10/11/1999

عن العولمة والبقالين والحمالين و السمكرية و…

الملخصات التي نشرتها (عكاظ) للاوراق المعروضة على مؤتمر رجال الاعمال الذي انعقد السبت ، تعطي القاريء انطباعا بأن معظم القضايا المطروحة تدور حول العولمة الاقتصادية ، أو انها وضعت على خلفية القلق من العولمة وانعكاساتها على الاقتصاد السعودي ، وباضافة هذا الانطباع إلى ما يخرج به المتابع لاحاديث اهل السوق وتقارير الصحافة المحلية ، فان المحصلة الاجمالية ، تدعم فكرة ان مسالة العولمة قد تحولت فعلا ، من قضية تثير الاهتمام إلى فزاعة ، فالجميع قلق من نهاية عصر الاقتصادات المسورة سياسيا ، والجميع يتساءل عما سينتج عن انضمام المملكة إلى منظمة التجارة العالمية ، والجميع يتبادل الافكار والاحتمالات عن مصير المؤسسات الصغيرة في البلد ، بل وصل الامر ببعض الاكاديميين إلى ادعاء ان هذه المؤسسات ستفلس وستخرج من السوق مع تطبيق اتفاقية التجارة العالمية .
نتيجة بحث الصور عن bureaucracy
وقد كتب الكثير من المقالات والبحوث حول العولمة وجذورها وانعكاساتها ، وبعض هذه الكتابات جاد وحريص على ايصال الفكرة ، لكنني ـ بعد قراءة بضع عشرة بحثا وعدد كبير من المقالات ـ اجد نفسي عاجزا عن تفسير الموضوع ، وتقديم اجابات شافية لمن يسألني عن التفصيل ، وظننت احيانا ان مخيلتي قد شاخت ، فعجزت عن استيعاب ما لا تراه العين متجسدا شاخصا ، وطلبت النجدة من زملاء أكثر شبابا وبصيرة ، فما وجدت لديهم شيئا يزيد عما قرأت .
 لكن واحدا من قرائي دلني يوم امس على حقيقة طالما نظرت اليها دون ان اراها ، وخلاصتها ان جميع الابحاث والمقالات التي قرأتها ، كانت تتحدث عن شيء قائم فعلا ، وكنت ابحث عن جديد ظننته ما زال جنينا في رحم الغيب ، وتذكرت معلمي الذي طالما تمثل بحكمة يدعي انها مشهورة ، وان كنت لم اسمعها من غيره ، تقول (توضيح الواضحات من أشكل المشكلات) والحق ان العولمة كنظام للعلاقة بين المجتمع والسوق ، وحركة الرساميل وتبادل السلع والخدمات ، واضحة وهي قائمة بالفعل ، ونحن نشارك فيها ولو مشاركة طرفية ، لكنها قائمة على أي حال ، وتستطيع ان تراها على الارض ، في الولايات المتحدة الامريكية وفي الاتحاد الاوربي ، واعتقد الآن ان انضمامنا إلى اتفاقية التجارة العالمية ، لن ياتي بشيء ازيد مما هو قائم في السوق الامريكية والاوربية ، فاذا اردنا معرفة ما سيجري لنا ، فلندرس ما جرى في اوربا بعد توحيد اسواقها ، ولندرس ما جرى في الولايات المتحدة منذ بداية الفترة الثانية من حكم الرئيس الاسبق رونالد ريغان.
بعد ان توصلت إلى هذه النتيجة ، نصحت نفسي بالبحث عن مقالات تشرح الاثار الفعلية ، أي  القابلة للمشاهدة والملاحظة على قطاع معين ، بدلا من صرف الوقت في قراءة الكلام العام عن الاقتصادات التي سوف تتناثر ، ولا سيما تلك التي اختصت باثارة المخاوف ، أو اقتصرت على عرض الاحتمالات ، انني اشعر الآن بالحاجة إلى مقال يعرض بالارقام والتفاصيل كيف ستفلس شركة محددة أو شريحة محددة ولماذا .
 ووجدت نفسي مرتاحة إلى حد ما ، بعد ما عرفت سر جهالتي المزمنة بهذا الموضوع الخطير ، وقلت لنفسي ان مؤتمر رجال الاعمال سيفيدني في هذا الجانب ، فالتجار هم أكثر الناس اعراضا عن العموميات ، واشدهم اهتماما بالتفاصيل والارقام والقراءات المحددة ، فكلام التجار من ذهب ، وليس من فضة مثل كلام الخطباء ، ولا من ورق جرائد مثل كلام الكتاب .
على انني بعد ما اعدت قراءة ملخصات الابحاث المعدة للعرض أمام رجال الاعمال ، وجدت انهم ربما اصيبوا بلوثة الكتاب ، فتحول كلامهم إلى ورق جرائد مثل كلامنا ، ولم يعد ذهبا كما هو المعهود ، فهاهي اوراقهم تتحدث عن احتمالات وتثير مخاوف ، وتبعث نصائح على طريقة العرائض التي تبدأ بجملة (لمن يهمه الامر ..(
كنت اتمنى ان اقرأ شيئا يخبرني عما سيجري للبقالين والفلاحين وسائقي التاكسي وصيادي السمك والبائعين المتجولين في الاسواق الشعبية وصغار المقاولين والخبازين وصانعي الاحذية الشعبية والمصورين وأصحاب المقاهي والبوفيهات وباعة الخضر والحمالين والحدادين والنجارين والسمكرية ، وأمثال هؤلاء الذين ينطبق عليهم وصف المؤسسات الصغيرة ، الذين تهددهم مقالات الصحف بالخروج من السوق .
اعتقد الآن ان ما قرأته ، وما يقال في المؤتمرات والاجتماعات ، كله ورق جرائد ، أو كلام جرائد كما يقول اخوتنا المصريون ، فقد رايت اولئك المهددين بالافلاس والخروج من السوق ، يعملون في الاسواق الامريكية والاوربية ، ورايتهم يحصلون على الزبائن واموال الزبائن ، رغم ما يتعرضون له من تحدي الشركات الصغرى والكبرى ، العابرة للقوميات والعابرة للحدود وحتى العابرة للمحيطات ، إذا كان هناك شركات تعبر المحيط .
ما الفرق بين فلاحنا وفلاحهم ، وما الفرق بين بقالنا وبقالهم ، وصيادنا وصيادهم ، وحمالنا وحمالهم ؟ .
مادام اولئك قد صمدوا في وجه التحدي ، فلا اجد مبررا للفزع من التحدي عندما يصلنا ، وأظن انه قد حان الوقت للحديث عن تاهيل هؤلاء ، وتعليمهم كيف يستعدون للتحدي ، بدل الاقتصار على تخويفهم ، فالعولمة ، وان كانت تنطوي على تحد ، الا انها ليست ـ بالتاكيد ـ فزاعة .
مقالات ذات صلة



22/06/1999

العولمة فرصة ام فخ ؟



رغم مرور بضع سنوات على شياع تعبير العولمة ، فلا زلنا في مرحلة القراءة الاولى للمفهوم وتجلياته ، كثير من المجلات المتخصصة أفرد ملفات لدراسة الموضوع ، كما عقد كثير من الندوات لمناقشته ، لكن العالم العربي لم يتوصل إلى موقف محدد وقطعي من هذا المفهوم ، الذي يخفي تحته موجا هائلا من التحديات ، ليس للعربي المعاصر فحسب ، بل للاجيال القادمة من العرب أيضا .
قد تكون العولمة فخا وقد تكون فرصة ، لكنها في كلا الحالين ليست خيارا نقبله أو نرفضه ، فهي واقع قائم ، يتضخم أثره وتتفاقم انعكاساته يوما بعد يوم ، ان المبرر الرئيسي لشيوع المفهوم وارتفاع الاصوات المطالبة بمناقشته ، خلال السنوات الاخيرة بالذات ، هو تطور المفاهيم الناظمة للعلاقات بين الدول والشعوب ، وتطور وسائل الاتصال والتواصل ، وعلى الصعيد الاول ، فقد أدت التغييرات السياسية ، ولا سيما نهاية عصر الاستقطاب الثنائي ، إلى التقليل من شأن (السيادة الوطنية)  أي ما كان يعتبر الحق المطلق للدولة في التصرف ضمن حدودها الاقليمية ، دون تدخل الدول الاخرى .
  هذا المفهوم (السيادة الوطنية) لم يعد اليوم مقبولا على اطلاقه ، وأقرب الشواهد الماثلة أمامنا ، هو التدخل العسكري الغربي في يوغوسلافيا ، الذي جرى تحت مبرر التزام المجتمع العالمي بالحيلولة دون وقوع كوارث انسانية ، مثل التطهير  العرقي أو الابادة الجماعية ، ان فكرة (المجتمع العالمي) لم تكن أكثر جلاء مما هي عليه الآن ، وهي لا تعني شيئا سوى ان الدولة القومية ليست حرة تماما في التصرف ضمن حدودها الاقليمية .
 أما على الصعيد الآخر فان تطور وسائل الاتصال ، قد جعل الخطاب الدولي قادرا على الوصول إلى المتلقي ، في ذات الوقت الذي يصله فيه الخطاب المحلي أو الاقليمي ، ولأن هذا الخطاب يأتي عير الفضاء المفتوح ، فان الخطاب المحلي قد خسر الميزة النسبية التي كان يتمتع بها ، يوم كانت الحدود الاقليمية حاجزا حقيقيا ، يتيح للدولة القومية التحكم في نوعية وحجم المادة الثقافية ، المسموح بوصولها إلى المتلقي أو المستهلك النهائي .
 وفي وقت سابق من هذا العام أشار بيل غيتس رئيس شركة ميكروسوفت ، العملاق العالمي المنتج لبرامج الكومبيوتر ، إلى مشروع يعتبره التحدي الحقيقي لانسان القرن الواحد والعشرين ، يتضمن هذا المشروع انتاج نوع من التلفزيون الرقمي التفاعلي رخيص الثمن لكي يباع في الدول النامية ، مدعوما بشبكة اتصالات عبر الاقمار الصناعية ، ضمن مشروع آخر أطلق عليه (تيليديسك).
 وقد اختار غيتس الصين كميدان اختبار اول لهذا الجهاز ، الذي يتيح تواصل الانسان المقيم في الارياف النائية مع القنوات الفضائية الدولية ، وشبكة المعلومات الدولية (الانترنت) دون الاضطرار لدخول دورات تدريبية لتعلم استخدام الكومبيوتر ، أو دفع مبالغ كبيرة  ثمنا لاجهزة معقدة وصعبة الاستعمال ، وحسب غيتس فان هذا الجهاز سيكون في مثل رخص وبساطة التلفزيون العادي ، لكنه سيكون في مثل فاعلية الجيل الاحدث من الكومبيوتر ، وإذا نجح المشروع في الوصول إلى 40 مليون عائلة كما يخطط غيتس ، فسيكون هذا دليلا لا يرد على انتهاء عصر السيطرة الحكومية على تدفق المعلومات .
تيار العولمة ليست خيار معروضا علينا ، بل حلقة أخرى في سلسلة من الالزامات ، المبررة جميعا باختلال التوازن بين المجتمعات الصناعية المتقدمة ونظيرتها النامية أو المتخلفة ، ولهذا السبب  بالذات فان مجرد التنبه إلى أخطارها وتحذير الاخرين مما سيأتي في طياتها ، ليس حلا للمشكلة بقدر ما هو إعلان عن وجودها ، أما العلاج فيجب ان يتوجه إلى الانسان المعني بالمشكلة ، والى المجتمع الذي سيتفاعل مع الوافد الجديد ، فالعولمة قد تكون أسوأ شيء لكنها واقع يمشي على قدمين ، وهي تتطاول يوما بعد يوم وتتفاقم آثارها سنة بعد سنة .
 وأريد التنبيه هنا إلى مسألة واحدة ، شغلت كثيرا ممن كتبوا عن العولمة ، إلا وهي انعكاسات العولمة على الثقافة المحلية ، ووجدت مثلا من يشير إلى ان التزام المسلمين بهويتهم الدينية ، لن يتضرر بالهجمة الثقافية الغربية ، ويستدل على هذا بنهوض الانتماء الديني في الشعوب  المسلمة ، التي وقعت تحت اسر الحكومات الملحدة سنوات طويلة ، كما حصل في دول اسيا الوسطى والبلقان ، ونهوض الدعوة الاسلامية في الولايات المتحدة واوربا الغربية ، حيث ينضم إلى الدين الإسلامي عشرات من الناس كل يوم ، وهذا رأي صحيح تماما ، فالدين الإسلامي له قابلية فريدة للنزول إلى اعماق النفس حين يتعرض للقهر ، ثم العودة للتجسد في مظاهره  الخاصة حين يزول القهر .
لكن ما نخشاه حقيقة ليس تحول الناس عن دينهم ، فهذا أمر مستبعد تماما ، ان ما نخشاه هو اتساع الفجوة بين الدين والحياة ، الذي يتجسد في أبسط صوره ، في التناقض بين هوية الانسان وطريقة حياته ، وفي الربع الثالث من هذا القرن أدى الانفتاح المكثف للمسلمين على الغرب إلى تغيير نمط حياتهم ، لكنه لم يترافق مع تجديد مواز في نظامهم الثقافي ، فحدث ما اصطلح عليه وقتها بالصدمة الثقافية ، التي تعني وقوع الانسان في حالة تجاذب بين قطبين متعاكسين ، يشير أحدهما إلى الانتماء الكبير (الديني أو القومي) ويشير الآخر إلى الانتماء الجديد (الشخصي أو الاجتماعي) المتسق مع متطلبات الانفتاح على الخارج ، حيث القيم الحاكمة هنا تختلف عن نظيرتها هناك ، وحيث ترتيب العلاقات والمصالح تتأثر بالحدث اليومي المتغير ، لا بالثوابت الاخلاقية والثقافية المستمدة من الهوية والانتماء الكبير.
الانسان العربي سيكون مهددا بالتمزق بين هويته ومتطلبات حياته ، ودلت التجربة الاولى في منتصف السبعينات وما بعدها ، على الحجم الكارثي لهذه المشكلة ، رغم انها لم تكن أكثر من (بروفة) لما سيأتي في ظل تحول العولمة من تهديد يلوح في الافق ، إلى نظام فعلي للحياة في العالم العربي وعلاقاته مع الخارج .

عكاظ 22 يونيو 99
مقالات ذات صلة


05/06/1999

المدرسة وصناعة العقل

الغرض الرئيسي للتعليم العام هو صياغة شخصية الطالب ، للانتقال به من مرحلة الطفولة إلى مرحلة النضج ، وثمة عدد من المعايير يؤخذ بها لتقدير مستوى النجاح الذي حازه الطالب والهيئة التعليمية عند انتهاء حياته الدراسية ، من بينها مدى ما يتمتع به الطالب من تفكير نقدي وابداعي ، وقدرته على الانسجام والتوافق مع البيئة الطبيعية والمحيط الاجتماعي ، وكفاءته العملية في المهنة التي أعد نفسه للعمل فيها ، فلنذهب إلى المعيار الاول :

ان ما يحدد النجاح أو الفشل في تطبيق هذه المعايير ، هو طريقة توصيل المعلومات إلى الطالب ، ومن بين أجزائها ما اشتهر الكلام فيه في السنوات الاخيرة ،  أي التحول من طريقة التلقين والتحفيظ إلى الحوار بين المقرر العلمي وعقل الطالب ، حيث يتركز دور المعلم في مساعدة الطالب على التوصل إلى القاعدة التي يريد المقرر الدراسي ترسيخها في ذهنه ، وفي هذا المجال فان الجهد الأكبر ينصب على تنشيط عقل الطالب وتشجيعه على التامل والتفكير ، بدل استنزاف قواه في حفظ نصوص القواعد أو المعلومات.

