‏إظهار الرسائل ذات التسميات الوطنية. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات الوطنية. إظهار كافة الرسائل

20/03/2025

التطرف والانقسام

 في سبتمبر  2017 صوت غالبية الأكراد العراقيين (92%) لصالح استقلال إقليم كردستان ، بعد حوالي عقدين من الحكم الذاتي الموسع. هذا يشبه الى حد كبير مشهد جنوب السودان في يناير 2011 حين صوت 99% من سكانه على الانفصال عن الشمال.

بوسعنا ان نمر أيضا على الحرب الاهلية في جنوب اليمن عام 1994 ، والتمرد الذي أدى لانفصال باكستان الشرقية ، عن اختها الغربية ، وظهور دولة بنغلادش في 1971 ، او الحرب التي أدت الى تفكك يوغوسلافيا ، وقيام جمهورية البوسنة وكرواتيا والجبل الأسود في 1992 ثم انفصال كوسوفو عن صربيا في 2008.

هذه امثلة ، أحسب ان غالبية القراء الأعزاء يذكرونها ، وهي حوادث أدت أو كادت ان تؤدي الى تفكك دول ، ظن كثيرون انها راسخة الجذور عصية على التفكيك.

المؤكد ان كلا منا قد علم بتجربة واحدة على الأقل ، تتضمن حالات انفصال ، بين أزواج او اعضاء في عائلة واحدة أو شركاء في عمل تجاري ، يعرف كل العقلاء انه يؤدي الى خسائر كبيرة. مع ذلك ، فان الناس يقدمون عليه ، افرادا – كما في الأمثلة الأخيرة – او شعوبا كاملة  كما في الأمثلة السابقة.

السؤال الذي لا بد ان يواجهه اخوتنا في سوريا: ما هو الظرف الذي تبلورت فيه إرادة الانفصال وتفكيك البلد ، في التجارب التي ذكرناها ، وفي عشرات التجارب المماثلة على امتداد تاريخ العالم الحديث ، وما هي العوامل المماثلة التي قد تكون متوفرة فعليا في سوريا اليوم. التأمل في هذا السؤال ، سيأخذنا الى الجزء الثاني الأكثر أهمية: كيف نحول دون تفاقم العوامل الدافعة لانكسار الوحدة الوطنية ، وكيف نعزز إرادة العيش المشترك والسلم الأهلي؟.

ان سمحتم لي بالجواب ، فاني أرى أن ظرف انكسار الوحدة الروحية ، أي إرادة التعايش ، يتبلور عندما تشيع الميول المتطرفة وتنكمش الميول المعتدلة ، عند شريحة واسعة من السكان. التطرف يعني ان الفرد مطلع على الخسائر التي ستحصل جراء الانفصال ، لكنه مع ذلك يراه اقل سوء من أي ضرر يترتب عليه ، او لنقل انه يرى الوضع القائم اسوأ كثيرا من أي ظرف سيأتي بعد الانفصال. انه أشبه بالذي يقدم على الانتحار ، او يخوض مغامرة ، يعلم سلفا ان احتمالات السلامة فيها ، اقل من احتمال الهلاك. هذا تصور متطرف بلا شك ، واذا حمله الفرد فانه يعتبر متطرفا.

خلال السنوات العشر التي مضت من عمر الثورة السورية ، لم نسمع أحدا يتحدث عن تقسيم البلاد. حتى في المناطق الكرية التي انفصلت فعليا عن حكومة دمشق ، كان أقصى المطالب هو الحكم الذاتي ، على النحو القائم في كردستان العراق. اما اليوم فنرى خرائط عن ثلاث دول او اربع ، ونسمع أشخاصا يقولون دون اكتراث: اذا أرادوا ان ينفصلوا ، فليذهبوا الى الجحيم ، نحن أيضا لا نريد العيش معهم. وحين ينشر هذا الكلام على منصات التواصل الاجتماعي يتفاعل معه آلاف الناس ، مرحبين او رافضين.

أعلم ان من يقول هذا متطرف أو جاهل ، وان من يتفاعل معه مثله. لكن ما الذي جرى حتى بات الناس يائسين من الشراكة الوطنية ، غير مكترثين بانكسارها. يتحدثون عن تقسيم بلدهم ، كما لو كان وليمة يتنافس عليها البعض ويزهد فيها آخرون.

اني أتمنى من كل قلبي ان لا يصغي السياسيون الى من يدعوهم لارسال الدبابات والمدافع لقتل المتمردين. أتمنى ان لا يصغوا لمن يقول ان للاكثرية ان تقرر وان على الأقلية ان تسمع وتطيع. هذه الدعوات تنبيء عن ذهنية متطرفة ، وهي تؤدي الى اشعال جمرة التطرف عند الطرف المقابل. لو كان هذا مثمرا لكان بشار الأسد قد نجح في انهاء الثورة الشعبية طوال عقد كامل. ما يحتاجه السوريون هو احتواء الخائفين والغاضبين والمتشككين ، وليس قمعهم او اقصاءهم. هذا هو طريق السلامة ان اردنا العبور بسوريا الى بر الأمان.

الشرق الأوسط الخميس - 21 رَمضان 1446 هـ - 20 مارس 2025 م

https://aawsat.com/node/5123814

 مقالات ذات صلة

الازمان الفاسدة والناس الفاسدون

انهيار الاجماع القديم

بدايات تحول في الازمة السورية
التعايش أو التقارب.. طريق واحد
درس الكارثة: نظام عربي للاستحابة العاجلة
سوريا بين خيار دايتون والحرب الاهلية
سوريا في مشهد جديد
سوريا قد تكون بوابة الحرب الباردة

التفكير الامني في قضايا الوحدة الوطنية

دولة الاكثرية وهوية الاقلية

سوريا ليست معركتنا

 شراكة التراب وجدل المذاهب

شراكة التراب وجدل المذاهب

شراكة التراب" كتطبيق لمبدأ العدالة الاجتماعية

الشراكة في الوطن كارضية لحقوق المواطن

صورتان عن الانسان والقانون

الطائفية ظاهرة سياسية معاكسة للدين

طريق الاقلية في دولة الاكثرية

عرب اوكرانيا وعرب روسيا

الغول

في ان الخلاف هو الاصل وان الوحدة استثناء

القانون للصالحين من عباد الله

مجتمع العبيد

مجتمع العقلاء

مصير المقاتلين الامميين
من دولة الغلبة الى مجتمع المواطنة: مقاربة دينية لمبدأ العقد الاجتماعي

من التوحيد القسري الى التنوع في اطار الوحدة

الواعظ السياسي

وجهات "الخطر" وقهر العامة

الوطن ، الهوية الوطنية ، والمواطنة: تفصيح للاشكاليات

وطن الكتب القديمة

الوطن شراكة في المغانم والمغارم

لماذا نجح الغربيون وفشلنا؟

13/03/2025

لماذا نجح الغربيون وفشلنا؟

 النزاع الذي اندلعت نيرانه فجأة في اطراف سوريا ، بعد أسابيع قليلة من انتصار الثورة الشعبية ، تعيد تذكيرنا بأن خطوط الانكسار في البنية الاجتماعية العربية ، لا زالت فعالة ، وان ترسيخ السلم الأهلي مشروط بتصحيح عيوب تلك البنية ، ولاسيما جعل "مبدأ المواطنة" مضمونا وحيدا للعلاقة بين اعضاء المجتمع السياسي ، على المستوى القاعدي ، وبين المجتمع والدولة ، على مستوى السياسة والقانون.
التعدد الديني والعرقي هو الوضع الطبيعي للحياة في عالم اليوم. ويجب ان نكيف فهمنا للسياسة على نحو يستوعب هذه الحقيقة ، كي نتفادى الصراعات الداخلية. القبول المتزايد لهذه الحقيقة ، دليل على نضج البشرية واتساع وعيها بحقائق الكون وضروراته. التنوع قدر لا خيار لنا فيه ، هكذا خلقنا الله وهكذا نصير اليه.

من المؤلم القول ان المجتمعات الغربية تجاوزتنا بمسافة طويلة ، في الاقرار بالتنوع قانونيا وسياسيا وعمليا ، بينما لانزال نتحرك بسرعة السلحفاة. وهو أمر أسبابه معروفة لمن تأمل في البنية الثقافية-الاجتماعية ، ولم يكتف بالوقوف عند التبريرات اللفظية.

السؤال المثير للدهشة حقا هو : لماذا نجح الغربيون – ولو نسبيا – في تجاوز حدود الطوائف والاعراق والثقافات ، فما عاد أحدهم يخشى ان ينقض عليه الآخر أو ان يتآمر. نقول هذا مع علمنا بأن تلك المجتمعات قامت على أرضية تعاقد مادي ومصلحي. في المقابل فان مجتمعاتنا التي تتحدث كثيرا جدا عن التعاون والتكافل والتراحم ومحبة الآخر والايثار ، تبدو وكأنها تعيش على الدوام في مجتمع ما قبل الدولة ، حيث الجميع في حالة حرب مع الجميع ، على النحو الذي صوره توماس هوبز.

