المقال الاسبوعي للصديق محمد المحمود "العنف في الثقافة العربية"
أثار – كالعادة - جدلا حادا ، بعضه متصل بالموضوع ، ومعظمه انكار على الكاتب دون
مناقشة للفكرة. وخلاصة راي المحمود ان العنف جزء من تكوين الثقافة العربية. وهو يرى
هذا ظاهرا في التعامل اليومي بين الناس ، وفي تعبيراتهم المنظمة عن قضاياهم ودواخل
انفسهم ، كما في الشعر والامثال السائرة. لكن أبرز أمثلته تتجسد في الحقل السياسي.
بعض الناس سيوافق بالتأكيد على رأي المحمود ، وبعضهم سيرفضه. وهذا من طبائع الامور ، وليس ضروريا ان نجادل هذا الرأي او ذاك. لكني أود انتهاز الفرصة
، لاستكشاف واحد من اطارات النقاش في المسألة ، اعني الميل للتسالم او العنف في
السلوكيات الفردية والجمعية. ويهمني التركيز على علاقات القوة ، اي العلاقات التي تنشأ
في ظل تباين القوى بين طرفين أو أكثر ، وأبرزها – كما نعلم – علاقة الافراد بالدولة.
لكن لا ينبغي استثناء القوى الأصغر حجما ، التي تتمثل في الجماعات المنظمة او شبه
المنظمة ، وحتى الشخصيات النافذة.
اطار البحث المناسب في المسألة هو "الثقافة
السياسية". وهذا من الحقول العلمية الجديدة نسبيا ، وغرضه وصف وتفسير المكونات
الذهنية التي تؤثر في علاقات القوة. هذا البحث ، كان يستهدف في بداياته ، الاجابة
على سؤال: لماذا نجح التحول الى الديمقراطية في بعض البلدان ، وتعثر في بلدان
أخرى. هذا السؤال هو الدافع الرئيس لعمل الاستاذين غابرييل الموند وسيدني فيربا ، اللذين قاما
بدراسات ميدانية ، نشرت مستخلصاتها في كتاب "الثقافة المدينية"
، وهو في رايي أبرز المراجع في هذا الحقل. لكن باحثين آخرين مثل دانييل ليرنر
، اخذوا البحث الى بعد آخر ، فركزوا على سؤال: ما هي العوامل التي تجعل مجتمعا ما
اكثر استعدادا ، أو أقل استعداد للتحول الديمقراطي. ومن هذه النقطة انطلق بحث جديد
حول الفوارق الكبرى (في الذهنية الفردية والجمعية) بين الظرف الديمقراطي وغيره. وقد
توصلت خلال ابحاث سابقة الى أن الفارق الرئيس هو القيمة النسبية ، التي تمنحها
الثقافة الاجتماعية للمداهنة والتفاوض ، مقابل التشدد والحسم.
بعبارة اخرى فاننا بصدد نوعين من الثقافات: ثقافة تمجد الحلول
الحاسمة والسريعة. وفي المقابل ثقافة تحتفي بالمفاوضات والنقاشات المطولة وتكرار
البحث ، وتشجب استعمال القوة في حل المشكلات. المجتمعات التي يسودها النوع الاول
تتطلع الى زعيم قوي يقدم حلولا حاسمة ، نظير عصا موسى وسيف الاسكندر. اما
المجتمعات التي يسودها النوع الثاني فهي اكثر احتمالا لزعيم يجيد التفاوض ولعق
الجراح ، وربما التضحية بالكرامة الشخصية حتى يتوصل الى حل. ويرد الى ذهني في هذه
اللحظة اشخاص مثل هيروهيتو
امبراطور اليابان الاسبق ، ونيلسون مانديلا
زعيم افريقيا الجنوبية ، وكلا الرجلين قاد تحولا عظيما من ظرف الصراع العنيف الى
ظرف السلام والتقدم. ان نجاح الزعيمين يرجع بدرجة كبيرة ، الى قدرتهما على اقناع
المجتمع بان طريق النجاة ليس مواصلة الصراع العنيف ولا رد العدوان بمثله ، بل
التفاوض مع العدو حتى بلوغ الهدف ، ولو متأخرا.
اما وقد وصلنا الى نهاية المقال ، فاني اود دعوة القاريء الكريم
لمساءلة نفسه: اي نوع من السياسات (والسياسيين) يود ان يرى في بلده: الزعيم السريع
الحركة الحاسم ، ام الزعيم المفاوض البطيء؟. ان ميل المجتمعات للعلاقات العنيفة او
اللينة ، وقابليتها للتحول الديمقراطي او العكس ، رهن بميل غالبية أهلها لهذا
النوع او ذاك من السياسات ورجالها.
الشرق الاوسط -الأربعاء - 24 صفر 1441 هـ - 23 أكتوبر 2019 مـ
رقم العدد [14939]