‏إظهار الرسائل ذات التسميات الفتوحات الاسلامية. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات الفتوحات الاسلامية. إظهار كافة الرسائل

02/02/2022

حول النقد الأخلاقي للتراث ‏

 لا أذكر حقبة من الزمن شهدت نقدا للتراث والمعارف الدينية ، نظير ما نشهد ‏اليوم. لعله حصل في ستينات القرن العشرين ، ايام ما كان يعرف بالمد الشيوعي. لكني ‏لم اعاصره كي أحكم عن خبرة ، ولا اطلعت على تسجيل تاريخي لما جرى  ، كي اسند اليه. ‏وغرضي هنا هو تنبيه الناقدين الى الاطار التاريخي للفكرة او الممارسة موضع النقد. ‏وأذكر هنا عنصرين على وجه التحديد: ‏

الاول: قيمة الفكرة او الفعل في زمنه الخاص ، رجوعا لمعيار الحسن والقبح ‏العقليين. ‏

الثاني: موقع الفكرة او الفعل في سياق التطور العام للأفكار والممارسات ‏الاجتماعية. ‏

دعنا نأخذ مثالا نعرفه جميعا ، هو الفتوحات الاسلامية. فالمتفق عليه ان غزو البلاد ‏الاجنبية ليس أمرا طيبا. ولو دعا أحد اليوم الى غزو اي دولة ، صغيرة او كبيرة ، لنشر ‏دعوة الاسلام ، لقابله غالب المسلمين بالانكار والاستهجان. ‏

-       لماذا؟ ‏

‏-  لأن نشر الدين بالقوة لم يعد "فعلا حسنا" في منظومات القيم السائدة اليوم. ‏ولأن غالب سكان العالم متفقون على احترام القانون الدولي وسيادة الدول ، أيا كان ‏دينها. واحترام السيادة يقتضي عدم غزوها او إلزامها بعقيدة لا ترضاها. 

وخلال الثلاثين عاما الماضية ، جرب بعض المسلمين استعمال القوة والقهر في ‏فرض عقيدتهم. لكنا نعلم ان عدد الذين التحقوا بهذه  المشاريع ، لم يتجاوز بضع مئات ‏، وان كثيرا ممن ساندهم أول الأمر ، ما لبث ان تراجع وأنكر  حين انكشف ما تحمله هذه ‏المشروعات من كوارث. 

هذا يثير بذاته سؤالا حرجا: اذا كان الفتح ونشر الدين بالقوة امرا طيبا ، فلماذا لا ‏يسعى له المسلمون اليوم؟. واذا كان سيئا ، فلماذا لا يتبرأون من فتوحات اسلافهم؟. ‏

الجواب ببساطة: ان الفعل ذاته قد يكون حسنا في زمن وقبيحا في زمن آخر. ‏مرجع التحسين والتقبيح ليس كتب التراث. الاخلاق اعتبارات عرفية ، وعرف العقلاء ‏يتطور ويتغير بتأثير عوامل عديدة. بعبارة أخرى فان الغزو لأغراض ‏جيوبوليتيكية ، او لنشر الدين او تعزيز الاقتصاد ، كان "فعلا حسنا" عند عقلاء الأزمنة ‏القديمة. ‏لكن دول العالم قررت تقبيح هذا الفعل في منتصف القرن السابع عشر ، حين ‏اتفقت دول اوربا على معاهدة وستفاليا سنة 1648 ، واعتبرت الحدود ‏القائمة لكل منها ، نهائية ، وان التجاوز عليها عدوان يستحق الادانة. 

منذ ذلك الوقت اتجه العالم لاستحداث بدائل للحرب ، حتى وصلنا الى وقت بات ‏فيه الغزو وتجاوز الحدود "فعلا قبيحا" عند الجميع. ‏

ما اردت الوصول اليه هو ان نقد اي قول او فعل في الماضي ، انطلاقا من ‏دوافع اخلاقية بحتة ، يجب ان يراعي أيضا موقعه الزمني ، لا أن يطلقه إطلاق المسلمات العابرة للزمان والمكان. فلو استنكر أحدنا الحروب القديمة ، انطلاقا من اخلاقيات اليوم ، ‏فلن يكون منصفا. ولو دعانا للحرب مستدلا بسيرة الأسلاف ، فلن يكون مصيبا ، لأن ‏قيمة الأفعال لها إطار زمني وليست مطلقة. 

مثال الفتوحات قابل للتطبيق على نظائر كثيرة ، بما فيها أحاديث نبوية وروايات ‏عن الصحابة ، وكذلك افعالهم ومسارات حياتهم. فقيمتها متصلة بزمنها ، سواء صنفت ‏يومئذ كأفعال حسنة او  قبيحة  ، وسواء كانت يومها مقبولة او مرفوضة. 

زبدة القول: ما نستنكره اليوم ربما كان حسنا في وقته ، اي قبل ألف عام أو أكثر ، ‏وما نقبله اليوم ، ربما كان مستنكرا وقبيحا في ذلك الزمان ، فلا ينبغي لوم الناس او ‏اعتبارهم خاطئين ، لمجرد الاختلاف في تقييم قول او فعل.

الأربعاء - 1 رجب 1443 هـ - 02 فبراير 2022 مـ رقم العدد [15772]

https://aawsat.com/node/3450701

مقالات ذات صلة

 الاستدلال العقلي كاساس للفتوى

تأملات في حدود الديني والعرفي

جدل الدين والتراث ، بعد آخر

حول الفصل بين الدين والعلم

حول المسافة بين الدين والمؤمنين

حول تطوير الفهم الديني للعالم

في معنى "الدروشة" وتطبيقاتها

كيف نتقدم.. سؤال المليون

المكنسة وما بعدها

هيروهيتو ام عصا موسى؟

 

رحلة البحث عن الذات

  قلت في الاسبوع الماضي ان كتاب الاستاذ اياد مدني " حكاية سعودية " ليس سيرة ذاتية بالمعنى الدقيق ، وان بدا هكذا. وسألت نفسي حينئذ...