 غالبية الدول الإسلامية تعاني مما يمكن وصفه بأزمة هوية ، ليس عند الأقليات فقط ، بل وبنفس القدر عند الاكثريات أيضا. الأقليات تظن ان الأكثرية تظلمها حقها ، والأكثرية تظن ان الأقلية تخونها. وثمة لدى هذا الطرف عشرات من الأدلة التي تدعم دعواه ، ولدى الطرف الاخر أدلة مثلها. لكن السؤال الذي يبقى حائرا: لماذا تعاملت الأكثرية مع "افراد" الأقلية باعتبارهم جمعا واحدا؟ ولماذا فعلت الأقلية الشيء نفسه بالنسبة الى "افراد" الأكثرية.. أي بدل ان تؤاخذ المذنب ، وضعت كل من يشاركه الانتماء في قالب واحد ، وعاملتهم جميعا كمذنبين.

ثم دعنا نفكر في السؤال التالي: لماذا يناصر "افراد" كل طرف دعاوى فريقه من دون نقد او مساءلة؟. ولماذا لا يسمح هذا الجمع بمساءلة مواقفه ونقدها من داخل الجماعة ومن خارجها.

ان اردتم معرفة الطريقة التي يتشكل من خلالها الفارق البنيوي بين المسلمين وغيرهم ، انظر لسلوك الإسرائيليين خلال الحرب المشتعلة منذ أكتوبر 2023 في مقابل سلوك العرب: يخرج السياسيون والمواطنون والمحللون الإسرائيليون في الشوارع وعلى شاشات التلفزيون والصحف ، يوجهون اشد النقد للحكومة ورئيسها وللجيش وقادته ، وفي المساء يذهبون الى بيوتهم آمنين. اما على الجانب الفلسطيني والعربي ، فان الذي يوجه نقدا ولو بسيطا ، يتهم بالخيانة والعمالة والتصهين.. الخ. بعد حرب 1973 شكلت إسرائيل لجنة عالية المستوى لتحديد أخطاء القيادة ، وقد نشر التحقيق ، وترجم الى العربية باسم "التقصير". وهو يحوي نقدا شديدا للحكومة والجيش وأجهزة الأمن. فهل علمتم عن أي دولة عربية قامت بتحقيق مماثل ونشرته على الملأ؟.

سوف اتفاءل اذا سمعت ان اللجنة التي شكلتها الحكومة السورية للتحقيق في حوادث القتل التي جرت في الشمال الغربي ، تضم فعلا فريقا مستقلا غير منحاز ، او على الأقل ممثلين لمختلف الأطراف ، واعتمدت المعايير الدولية في التحقيق ، ثم نشرت في وقت قريب شهادات الذين استمعت اليهم ، وحددت المسؤولية عن الأفعال الشنيعة التي جرت منذ سقوط النظام السابق.

اصلاح البنية الاجتماعية المتأزمة يستدعي معالجة التأزم المزمن في الهوية عند الأكثرية والأقلية معا. وهذا لا يتم اذا اكتفينا باعلانات سياسية او حتى دستورية ، بل يحتاج أيضا لمبادرات سريعة عملية ، تعزز الاطمئنان وترسل رسائل لجميع من يهمه الأمر ، بان لدى الحكومة عزم أكيد على احتضان الجميع والتعامل معهم كمواطنين ، يحاسبون على فعلهم وليس على انتمائهم.

الشرق الأوسط الخميس - 14 رَمضان 1446 هـ - 13 مارس 2025 م https://aawsat.com/node/5121368

مقالات ذات علاقة

الازمان الفاسدة والناس الفاسدون

انهيار الاجماع القديم

بدايات تحول في الازمة السورية
التعايش أو التقارب.. طريق واحد
درس الكارثة: نظام عربي للاستحابة العاجلة
سوريا بين خيار دايتون والحرب الاهلية
سوريا في مشهد جديد
سوريا قد تكون بوابة الحرب الباردة

التفكير الامني في قضايا الوحدة الوطنية

دولة الاكثرية وهوية الاقلية

سوريا ليست معركتنا

 شراكة التراب وجدل المذاهب

شراكة التراب وجدل المذاهب

شراكة التراب" كتطبيق لمبدأ العدالة الاجتماعية

الشراكة في الوطن كارضية لحقوق المواطن

صورتان عن الانسان والقانون

الطائفية ظاهرة سياسية معاكسة للدين

طريق الاقلية في دولة الاكثرية

عرب اوكرانيا وعرب روسيا

الغول

في ان الخلاف هو الاصل وان الوحدة استثناء

القانون للصالحين من عباد الله

مجتمع العبيد

مجتمع العقلاء

مصير المقاتلين الامميين

من التوحيد القسري الى التنوع في اطار الوحدة

الواعظ السياسي

وجهات "الخطر" وقهر العامة

الوطن ، الهوية الوطنية ، والمواطنة: تفصيح للاشكاليات

وطن الكتب القديمة

الوطن شراكة في المغانم والمغارم

 

 

13/04/2011

الوطن شراكة في المغانم والمغارم



 الرياض  - 9 / 1 / 2011م 
تحدث الدكتور توفيق السيف، في منتدى د. راشد المبارك بالرياض هذا الاسبوع، حول مفهوم الوطن، المواطن، المواطنة، الوطنية، فأشار إلى أنها تعبيرات شائعة يختلط في معناها الوصف بالقيمة. لكنها جميعا تنطوي على إشكاليات أساسية، مصدرها كما تطورها خارج الإطار المعرفي العربي، وتطبيقها على نحو متغاير مع حاجات الناس في العصر الجديد.
وأضاف ان مفهوم المواطنة المتداول الآن يشير إلى منظومة من الحقوق الدستورية يتمتع بها الفرد مقابل ولائه لوطنه. وتعتبر الثورتان الفرنسية «1789» والامريكية «1775» محطات حاسمة في تطور المفهوم، الذي قصد من صياغته تمييز المواطن ذي الحقوق عن المفهوم السابق الذي يعتبر الخاضعين لسلطة الامبراطور رعايا أو أتباعا يتوجب عليهم طاعته دون مناقشة. عرف ارسطو المواطن بأنه «الرجل المؤهل لتولي المناصب العامة»، وهذا مفهوم أساسي في الفكر الدستوري المعاصر فهو ينطوي على جانب كبير من فكرة المسؤوليات المتبادلة بين الدولة والأفراد .

المرحوم د. راشد المبارك

والوطن بالمفهوم السابق ليس عميق الجذور في الثقافة العربية. فقد انتقل إليها من الإطار المعرفي الأوربي، ولم يتحول إلى جزء نشط ومتطور في النسيج الثقافي العربي. والسبب يرجع إلى ضآلة الإنتاج الفكري الجديد في اللغة العربية خلال القرن العشرين، وهذا الفقر اظهر ما يكون في حقول الفلسفة السياسية وعلم الاجتماع والقانون، وهي الحقول العلمية التي عولجت في إطارها فكرة الوطن والدولة في صورتهما الحديثة.
وأشار إلى مفهوم الوطن الرومانسي والوطن المادي، فأضاف إن الإذاعة والتلفزيون والصحافة والمدارس يتحدثون عن الوطن الذي نحبه ونفديه ونعظمه ونفخر به أما الوطن المادي الواقعي فهو الذي تقابله حين تخرج صباحا الى المدرسة او العمل، تسمع عن مشكلة. وتقابله حين تريد التعبير عن رأيك أو تختار مكانتك ودورك وحصتك في الفرص وفي كلف المواطنة، وفي القانون الذي تخضع لمتطلباته، وفي العلاقة مع الذين ينفذون هذا القانون.
بعبارة أخرى فان الوطن الرومانسي هو الوطن الذي نحمله ونحميه ونفديه، أما الوطن المادي فهو الوطن الذي يحملنا ويحمينا ويفدينا. هذا الوطن ليس مجرد ارض حتى لو كانت مقدسة، بل هو شرفي المغانم والمغارم ونظام للتكافل الجمعي يتساوى فيه صغير القوم مع كبيرهم، قريبهم وبعيدهم.
مقابل هذا المفهوم، يتكون مفهوم الوطن في الفكر الحديث من ثلاثة عناصر: الأرض «السيادة على إقليم محدد» وعقد اجتماعي ينشيء نظاما سياسيا ذا ملامح محددة، ومشاركة نشطة من جانب كل مواطن في تقرير أو تسيير امور البلاد.

الفوارق بين المفهومين

ثمة عناصر أساسية يتفارق عندها مفهوم الوطن الجديد عن المفاهيم الثلاثة السابقة:
1.      مفهوم الجماعة ويركز على عنصر الإيمان باعتباره أرضية العلاقة بين أعضاء الجماعة، ويتضمن هذا المبدأ منظومة حقوق وتكاليف متقابلة، من بينها الضمان القانوني للحريات الطبيعية والمدنية وتساوي الفرص والمشاركة في الشأن العام.
2.      مفهوم الأمة يقارب إلى حد كبير مفهوم "الاثنية" أي الرابطة القائمة على مشتركات ثقافية أو عرقية، وهو لا يعد في العلوم السياسية الحديثة أساسا لعلاقات دستورية أو سياسية.
3.      مفهوم "الوطن" في التراث الإسلامي وينطبق على القرية أو مسقط راس الإنسان.

ظهور وتطور مفهوم الوطن المعاصر

 مفهوم الوطن الجديد يتألف من ثلاثة عناصر أساسية: ارض وعقد ومشاركة نشطة. تبلور هذا المفهوم وتطور خلال ثلاث مراحل، إلا انه لم يتطور في بلادنا.
ومن ثم طرح الدكتور توفيق السيف سؤالا جوهريا ومهما، قائلا لماذا لم يتطور هذا المفهوم في بلادنا؟
واجاب قائلا ان فكرة الوطن تؤسس لمبدأ المواطنة والمتوفر منها بشكل صريح وواضح هو الأول فقط. أما الثاني والثالث ففيهما نقاش وقد يقال أنهما - بنسبة ما - متوفران لشريحة من المواطنين..
و نستطيع القول دون مجازفة بان فكرة الوطن لازالت محل جدل، وان مبدأ المواطنة لازال غير مستقر ثقافيا ودستوريا. ثم عرض ثلاثة أسباب محتملة لهذا الحال، لا تشكل تفسيرا كاملا، لكنها تشير إلى طبيعة المشكلة التي نحن بصددها:
الاول - ثقافتنا الموروثة تدور حول محور "التكليف" او الواجب وليس "الحق". حين نربي أولادنا فإننا - في العادة - لا نعلمهم حقوقهم وواجباتهم، بل الأخير فقط، ونعتبر الولد الفاضل والمهذب هو الذي يلتزم بالتكاليف التي عليه. كذلك الأمر في المدارس والإعلام والمنابر الدينية. نحن نتحدث كثيرا عما يجب علينا وما لا يجب، لكننا لا نتكلم إلا نادرا عن حقوقنا وحقوق الآخرين. هذا سائد في اللغة والأدب والتعليم والإعلام والتربية
الثاني- قبل ثمانية عقود تأسست المملكة كمجتمع سياسي جديد اندمجت فيها مجتمعات تنتمي إلى خلفيات اقتصادية وتاريخية متنوعة، وفي بعض الحالات متباينة. يتحدث علماء السياسة عن مرحلة وسيطة بين قيام الدولة واكتمالها، يجري خلالها بناء الدولة «اي النظام السياسي» وبناء الأمة أي «المجتمع السياسي». عملية بناء الأمة تستهدف تسكين الهويات السابقة للدولة في إطار يتفق عليه الجميع هو الهوية الوطنية الجامعة التي تقر الهويات الأصلية لكن تنزلها من الإطار السياسي إلى الاجتماعي - الثقافي. تتطلب هذه العملية إستراتيجية إدماج واسعة لربط اقتصاديات المناطق وتوحيد القوانين المطبقة فيها وكشفها ثقافيا واجتماعيا. من العناصر الرئيسية في إستراتيجية الاندماج نذكر في الجانب الاقتصادي مثلا التنمية المتوازنة جغرافيا وتوزيع المنافع وتساوي الفرص، وفي الجانب السياسي نذكر التمثيل المنصف في الإدارة العامة، وفي الجانب الاجتماعي والثقافي تشجيع التعبير عن التراث الثقافي والفني الخاص بكل منطقة وعرضه في بقية المناطق
إلا أن عملية بناء الدولة تركز على المؤسسات القانونية التي تنظم العلاقة بين المجتمع والحكومة، وأبرزها الدستور او القانون الأساسي والمؤسسات التي يشارك من خلالها المواطنون في القرار المتعلق بمصالحهم، وكذلك القنوات التي يعبرون من خلالها عن رأيهم وتطلعاتهم. وفي كلا المجالين فإننا نعاني فقرا شديدا.
من الواضح ان إستراتيجية شاملة ومقصودة لبناء الدولة وبناء الأمة لم تطرح أبدا.
الثالث-  الاتجاه الديني ينطوي على ارتياب في الفكرة دفع الحكومة والنخبة الى الإغماض عنها.
واضاف الدكتور السيف قائلا انه لا شك لدي بالقدر الذي اطلعت عليه من كتابات علماء الدين السعوديين فان فكرة الوطن ومبدأ المواطنة لم تكن ضمن انشغالاتهم الفكرية في أي وقت من الأوقات. وجميع ما كتبوه - مما اطلعت عليه - يدور تقريبا حول محورين: القلق من تقديم الرابطة الوطنية على الرابطة الدينية والقلق من اتخاذ الاحتفاء الرمزي بالوطن صفة العيد.
على أي حال فان الارتياب في مبدأ المواطنة كأساس للرابطة الوطنية واضح في الأدبيات المعبرة عن التيار الديني التقليدي، وصدرت فتاوى تحرم الاحتقال باليوم الوطني وتكريم الرموز والممارسات الرمزية الخاصة مثل تحية العلم والنشيد الوطني وأمثالها.

استراتيجية التصحيح

ثم تطرق الدكتور توفيق الى استراتيجية تصحيح لهذا الوضع، تتلخص في النقاط التالية:
1.      عمل فكري يرسم مفهوم "الوطن" وطبيعة العلاقة التي ينبغي أن تقوم بين أعضاء المجتمع السياسي «المواطنين»، والقيم المعيارية التي نرجع إليها كناظم ومفسر عند الاختلاف. اقترح مفهوم "شراكة التراب" كقاعدة فلسفية لفكرة الوطن التي نريد تصميمها.
2.      عمل قانوني - سياسي يتمثل في إنشاء المؤسسات التي تستوعب وتنظم تطبيق البند السابق، إضافة إلى تنظيم المشاركة الشعبية في القرار والشأن العام.
3.      عمل إعلامي وتربوي - تعليمي يستهدف إيصال المفهوم الجديد إلى المواطن كما يسعى لإقناع المواطنين بالمشاركة الفاعلة في إستراتيجية التصحيح.
4.      إستراتيجية للإنماء الاقتصادي يستهدف ربط مناطق الأطراف بالدورة الاقتصادية الوطنية، ويعزز جاذبيتها للاستثمار، ويسهم في إنهاء وضعها الحالي الطارد للقوى العاملة المؤهلة.
5.      الانفتاح الإعلامي والثقافي وتمكين جميع المواطنين من التعبير عن أنفسهم وثقافاتهم الخاصة وآرائهم في إطار الجدل السلمي الحر والمحمي بالقانون. وهذا يتطلب التعجيل في إصدار نظام الجمعيات التطوعية وجعله مرنا واسع الاستيعاب، وتغيير فلسفة الرقابة على النشر.
هذه العناصر الخمسة تمثل محاور لإستراتيجية واسعة يمكن أن نطلق عليها إستراتيجية الاندماج الوطني أو إعادة بناء الهوية الوطنية أو إعادة صناعة الإجماع الوطني. ويمكن أن تطلق كبرنامج من مرحلتين، خمس سنوات لكل منهما، تبدأ برسم الصورة التي نريد الوصول إليها في نهاية المدة، وتفاصيل الخطوات التي يجب القيام بها لقطع المسافة والبرنامج الزمني والمتطلبات المادية والعملية.
كان ذلك أخر فقرات ندوة الدكتور توفيق السيف التي عقدت في الاحد2/1/2011م في ديوانية الدكتور راشد المبارك بالرياض والتي تعتبر من ابرز الديوانيات على مستوى المملكة، وحضرها جمع كبير من المهتمين ومن الأدباء والمفكرين وأساتذة الجامعات، مما أثرى النقاش الذي تلي الندوة، فكانت هناك مداخلات واستفسارات كثيرة حول الموضوع، وأثنى غالبية المشاركين على المحاضر والمحاضرة القيمة، والتي استمرت أكثر من ساعتين ونصف، وأدارها الدكتور يحيى ابو الخير.

مقالات ذات علاقة 

لماذا ينبغي ان نطمئن الى تطور الذكاء الصناعي؟

  اطلعت هذه الأيام على مقالة للاديبة العراقية المعروفة لطفية الدليمي ، تقترح خطا مختلفا للنقاش الدائر حول الذكاء الصناعي ، وما ينطوي عليه ...