لكي نصل إلى هذا المستوى ، فقد نحتاج إلى تخصيص وقت أكبر للاعمال ، ولنأخذ مثلا من مادة الرسم والفنون ، التي تعتبر ـ حسب النظام القديم ـ هامشية ، فهذه المادة هي حجر الرحى في تكوين ذهنية الطالب ، حين تكلف طالبا برسم بيت أو منظر طبيعي ، فانك في حقيقة الامر تساعده على تجربة التخيل أي تحويل الملموس والمنظور إلى صورة ذهنية.

 ويختلف الاشخاص المفكرون عن غيرهم ، في القدرة على ضخ أكبر عدد من تفاصيل الصورة الواقعية في اطار الصورة الذهنية ، الطفل الصغير يرسم خطوطا محددة توحي بالمشهد لكنها لا تعكس حقيقته ، ويضيف الاكبر منه خطوطا أكثر تفصيلا ، حتى يصل إلى نقل الصورة الواقعية ، لكن الاكثر تقدما منه ، هو ذلك الذي يضيف خطوطا غير موجودة في المشهد الواقعي ، لكنها موجودة في المركب الجمالي أو الثقافي الذي يوحي به المشهد ، أو يتدخل لتغيير بعض الخطوط بالاضافة أو الحذف ، لتكوين صورة أجمل من الأصل ، درس الرسم يمكن ان يساعد عقل الطالب على التامل في الموجودات والبحث عن الاجزاء الصغيرة فيها ، ونقد عيوبها ، واكتشاف ما يوحي به المشهد ، وان كان لا يرى في الواقع .

مادة الرسم يمكن ان تدرس ـ  كما هو قائم حتى الآن ـ باعتبارها مقررا لا يرسب فيه  أي طالب ،  أي مجرد إضافة تكميلية ، يمكن حذفها احيانا إذا تزاحمت مع غيرها من الدروس ، ويمكن ان تدرس باعتبارها مادة تستهدف تكوين ذهنية الطالب ، لكي ينظر في الاشياء من حوله بعمق ، ينظر في الخطوط الكبرى والتفاصيل ، وينظر في المعاني التي تخفيها الحدود الضيقة للواقع المادي ، ويمارس النقد على ما حوله ويقترح البدائل .

فلنذهب إلى مادة أخرى قليلة الاهمية أيضا مثل التعبير أو الانشاء ، فهي تذكرني بزميل لي في المرحلة الابتدائية كان مغرما بالكتابة عن النخيل ، وكان المعلم يغضب من إصراره على الكتابة في هذه المادة تحديدا ، ولذلك فقد حصل على اقل العلامات في المادة ، لكن هذا الزميل أصبح اليوم طبيبا يشار له بالبنان ، وله أبحاث منشورة في مجلات علمية متخصصة.

 ولا زالت حتى هذه اللحظة غير مدرك للاسباب التي أزعجت معلمنا من ذلك الزميل ، لكن ما يهمني هنا هو ان مادة التعبير هي القاعدة الاساس لما نسميه اليوم بالبحث العلمي ، وربما اعتبر المعلم ان غرض المادة مقصور على تحسين القدرات البلاغية وتذوق جماليات البيان ، لكننا نستطيع اليوم الانتقال إلى مرحلة أرقى ، بجعل مادة الانشاء اختبارا يوميا لمدى استيعاب الطالب لما يدرس في المقررات الاخرى ،  أي احلالها محل الامتحان الاسبوعي والشهري في كل مادة من المواد ، فهذه تحقق غرض الامتحان أي دفع الطالب للاهتمام بالدراسة ، وتحقق الغرض العلمي الاساسي ، أي توجيهه إلى البحث والتفكير في تطبيقات المنهج خارج إطاره.

وأذكر هنا للمناسبة ان استاذي الذي علمني الكتابة كان يصر على التمييز بين الاغراض المختلفة للدرس ، فمرة كان يركز على جماليات اللغة ، وكان يلزمنا بالبحث عن مرادفات الالفاظ لاختيار اجملها واقواها تعبيرا ، ومرة كان يصر على الاستدلال ومناقشة كل دليل ، وثالثة كان يشكك في صدقية ما كنا نعتبره في العادة بديهيا ، ويطلب اثباته اولا ، ولست واثقا هذا اليوم من نجاحي في بلوغ ما كان معلمي يريد ايصالي اليه ، لكني واثق تماما من ان اهتمامي بالبحث والدراسة واستقصاء المعلومات ، هو ثمرة لدروس ذلك الاستاذ .

 تعويد الطالب على التفكير النقدي في أمور الحياة المادية والنظرية ، ومنحه الشجاعة لاقتراح الافكار والبدائل ، هو الركن القوي لصياغة شخصية المبدع الطموح .

04/06/1999

تطوير التعليم من الشعار إلى المشروع



وجدت كثيرا من الناس مهتما بالتحقيق الذي نشرته مجلة المعرفة عن التعليم في ايران ، وأظن هذا الاهتمام دليلا على الحاجة إلى عرض تجارب التعليم في الاقطار الاخرى ، لا سيما تلك التي اثبت نظامها نجاحا في تخريج شباب أكفاء ومؤهلين لمواجهة المتطلبات العملية للاقتصاد المحلي .

إضاءات : د. محمد الرشيد ج 1/6 - YouTube
المرحوم د. محمد الرشيد وزير التعليم

ان قراءة هذه المجلة التي تصدرها وزارة المعارف ، يساعد في تكوين انطباع مختلف عن السياسات التعليمية التي تريد الوزارة الوصول اليها ، ويمكن الجزم دون تردد ، بان الاجواء العامة في الوزارة ، قد تغيرت منذ ان حل الدكتور محمد الرشيد وطاقمه فيها ، لكن لا تزال المسافة بعيدة بين واقع التعليم والمستوى المستهدف ، رغم ان مجلة المعرفة وفرت فرصة لا سابق لها للتعبير عن ارادة التغيير ، وفي كثير من الاحيان عن اتجاهات التغيير واغراضه ، وكشفت عن وجود تيار عريض لا يشعر بالرضى عن الأوضاع الراهنة لهذا القطاع المهم ، ولديه الجرأة والاستعداد للمغامرة بحمل أعباء التغيير .

من نافل القول ان تطور المجتمع السعودي مرهون بالدرجة الاولى إلى الاطارات التربوية والتعليمية ، التي يمر بها جميع الشباب قبل دخولهم ميدان الحياة الحقيقي ، فنجاح هؤلاء الناس أو خيبتهم ، مرجوع في المقام الاول إلى ما تلقوه من تعليم ، قبل ان ينضموا إلى سوق العمل ، ثم ان أهليتهم للعمل وحمل الاعباء ، هي مفتاح حركة التطور الاجتماعي .
في مختلف اعداد المجلة ، وفي تصريحات المسؤولين عن قطاع التعليم ، تواجهك انتقادات لطريقة التعليم بالتلقين والتحفيظ ، ودعوات إلى تنشيط الحوار بين عقل الطالب ومادة الدراسة ، كي يحصل الطالب على (العلم) حتى لو قصر عن حفظ (النص) .

 وأظن ان الفرصة مناسبة الآن ـ وقد انتهت السنة الدراسية ـ لاعادة انتاج هذه الافكار على شكل برامج عمل تفصيلية ، فالحقيقة التي لا مناص من ذكرها ان عددا كبيرا من الاداريين والمعلمين ، لا يعرف كيف يقلع عن طريقة التلقين إلى التعليم ، ذلك لانهم درسوا على هذا النسق ، ومارسوا العمل سنوات طويلة ، دون ان يخبرهم أحد بان التعليم شيء مختلف عما درجوا عليه ، ولعل من المفيد عقد ورش عمل في كل منطقة تعليمية يشارك فيها معلمون وخبراء ، لمناقشة الطرق الحديثة في التعليم ، والاهتمام باستقطاب اكبر عدد ممكن من المعلمين ، للمشاركة واستعراض الصعوبات العملية التي ربما تعيق سيرورة البرامج الجديدة .

ومن المهم أيضا مناقشة الطريقة المناسبة للتوفيق بين الطريقة المقترحة والمقررات الدراسية ، التي يجد بعض المعلمين صعوبة في تجاوزها ، خاصة مع وجود عرف عام يقضي بانهاء المقرر ، بمعنى شرح كل موضوع فيه ، والتاكد من الطالب قد حفظه ، ثم امتحانه فيه على وجه التحديد ، لا في النتائج العلمية التي يفترض بالمعلم والمنهج معا ان يساعدا الطالب في التوصل اليها ، وأظن ان الاشكالية الرئيسية التي تواجه المعلمين تكمن في هذه النقطة بالذات ، فمعظم المقررات وضعت على خلفية الطرق التقليدية (التلقين).

خلاصة المقال ان أهمية التعليم توجب تركيز الجهد عليه لتطويره وتطوير مخرجاته ، وأجد ان لدى قادة هذا القطاع رغبة واضحة في التطوير ، لكننا بحاجة أيضا إلى تحويل النوايا والافكار إلى برامج عمل .

02/06/1999

القيم الثابتة وتصنيع القيم



الثقافة هي الأداة التي يتوسل بها المجتمع لتبرير حاجاته ، وبعض حاجات المجتمع لها طابع الثبات ، لكن معظمها متغير ، بحسب تغير حياة الجماعة واتجاهات حركتها ، الحاجات الاجتماعية الثابتة تقابلها مفاهيم ثابتة في الثقافة نسميها القيم أو الثوابت ، وثمة جدل لا ينتهي حول اخضاع متغيرات الحياة الاجتماعية للثوابت والقيم أو تحريرها منها ، وتدل التجربة على ان الانسان يميل بطبعه إلى توسيع نطاق الثوابت وبسط حاكميتها على المتغيرات ، ولديه على هذا الميل حجة قوية ، فحواها ان اشتغال المتغيرات في إطار الثوابت ، لا يعيق حركتها ولا يمنعها من التجدد والتغير ، لكنه يضمن استمرارية المسار في خط مستقيم .

ان الشرط الاول لتثبيت قيمة معينة ، هو تجردها وتعاليها عن الموضوعات ذات الطبيعة الشخصية ، أو تلك التي هي محل خلاف ، لكن القبول بالتثبيت ينطوي على مخاطرة ، ولا سيما في المجتمعات التي تفتقر إلى الحياة الثقافية النشطة ، أو تلك التي تحولت فيها الثقافة إلى حرفة ، تمارسها طبقة محدودة العدد دون بقية الناس ، ذلك ان محترفي الثقافة يرغبون في تسويد القيم التي يتوصلون اليها ، ويميلون إلى تبنيها في وقت من الاوقات ، باعتبارها عامة وثابتة ، في غفلة عن حقيقة ان الثقافة وقيمها _ مثل كل منتج بشري آخر _ ذات طبيعة زمنية ومؤقتة ، ربما يطول بها الامد أو يقصر ، لكنها في كل الاحوال واصلة إلى نقطة ينتهي عندها مفعولها أو فائدتها . ان استمرار تسويد قيمة معينة بعد انتهاء زمنها أو نفاذ وقودها ، يعادل إلى حد كبير حكم الاموات على الاحياء .

ويبدو لي ان جميع محترفي الثقافة يعرفون هذه الحقيقة ، لكنهم في الوقت ذاته يخشون من تأثيرها السلبي على قيمة منتجاتهم ، فتحديد زمن نهاية لفاعلية المنتج ، يفرض تحديد القيمة المادية أو الاجتماعية لمن انتجه ، بينما يرغب المنتجون ، وبينهم منتجو الثقافة ، الحصول على أكبر عائد ممكن من وراء عملهم ، وهنا يأتي دور التدعيم الخارجي ، حيث يستورد صانع الثقافة رباطا من قيمة ثقافية أخرى متفق على تثبيتها ، فيربط بينها وبين ما ينتج ، فتتحول القيمة الجديدة المحدودة زمانا ومكانا وفاعلية ، إلى فرع للقيمة العابرة للزمان والمكان ، المتجردة عن التأثير الانعكاسي للفعل والتفاعل مع موضوعاتها .

 وبالنسبة للمجتمعات المسلمة فان القيم الدينية المطلقة هي المقصد الرئيسي لصانعي الثقافة ، ذلك ان هذه القيم المتعالية تتمتع بالقبول العام والديمومة ، فضلا عن كونها جزء لا يمكن فصله من الهوية الثقافية للمجتمع ، والذي يجري فعلا هو اختلاق خيط يربط المنتج الثقافي إلى واحدة من القيم الدينية ، بغرض استثمار خصوصيات القيمة الدينية في تعزيز مكانة القيمة الثقافية الجديدة ، وتحويلها من منتج علمي إلى منظور ايديولوجي . ونجد المثال الواضح على هذا الربط المتكلف في التقاليد وبعض الخرافات ، التي تحولت إلى عناصر ثابتة في ثقافة المجتمع ، بعد ان جرى وصلها بقيمة ما من القيم الدينية في أزمان مختلفة ، وهو الأمر الذي أثار غضب الاصلاحيين والمجددين في مختلف الاوقات .

مثل هذا الربط المفتعل يجري في كل المجتمعات ، ويشعر الذين يقومون به انه مبرر تماما ، ولعل الامر كذلك فعلا ، لكن الذي لا يمكن تبريره هو استيراد خصوصية التعالي وعبور الحدود من القيمة الدينية وضخها في خزان المنتج الثقافي ، هذه العملية قد تؤدي ، وهي قد أدت بالفعل إلى تفريغ القيمة الدينية من مخزونها المعنوي الخاص ، وحولته إلى المنتج البشري في بعض الاحيان ، ولدينا في العالم الإسلامي كثير من الناس حرفتهم الوحيدة هي بيع الخرافة والتفريع عليها وتمديدها في كل اتجاه ، بعد ان ملأ خزانها بوقود ، يوهم الناظر من بعد ، بأن ما ينظر اليه دين أو جزء من الدين ، وبالنسبة لهؤلاء فان ما يهمهم حقا هو تسويق منتجهم الخاص وليس القيم الدينية كما هي في الاصل .

وفي المجتمعات المسيحية كان أحد الاسباب للصراع بين العلماء والكنيسة ، هو محاولة رجال الكنيسة منع العلماء من الاعلان عن نظريات علمية تخالف ما سبق تثبيته من جانبهم ، نحن نعلم ان الانجيل لم يتضمن نصوصا حول كروية الارض ودورانها على سبيل المثال ، لكن اناسا قرروا ان الارض مسطحة وثابتة ، وربطوا هذه النظرية بالانجيل ، فامتصت الوقود الايديولوجي والميزات المعنوية للكتاب المقدس ، فأصبح المنتج البشري متمتعا بنفس خصوصياته ،  فهو محمي ، مقدس ، متعال ، وعابر للزمان والمكان .
عكاظ 2 يونيو 1999


مقالات  ذات علاقة
-------------------


ثقافة المجتمع.. كيف تحفز النمو الاقتصادي او تعيقه

  ورقة نقاش في الاجتماع السنوي 42 لمنتدى التنمية الخليجي ، الرياض 2 فبراير 2024 توفيق السيف يدور النقاش في هذه الورقة حول سؤال : هل ساهمت ...