إبراهيم البليهي واحد من المفكرين
الذين حملوا السلم بالعرض كما يقال. لسنوات طويلة ألح البليهي على أن أهم عوائق النهضة هو البرمجة
الذهنية، التي يمارسها المجتمع على أجياله الجديدة من خلال التربية والتعليم،
فيحولهم إلى نسخ مكررة عن الماضين.
الجانب الموجع في هذا السلوك هو اقتناع معظم الناس بأن علاقة القسر هذه ضرورية وأنها ضمان للفضيلة. ولا يخلو الأمر من مفارقات. ستجد مثقفا يسخر ممن يقلد غيره في فكرة أو رأي. لكنه هو ذاته يتغنى بالمقولة المشهورة "الاتباع لا الابتداع"، ويعمل على إقناع الناس بالتزام الآراء والأفكار والتقاليد التي ورثناها من الأسلاف.
قسطنطين زريق (1909-2000) |
البديل الذي يدعو إليه البليهي هو
"التلقائية"، بمعنى أن تكون كما تريد، ولو خالفت جميع الناس، أن تطلق
خيالك إلى أبعد مدى يمكن أن يقاربه، ولو أوصلك إلى أفكار غريبة أو مستنكرة، أن
تنظر إلى نفسك ككينونة مستقلة، ولو كنت مؤمنا بالإطار الاجتماعي الذي تنتمي إليه،
أن تدافع عما تظنه مصلحة خاصة لك، ولو تعارضت مع تصور الآخرين للمصلحة العامة أو
حقوق الجماعة.
مجتمعنا الذي يشكل الشباب نحو ثلثي
أعضائه يتعرض للشيخوخة المبكرة، لأننا نقسر الشباب على تقليد نمط الحياة والقيم
التي ورثناها أو صنعناها وألفتها نفوسنا، رغم سعة الفاصل الثقافي بيننا وبينهم.
إني أستمع للشباب يتحدثون اليوم عن أفكار وتطلعات لم أعرفها، بل لم يصل إليها
خيالي حين كنت في مثل عمرهم.
كتب المرحوم د. قسطنطين زريق أن المعرفة المتوفرة في العالم
كانت تتضاعف - في منتصف السبعينات - مرة كل 30 عاما. وأظن اليوم أن المعرفة
المتاحة لعامة الناس، ولا سيما الشباب، تتضاعف مرة على الأقل كل عامين أو ثلاثة.
أي أن المجال الذي يفكر فيه شبابنا ويصنعون من خلاله تطلعاتهم وتصورهم لمستقبلهم،
أوسع من مجالنا بما لا يقل عن 20 ضعفا. هم أعلم منا بحياة اليوم، وهم أقدر على
الوصول إلى المعارف الجديدة والفرص الجديدة. فكيف نقسرهم على الانحصار في القليل
الذي عرفناه في الماضي؟
القسر الذي نتحدث عنه، هو ببساطة
تربية الجيل الجديد على اتباع الموروث، فكرة كان أو عرفا أو أسلوب حياة، وتقديمه
لهم كإطار وحيد للفضيلة. هذا يؤدي ـــ بالضرورة ــــ إلى تجريد الأفكار الجديدة من
أي قيمة، وربما اعتبارها "بدعة". لا خير في ذلك الموروث ولا فائدة، ولو
كان خيرا لما صرنا أضعف الأمم وأقلها إنتاجا على كل صعيد.
إذا واصلنا "ضخ" تلك
الأعراف والتقاليد والأفكار المتخلفة في عقول أبنائنا، فلن يكونوا غير صور مكررة
عنا، وسيبقون أسرى لماضينا المتخلف وسيواجهون كل الإخفاقات وأصناف الفشل التي
اختبرناها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق