ركز
مقال الاسبوع الماضي على حاجتنا لتطوير النظام التعليمي ، على ضوء التحولات التي سيشهدها
العالم مع نضج "الثورة الصناعية الرابعة". مع هذه الثورة سنرى عالما
جديدا واقتصادا غير ما عهدناه. وأذكر هنا بما شهد العالم من تحول في الثقافة
والاقتصاد بعد الثورة الاولى ، يوم صنع المحرك البخاري في اواخر القرن الثامن عشر ،
وما حصل عقب الثورة الصناعية الثانية ، التي تنسب الى ظهور الكهرباء ومكائن
الاحتراق الداخلي ، والثورة الثالثة التي ترتبط بظهور الكمبيوتر والانترنت
والادوات الرقمية عموما. نحن الان نفهم التحولات الهائلة في حياة البشرية التي أثمرت
عنها هذه الثورات ، ونعلم ان الثورة القادمة ستحمل تحولات اعمق واوسع ، ليس فقط في
الاقتصاد ، بل في الاخلاق والثقافة أيضا.
ان
السمة الابرز في التحولات الجارية اليوم ، هي اتساع الأفق. التكامل الفائق بين
الآلات في احجامها الصغيرة ، مع انظمة الذكاء الصناعي والاتصالات العالية السرعة ،
ادى فعليا الى توسيع المساحات التي يراها الانسان ويستوعبها ، على نحو غير مسبوق.
الواقع ان انتشار الانترنت خلال العقدين الماضيين ، قد مهد هذا الطريق ، فبات كل
انسان قادرا على رؤية أجزاء من العالم ، لم يتخيل وجودها سابقا.
لكن
ما نعرفه حتى الآن هو نموذج مصغر ، عما سيعرفه العالم في السنوات القادمة. مع توفر
انظمة الاتصال الفوري بكلف منخفضة ، فان كافة شرائح المجتمع ستكون متصلة بالعالم
الافتراضي ، ولن تعود مصادر المعلومات قصرا على المثقفين او المهندسين او من يتقن
اللغات الاجنبية.
كل
شخص على هذا الكوكب ، سيكون قادرا على التفاعل المباشر مع أسواق ومجتمعات ، ومصادر
عيش ووسائل عمل وترفيه ومصادر معلومات ، لم يتواصل معها سابقا بسبب حواجز اللغة او
المال او القيود السياسية. هذه كلها ستزول تدريجيا ، ان كثافة المعلومات وسرعة
الاتصال ، سوف تجعل المراقبة والحجب المادي مكلفة وغير فعالة ، اما حاجز اللغة فهو
زائل بالتأكيد مع تطور برامج الترجمة الفورية الذكية.
ان
غالبية الناس يهتمون بالتعليم ، لأنه الطريق الوحيد تقريبا لضمان حياة مستقرة
لابنائهم. التقديرات المتوفرة فعلا ، تشير الى ان الثورة الصناعية الرابعة ستلغي 700
نوع من الوظائف ، او تحولها الى الآلات. هذا يعني ان على الآباء ان يفكروا في
وظائف لابنائهم ، من نوع مختلف عما اعتادوا عليه.
في
ظني ان الموضوع الذي ينبغي ان يشغل القائمين على التعليم هو "سعة الافق" اي السمة الرئيسية للثورة
الصناعية الرابعة. سعة الافق تعني مثلا الاستعداد التام للتكيف ، مع اقتصاد جديد
واشخاص جدد وثقافات مختلفة ، وانماط عيش غير مألوفة. ومنها أيضا اعداد الشباب كي
"يخلقوا" مصادر عيشهم ، ولا ينتظروا وظيفة في دائرة حكومية او شركة. هذا
يعني ان يركز التعليم على تعزيز كفاءات التفكير والابداع عند كافة الشباب ، كي لا
تكون الوظيفة بالمعنى التقليدي غاية ما يطمحون اليه.
تطور
التقنية سيلغي مئات الوظائف التي نعرفها. لكنه سيأتي أيضا بفرص جديدة كثيرة جدا.
المهم في كل الاحوال هو تجهيز ابنائنا بوسائل احتواء التحدي ، ومن أهمها التفكير
العلمي ، حيوية الذهن ، الابداع ، الاعتماد
المطلق على الذات والرغبة في التعلم.
ان
الخطوة الاولى في تطوير التعليم ، هو تحريكه بهذا الاتجاه ، اي مساعدة الشبان كي
يكونوا مستقلين ، راغبين في التعلم ، ومستعدين للمغامرة.
الشرق الاوسط الأربعاء - 29 ذو الحجة 1441 هـ - 19 أغسطس 2020
مـ رقم العدد [15240]
مقالات ذات علاقة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق