||
الحرية حق للمواطن لانه شريك في ملكية ارض وطنه. من الناحية الاخلاقية والدستورية لا
تملك الدولة اي حق في "منح"
الحرية او حجبها. الحرية الفردية والحريات العامة ليست ملكا للرئيس كي يمنحها ،
وليست ضمن حدود صلاحياته الدستورية كي يحجبها ||
يطالب
دعاة الاصلاح بالحرية ، لانها حق لهم ولكل مواطن. ومن دون الحريات الفردية والعامة فان
المواطنة تصبح كلمة فارغة من اي مضمون. في ماضي الزمن كان اعضاء القبيلة او سكان
القرية اتباعا لرئيسهم. وامتد هذا المفهوم بعد قيام الامبراطوريات الكبرى ، فاصبح
عامة افراد المجتمع اتباعا للامبراطور او الحاكم.
وبقي
هذا المفهوم سائدا في دول العالم حتى 1789 ، حين اصدر برلمان الثورة الفرنسية وثيقة حقوق الانسان والمواطن
التي مثلت اول تقرير رسمي لشريحتين من الحريات ، تقرر الاولى ما هو حق للانسان
باعتباره انسانا ، بينما تعالج الثانية الحقوق التي يتمتع بها المواطن بسبب
انتمائه للمجتمع وشراكته فيه.
التمييز
بين الحقوق الطبيعية ، اي تلك المرتبطة بانسانية الانسان ، والمدنية او الدستورية
المرتبطة بشراكته في المجتمع السياسي ، هو ثمرة للنقاشات الفلسفية والفكرية التي
شهدتها اوربا منذ منتصف القرن 17 ، والتي انتهت الى تاسيس ما نعرفه اليوم من فلسفة
سياسية حديثة تهتدي بها جميع الدول المتقدمة. في حقيقة الامر فان تطور هذا المفهوم
كان حجر الزاوية ، في النهضة العلمية التي قامت على ارضيتها وفي اطارها الحضارة
المعاصرة.
ثمة
فارق جوهري بين مفهوم الحرية الذي تطور في هذا السياق ، وذلك المفهوم الذي يتبناه
التقليديون. هذا الفارق يكمن في فكرة الشراكة في الوطن. ففي الازمان الغابرة لم
يكن الانتماء الوطني او الاجتماعي اساسا لحقوق معينة يتمتع بها الافراد. في بعض
الحالات كان ثمة امراء صالحون "يتفضلون" على رعاياهم بحقوق او حريات
معينة ويفضلون لين المعاملة على التشدد ، وربما استشاروا بعض اهل الراي او نخبة
القوم قبل اتخاذ القرارات الرئيسية.
والواضح
ان مفهوم الحرية الذي يتبناه التقليديون لا يختلف كثيرا عن هذا السياق ، فهم
يفضلون الملاينة على التخاشن والمشورة على الانفراد بالراي. كما يفضلون حل
التعارضات بالمعروف بدل استعمال القوة.
ولا شك ان هذه الميول تستحق التقدير. لكن
هذا المفهوم لا يقود – في نهاية المطاف – الى الحريات الفردية والمدنية التي يطالب
بها عامة سكان الارض في هذا الزمان. بل هو اقرب الى فكرة التسامح التي تتماثل مع
الحرية في بعض الجوانب ، لكنها تختلف عنها في الارضية الفلسفية التي تنبعث منها ،
كما تختلف عنها في الاطار القانوني الذي تعالج ضمنه قضاياها ومترتباتها. انها اقرب
الى قرار "من فوق" مثل ميل الاب الى استعمال اللين مع ابنائه ، او قرار
رئيس شركة بمداراة موظفيه. وهذا يختلف اختلافا بينا عن مفهوم الحرية الذي اطلق
النهضة العلمية والصناعية التي يعرفها عالم اليوم .
المفهوم
الجديد يعتبر الحرية "حقا للمواطن" يتمتع به لانه شريك في ملكية الارض
التي نطلق عليها اسم الوطن. وسواء كان الرئيس كريما او بخيلا ، لينا او خشنا ،
متفضلا او ممسكا ، فانه لا يملك من الناحية الاخلاقية او من الناحية الدستورية
"منح" الحرية او حجبها. بعبارة اخرى فان الحرية الفردية والحريات العامة
ليست ملكا للرئيس كي يمنحها ، وليست ضمن حدود صلاحياته الدستورية كي يحجبها. بل ان
وجوده على مقعد الرئاسة وتمتعه بالصلاحيات والامتيازات التي يتفوق بها على غيره ،
مشروط بحمايته لحقوق مواطنيه وحرياتهم وتكريس جهده للدفاع عنها ومنع الاضرار بها
او تعطيلها من جانب اي هيئة اخرى حكومية او غير حكومية.
لهذا
السبب فان دساتير الدول المتقدمة ، تنص صراحة على بطلان اي قانون او قرار او اجراء
حكومي يؤدي بصورة من الصور الى تعطيل حريات المواطنين. ولحسن الحظ فان واضعي
الدستور العراقي الجديد قد توصلوا الى صيغة مبتكرة ، تمثل حلا لاشكالية العلاقة
بين الدين والحرية. اذ تنص معظم دساتير الدول العربية كما هو معروف على ان الاسلام
مصدر اساسي للتشريع والقانون. لكن كان ثمة خشية من ان يستثمر بعض المتشددين واصحاب
العقول العسيرة هذه المادة في اصدار قوانين او سياسات تعطل الحريات الفردية ، كما
هو مشهود في عدد من الدول العربية التي تصدر فيها بين الحين والاخر قرارات حكومية
او احكام قضائية تعطل حريات التعبير او العقيدة او العمل تحت مبررات تلبس ثوب
الدين او التقاليد.
الحل
الذي توصل اليه المشرعون العراقيون ، هو اضافة مادة تنص صراحة على الغاء اي قانون
يعارض المتفق عليه من الدين الحنيف او يضيق حرية المواطن (المادة 2). وهكذا ربطت بين الالتزام
باحكام الدين وحماية الحريات الفردية. ومن المأمول ان يسهم هذا التاسيس الدستوري
في اطلاق حركة فكرية واجتماعية نشطة بعد ان تستقر الاوضاع في العراق في قادم
الايام.
من
المفهوم بطبيعة الحال ان مفاد الحرية لا يتحقق على ارض الواقع ما لم يكن الامن
والنظام العام مستقرا. ولذا قيل بان الحرية لا توجد الا في مجتمع يحكمه القانون.
لكن شتان بين قانون يسعى لحماية الحرية وقانون يسعى لتعطيلها بحجة الامن
والاستقرار. ومن المؤسف ان هذا هو الميل الغالب عند الكثير من الحكومات العربية.
واذا كان للعلم من فائدة ، فان العديد من الدراسات الجديدة المدعومة باستنتاجات عن
تجارب فعلية ، قد توصلت الى ان تعطيل الحريات لم يؤد ابدا الى سيادة الاستقرار ،
بل ادت في كثير من الاحيان الى نقل التوتر الاجتماعي من السطح الى تحت الارض
وانتجت حالات التمرد والانشقاق التي نعرفها في العالم العربي اليوم.
مقالات ذات علاقة