرادوا منفعة انفسهم ، لكنهم أغنوا حياة البشر جميعا.

الفردانية ، رغم وصمها بالأنانية ، قد لا تكون سيئة دائما ، بل لعلي لا أبالغ لو قلت ان قتلها وتحجيمها كان طالع سوء في أغلب الأحيان.

الخميس - 04 ذو القِعدة 1446 هـ - 1 مايو 2025 م  https://aawsat.com/node/5138150

[1] لا بد من إشارة الى ان سميث تعرض لهذه الفكرة مرتين ، احداهما في كتابه "ثروة الأمم". ولذا ينسب اشتهار الفكرة الى الدراسات التي صدرت في النصف الثاني من القرن العشرين. لبعض المعلومات حول هذه النقطة ، انظر اورن كاس: البحث عن اليد الخفية ، مجلة التمويل والتنمية ، مارس 2025

.  انظر أيضا تحفظات ايمون باتلر: آدم سميث مقدمة موجزة ، ترجمة علي الحارس ، (مؤسسة هنداوي 2014)   الفصل السادس  https://www.hindawi.org/books/73597191/6/

 

لماذا ينبغي ان نطمئن الى تطور الذكاء الصناعي؟

  اطلعت هذه الأيام على مقالة للاديبة العراقية المعروفة لطفية الدليمي ، تقترح خطا مختلفا للنقاش الدائر حول الذكاء الصناعي ، وما ينطوي عليه ...