في نهاية المطاف سيكون لدى
مقتدى الصدر حزب سياسي يتنافس مع الاحزاب الاخرى ضمن دائرة محددة. قد تزيد حصته او
تنقص لكنها لن تكون حاسمة. رغم قصر المدة التي مرت على العراق منذ سقوط النظام السابق ، فقد كشفت عن عدد من الحقائق التي تمثل قيودا على السياسة او حدودا موضوعية
لما يمكن استخدامه من قوة مادية وما يمكن استخدامه من مساومات.
لو اتجه الصدر الى الجنوب
قليلا فلربما كان اقدر على صناعة قوة شعبية اكبر حجما, لكنها حينئذ ستكون اقل
تأثيرا في المعادلة السياسية العراقية. اختيار النجف ومدينة الصدر كمركز لادارة
الصراع كان على الارجح تطورا طبيعيا لوجوده شخصيا ووجود انصاره في المدينتين. ولو
نجح في تطبيع هذا الوجود لضمن لتياره موقعا مؤثرا في اللعبة السياسية.
قبل صدام حسين كانت النجف
مركزا مؤثرا في السياسة والنخبة السياسية. ورغم تراجع اهميتها خلال العقود الثلاثة
الماضية, الا ان المقومات الجوهرية للقوة بقيت كامنة, وسرعان ما عادت الى الظهور
بعد سقوط النظام. هذه المدينة التي يصل عدد سكانها بالكاد الى ربع مليون نسمة
يستحيل تقريبا السيطرة عليها من جانب قوة واحدة. ليس فقط مقتدى الصدر, بل حتى
المرجع الديني الشيعي الذي يتجاوز تأثيره حدود العراق, لا يستطيع ادعاء السيطرة
على النجف بمفرده والسبب البسيط لهذه الصعوبة يكمن في حقيقتين: الاولى ان شريحة
النخبة فيها واسعة جدا, والثانية انها مدينة يشعر كل عراقي بان له حصة فيها.
العراقي في البصرة والعراقي في بغداد والعراقي في الكوت يشعر بالقلق لما يحدث في
النجف بدرجة اكبر من حساسيته لما يحدث في الحي المجاور لمسكنه. وبالتالي فان لعبة
السياسة فيها اوسع بكثير من حدودها الجغرافية.
أما مدينة الصدر التي ربما
يتمتع فيها مقتدى الصدر بقوة أكبر من تلك التي في النجف, فلها شأن آخر. تقع هذه
المدينة التي تزيد عددا عن مليون نسمة على الحاشية الشمالية الشرقية للعاصمة
بغداد, وقد بدأت بالتشكل في أوائل الستينات مع تزايد هجرة الريفيين الباحثين عن عمل.
وتضاعف حجمها خلال الثمانينات بسبب تصاعد الهجرة من المحافظات الجنوبية خلال الحرب
مع إيران وغزو الكويت.
وعند تأسيسها في عهد الرئيس الاسبق عبد الكريم قاسم, حملت
اسم مدينة الثورة, ثم مدينة صدام في التسعينات قبل ان تأخذ اسمها الحالي في العام
المنصرم. والصدر الذي تحمل اسمه هو والد مقتدى, السيد محمد صادق الصدر, المرجع الديني
الذي وجه اهتماما خاصا لسكانها قبل ان يقتل على يد المخابرات العراقية. تنتمي
الاغلبية الساحقة من سكان المدينة الى الطبقة الفقيرة والمهمشة. وبسبب تشكيلتها
الخاصة فانها مورد خصب للطاقة البشرية لاي قوة سياسية, لكنها مدينة يستحيل عليها
تشكيل اجماع على اي قضية. انها - بكلمة اخرى - تلخيص للعراق كله بعشائره وطوائفه
وقومياته, لكنها ايضا متخارجة عن كل منها.
ابن العشيرة الذي يسكن هنا ينتمي الى
عشيرته لكنه لا يخضع لتقاليدها, فهو في نهاية المطاف ابن المدينة. لكنه ايضا لا
ينتمي للطبقة الوسطى المدينية, فهو لا زال محكوما بحدود الفقر وحدود التقاليد التي
تربطه الى اصوله. مدينة الصدر تلخص مشكلة الهجرة العشوائية من الريف في كل المدن
العربية الكبرى بكل تعقيداتها وهمومها وانعكاساتها.
لو سيطر تيار مقتدى الصدر
على مدينة الصدر, لكان في وسعه تشكيل ضغط هائل على العاصمة بغداد, لكن هذا يتجاوز
حدود قدرته الراهنة. وهو لن يكون قادرا بالتأكيد على السيطرة على النجف حتى لو بدا
لوهلة انه لاعب اساسي فيها. لكن المؤكد ان حركته في المدينتين قد تركت تأثيرا في
المحافظات الجنوبية. ولو بادر اليوم الى تشكيل حركة سياسية فسوف يضمن تأييد شريحة
مؤثرة في معظم محافظات الوسط والجنوب. لكنه في كل الاحوال لن ينفرد بتمثيل الشيعة
فضلا عن غيرهم. السبب البسيط لهذا هو الحدود الموضوعية للسياسة التي اشرت اليها في
البداية.
يتجه العراق -كما يظهر حتى الآن- الى اقامة نظام سياسي يماثل ما يعرف عند
دارسي العلوم السياسية بالديمقراطية التوافقية. مثل هذا النظام يقوم على تقسيم
المجموع الى وحدات سياسية لا يمكن لاي منها الانفراد بتقرير مستقبل الجميع. وفي
الوقت نفسه فان تشكيل وتركيز القوة في داخل كل من هذه الوحدات يتأثر سلبا وإيجابا
بتوجّهات الوحدات الاخرى. في مثل هذا النظام فان القوى المعتدلة هي الاقدر دائما
على ربح المعارك السياسية, لأنها - ببساطة- أقدر على المساومة.
« صحيفة عكاظ » -
24/08/2004م