30/10/2019

مجادلة اخرى حول الميول العنفية

||يميل معظمنا للاعتقاد بان الانسان أميل للفساد لولا الروادع القانونية. وأرى في هذا الاعتقاد جذرا لنزعة التشدد تجاه الغير||
ما كتبته وكتبه زملاء آخرون حول الميل للعنف في الشخصية العربية ، لا يستهدف إدانة الثقافة العربية ، بل تحليل ظاهرة ، من دون ادعاء انه منزه عن الخطأ. يهمني تأكيد هذه النقطة ، لأن بعض القراء الأعزاء بذل جهدا مضنيا في بيان ان البشر كلهم ميالون للعنف ، وان الأوروبيين فاقوا العرب في هذا ، وان عنف العربي كان في الغالب رد فعل على عدوان اعدائه.. الخ.
 واريد استثمار المناسبة للفت الانظار الى ما أظنه مشكلة عامة في التداول الثقافي ، تتجلى في الانزلاق السريع من المناقشة النقدية (وهي الطريق الطبيعي لتطور الثقافة) الى التبجيل او الاعتذار والتبرير. ولا ينفرد المجتمع العربي بهذا النهج ، فهو معروف في كل مكان تقريبا ، وقد أطلق عليه في الولايات المتحدة ، في وقت سابق ، اسم "الماذا-عنية Whataboutism". ويراد به التنديد بالناقدين الذين يغفلون سياق الموضوع ، ويركزون على مجادلة شخص الكاتب ، او اثارة نقاط غير ذات صلة. وأحتمل ان التسمية تستبطن نوعا من السخرية. وقد استعملت ايضا في سياق الانكار على السياسيين والكتاب الذين يخدمون اجندات سياسية. ولعل الرئيس الامريكي ترامب هو أحدث من قيل انه “Whataboutist” أي انه يتبنى نهج "الماذا-عنية" كما يظهر في نقاشاته وخطبه ، سيما حين يدافع عن نفسه او سياساته. وبعض الموارد المتصلة بهذا مذكور في موقع ويكيبديا المعروف.
زبدة القول انه ليس من الفطنة تحوير النقاش ، باثارة نقاط غير ذات صلة بجوهر الموضوع ، فهذا النهج قد يشير الى ان صاحبه لم يستوعب الفكرة ، او أنه – لو اسأنا الظن – يحاول تشتيتها باثارة قضايا غير ذات صلة ، لأنه عاجز عن النقاش الحسن.
بعد هذا الاستطراد اعود الى مسألتنا الاولى ، اعني الغرض الذي لأجله نتحدث عن علاقة العنف بالثقافة او رسوخه في التراث العربي. ان الغرض من هذا هو توجيه المربين ، سواء كانوا آباء او معلمين او غيرهم ، الى الجذور الثقافية لنزعة العنف والتشدد. وبعض هذه الجذور خفية لا يراها غير قليل من أهل النظر. ومن ذلك مثلا الرؤية القائلة بان الشر هو الطبع الأولي في البشر ، وأن الخير لا يأتي الا بالتعليم والارشاد ومعه السيطرة والردع. وقد كتبت عن هذا الأمر مرارا ، وأشرت الى انك لو سألت الناس عن الغاية من وضع القوانين واقامة الحكومات مثلا ، لأجابك معظمهم بان الغاية هي ردع الأشرار. ولعل القليل منهم يستذكر ان غرض القانون والحكومة هو إعانة ذوي الحقوق في نيل مستحقاتهم ، ونيل الحقوق ليس بالضرورة من موارد النزاع ، بل قد يأتي في سياق التوزيع العادل للموارد المتوافرة في المجال العام (مثل توزيع الاراضي للسكن والاستثمار). او تنظيم صرف الثروة المشتركة في الخدمات المفيدة للجميع.
اقول ان غالبية الناس يتخيلون ان الردع هو علة قيام الحكومة والقانون. لأنهم في الاساس يعتقدون ان البشر أميل للفساد لولا وجود الرادع. وهذا راي ارسطو الذي تبعه غالب الفقهاء والمتكلمين المسلمين منذ اقدم العصور وحتى الان. ولذا فهو الاتجاه الغالب على الثقافة المتداولة في الاطار العربي والاسلامي.
في رايي ان هذا الاعتقاد (الذي اجزم بانه خاطيء) هو احد الجذور المولدة لنزعة التشدد تجاه الغير ، والتي تستدرج – بطبيعة الحال – ميلا للطرق العنيفة في التعامل مع الآخرين. ولعلنا نعود للموضوع في وقت آخر.
الشرق الاوسط الأربعاء - 2 شهر ربيع الأول 1441 هـ - 30 أكتوبر 2019 مـ رقم العدد [14946]

مقالات ذات علاقة

23/10/2019

هيروهيتو ام عصا موسى؟

المقال الاسبوعي للصديق محمد المحمود "العنف في الثقافة العربية" أثار – كالعادة - جدلا حادا ، بعضه متصل بالموضوع ، ومعظمه انكار على الكاتب دون مناقشة للفكرة. وخلاصة راي المحمود ان العنف جزء من تكوين الثقافة العربية. وهو يرى هذا ظاهرا في التعامل اليومي بين الناس ، وفي تعبيراتهم المنظمة عن قضاياهم ودواخل انفسهم ، كما في الشعر والامثال السائرة. لكن أبرز أمثلته تتجسد في الحقل السياسي.
بعض الناس سيوافق بالتأكيد على رأي المحمود ، وبعضهم سيرفضه. وهذا من طبائع الامور ، وليس ضروريا ان نجادل هذا الرأي او ذاك. لكني أود انتهاز الفرصة ، لاستكشاف واحد من اطارات النقاش في المسألة ، اعني الميل للتسالم او العنف في السلوكيات الفردية والجمعية. ويهمني التركيز على علاقات القوة ، اي العلاقات التي تنشأ في ظل تباين القوى بين طرفين أو أكثر ، وأبرزها – كما نعلم – علاقة الافراد بالدولة. لكن لا ينبغي استثناء القوى الأصغر حجما ، التي تتمثل في الجماعات المنظمة او شبه المنظمة ، وحتى الشخصيات النافذة.
اطار البحث المناسب في المسألة هو "الثقافة السياسية". وهذا من الحقول العلمية الجديدة نسبيا ، وغرضه وصف وتفسير المكونات الذهنية التي تؤثر في علاقات القوة. هذا البحث ، كان يستهدف في بداياته ، الاجابة على سؤال: لماذا نجح التحول الى الديمقراطية في بعض البلدان ، وتعثر في بلدان أخرى. هذا السؤال هو الدافع الرئيس لعمل الاستاذين غابرييل الموند وسيدني فيربا ، اللذين قاما بدراسات ميدانية ، نشرت مستخلصاتها في كتاب "الثقافة المدينية" ، وهو في رايي أبرز المراجع في هذا الحقل. لكن باحثين آخرين مثل دانييل ليرنر ، اخذوا البحث الى بعد آخر ، فركزوا على سؤال: ما هي العوامل التي تجعل مجتمعا ما اكثر استعدادا ، أو أقل استعداد للتحول الديمقراطي. ومن هذه النقطة انطلق بحث جديد حول الفوارق الكبرى (في الذهنية الفردية والجمعية) بين الظرف الديمقراطي وغيره. وقد توصلت خلال ابحاث سابقة الى أن الفارق الرئيس هو القيمة النسبية ، التي تمنحها الثقافة الاجتماعية للمداهنة والتفاوض ، مقابل التشدد والحسم.
بعبارة اخرى فاننا بصدد نوعين من الثقافات: ثقافة تمجد الحلول الحاسمة والسريعة. وفي المقابل ثقافة تحتفي بالمفاوضات والنقاشات المطولة وتكرار البحث ، وتشجب استعمال القوة في حل المشكلات. المجتمعات التي يسودها النوع الاول تتطلع الى زعيم قوي يقدم حلولا حاسمة ، نظير عصا موسى وسيف الاسكندر. اما المجتمعات التي يسودها النوع الثاني فهي اكثر احتمالا لزعيم يجيد التفاوض ولعق الجراح ، وربما التضحية بالكرامة الشخصية حتى يتوصل الى حل. ويرد الى ذهني في هذه اللحظة اشخاص مثل هيروهيتو امبراطور اليابان الاسبق ، ونيلسون مانديلا زعيم افريقيا الجنوبية ، وكلا الرجلين قاد تحولا عظيما من ظرف الصراع العنيف الى ظرف السلام والتقدم. ان نجاح الزعيمين يرجع بدرجة كبيرة ، الى قدرتهما على اقناع المجتمع بان طريق النجاة ليس مواصلة الصراع العنيف ولا رد العدوان بمثله ، بل التفاوض مع العدو حتى بلوغ الهدف ، ولو متأخرا.
اما وقد وصلنا الى نهاية المقال ، فاني اود دعوة القاريء الكريم لمساءلة نفسه: اي نوع من السياسات (والسياسيين) يود ان يرى في بلده: الزعيم السريع الحركة الحاسم ، ام الزعيم المفاوض البطيء؟. ان ميل المجتمعات للعلاقات العنيفة او اللينة ، وقابليتها للتحول الديمقراطي او العكس ، رهن بميل غالبية أهلها لهذا النوع او ذاك من السياسات ورجالها.
 الشرق الاوسط -الأربعاء - 24 صفر 1441 هـ - 23 أكتوبر 2019 مـ رقم العدد [14939]


مقالات ذات صلة

مجتمعات متحولة

الايديولوجيا والسياسة

حول الانقسام الاجتماعي

في جذور الاختلاف

حول التعليم والتطرف

ثقافة الكراهية

سجالات الدين والتغيير في المجتمع السعودي (كتاب) 


16/10/2019

من اراء الفيلسوف ديفيد ميلر

استعرت معظم الافكار الواردة هنا من البروفيسور ديفيد ميلر ، وهو مفكر بارز ، ساهم بدور مؤثر في تطوير مباحث الفلسفة السياسية ، ولا سيما تلك التي تشكل جسرا بين النقاشات الفلسفية البحتة والسياسية البحتة ، والتي تقدم تصورات قريبة نسبية من الواقع القائم وفرص التطبيق.
ومن المباحث التي اسهم فيها ميلر بدور كبير ، أشير الى موضوعين على وجه الخصوص: أولهما: المواطنة والهوية الوطنية ، في اطار دولة متعددة الثقافات. اما الثاني فهو "المساواة الاجتماعية" التي يعتبرها مبدأ متمايزا عن العدالة من جهة ، وعن المساواة في المعنى المشهور بين الفلاسفة المعاصرين ، أي التوزيع المتكافيء للخيرات المادية. ويقول ميلر ان الذي ميز منهجه ، هو ادخاله تطبيقات علم الاجتماع كعنصر في النقاش الفلسفي. وأرى ان هذا يتجلى خصوصا في اتخاذه لسلوكيات الناس ومواقفهم الفعلية ، كمفسر او محدد لبعض الاراء ، وكذلك اعتباره توجهات الرأي العام ، عامل ترجيح بين الخيارات التي لا تدعمها أدلة حاسمة. والحق ان عددا قليلا جدا من العلماء ، في مختلف المجالات، يتقبلون هذه الفكرة ، اعني اعتبار الراي العام عنصرا في البحث العلمي. وقد اشار هو نفسه الى ان هذه الطريقة لا تناسب الجميع ، بل تناسب اولئك المؤمنين "بقابلية العرف العام لاصدار حكم عقلائي".
تشير هذه النقطة الى موقف مثير للجدل في الفلسفة السياسية المعاصرة ، ناتج عن التضارب بين اتجاهين:
ينطلق الاتجاه الاول من القيم المؤسسة للحداثة ، فيعتبر العرف العام ، اي رأي غالبية الناس ، عقلانيا. وأن ما يتبناه هذا العرف من قواعد عمل او قيم يعد اساسا معقولا وسليما للقوانين. وعلى ضوء هذه الفكرة يقوم نواب الشعب في الدول التي لديها برلمانات باصدار القوانين ، اي تحديد ما هو صحيح وما هو خطأ ، يثاب على فعله ويعاقب على تركه او فعل عكسه.
اما الاتجاه الثاني وهو موقف الغالبية الساحقة من المحافظين في المجتمعات الصناعية ، وكافة الناس – الا قليلا – في المجتمعات التقليدية ، فيرى ان الصحيح والخطأ قيم موضوعية ، قائمة بذاتها ، وبغض النظر عن موقف الناس . ويقول اصحاب هذا الرأي: لو ان كافة الناس اتفقوا على ان موقفا ما صحيح ، ثم ظهر بدليل علمي مستقل انه خطأ ، فان راي الناس لا يغير حقيقته. كما ان هذا الفريق يطالب ببقاء العلم والبحث العلمي ، منزها عن التاثير السياسي والاجتماعي ، وأي طرف او جهة أهلية او رسمية ، تحاول او ربما تحاول ، توجيه مسار البحث العلمي في  غير الطريق الذي يقوده البحث ذاته.
يعتقد ميلر ان العدالة موقف ذهني كلي ، وان المساواة هي التي تقدم الشكل المادي الذي يتجسد في إطاره مبدأ العدالة المجرد.
بيان ذلك: لو سألنا انفسنا ، او سألنا اي شخص في اي مكان في العالم ، عن المعنى الذي يقفز الى ذهنه ، حين تذكر قيمة العدالة. ان الجواب الذي اعلم انه قفز للتو في ذهن القاريء هو "معاملة جميع الناس على نحو واحد". القاضي العادل هو الذي يساوي بين الخصمين ، والحاكم العادل هو الذي يحكم وفق قانون واحد ، ينطبق على الجميع بنفس الطريقة. هناك معان اخرى للعدالة ، لكن المساواة هي التي تتبادر غالبا في اذهان الناس. ويقول اللغويون ان التبادر علامة الحقيقة.
الشرق الاوسط الأربعاء - 17 صفر 1441 هـ - 16 أكتوبر 2019 مـ رقم العدد [14932] https://aawsat.com/node/1947806/

مقالات ذات صلة
فكرة المساواة: برنارد وليامز
المساواة والعدالة : ديفيد ميلر
من دولة الغلبة الى مجتمع المواطنة: مقاربة دينية لمبدأ العقد الاجتماعي

14/10/2019

المساواة والعدالة


(     الجزء الأول    ) 2
(    الجزء الثاني    ) 6
متى تقتضي العدالة مساواة في التوزيع؟.. 6
الحجة الاولى: المن والسلوى.. 7
الحجة الثانية: التوزيع في ظرف عدم اليقين... 9
الحجة الثالثة: العضوية المتساوية. 12
حقوق المواطنة. 13
(      الجزء الثالث      ) 16
المساواة الاجتماعية.. 16
لماذا المساواة الاجتماعية قيمة؟. 19
تطبيق مبدأ "المساواة الاجتماعية" في الحياة العامة.. 20
حول الكاتب.... 24


ديفيد ميلر . موجز عن حياته (ويكيبيديا)  - بعض مقالاته (اكاديميا)
غرضي من هذه الورقة [1]هو القاء المزيد من الضوء على مبدأ المساواة ، وتحديد ماهو القيم في هذا المبدأ. هذه الورقة ليست الأولى التي أعالج فيها مسألة المساواة. فقد سبق ان كتبت وتحدثت حوله. ومع ذلك أجد انه مازال امامنا الكثير مما يستحق النقاش والنظر في هذا المبدأ الضروري للحياة الكريمة. استيضاح قيمة المساواة يستدعي بالضرورة نقاشا في علاقتها بالعدالة. وهي علاقة اراها أكثر تعقيدا مما تبدو عليه في الظاهر. وربما لهذا السبب تعرضت – كما اعتقد – لسوء فهم متكرر.

(     الجزء الأول    )


اول ما يجدر الاهتمام به ، هو مفهوم المساواة ذاته: هل هو مفهوم ناجز متفق على معناه وحدوده؟.
يبدو ان بعض الناس مقتنع بان هذا التعبير مفهوم مكتمل ، واضح الابعاد ومحدد المعنى. هذا على الاقل ما يفهم من حقيقة ان بعض فلاسفة السياسة المعاصرين ، قد وصفوا انفسهم كمساواتيين egalitarian ، بينما اتخذ معارضوهم الجانب المعاكس ، فوصفوا انفسهم باللامساواتيين  أو ضد المساواتيين anti-egalitarian. اعتقد ان الأمر بحاجة الى تأمل ، فمفهوم المساواة الذي نحن بصدده ، ليس ناجزا ولا هو محل اتفاق.
اعتقد على اي حال ان التعارض بين الفريقين غير ذي موضوع. فالجدل القائم بين من يسمون انفسهم مساواتيين ، ومن يعتبرون انفسهم معارضين للمساواتية (بالمعنى الذي يطرحه الفريق الأول) ، ينبغي أن يفهم على نحو مختلف ، كأن يكون اختلافا حول امكانية انصراف فكرة المساواة الى مفهوم معين دون سواه ، مثل المساواة في الجانب المعيشي  أو الاقتصادي[2].
الخلاف المذكور يؤكد الحاجة لنقاش معمق كالذي نقترحه. لكن على اي حال ، لا ينبغي غض الطرف عن حقيقة انه لايزال ثمة تساؤل ،  أو عدم يقين ، حول ما اذا كان ثمة ما يستحق الاهتمام في البحث عن وعاء القيمة في مبدأ المساواة ، اي ما الذي يجعلها ذات قيمة ، وما الذي يجعلنا نعتبرها كذلك. هناك أيضا قدر كبير من الريبة ،  أو عدم اليقين ، حول العلاقة بين مفهومي المساواة والعدالة. وتظهر النقاشات الجارية وجود ما يمكن اعتباره استقطابا حادا بين وجهتين:
أ) في الجانب الاول ثمة من يدعو الى ابقاء المفهومين منفصلين تماما ، ومتمايزين عن بعضهما. وحجة هذا الفريق ، ان الصلة بين العدالة والمساواة قصر على معنى محدد ، هو المعنى الشكلي الصرف ، الذي يتجسد في أمثلة من قبيل تطبيق القواعد على الجميع على قدم المساواة. ويترتب عليها ان الناس يحصلون على نصيبهم من الحقوق المتاحة في المجال العام ، كما يتحملون الكلف العامة ، من دون تمايز بين فرد والآخر. فلو ان شخصين ارتكبا نفس الجرم ، فسيحصلان على نفس العقوبة.
من نافل القول ان الذين يتبنون هذا الرؤية على وجه العموم (القول بأن العدالة والمساواة امران مختلفان) يعتقدون أيضا ان للعدالة قيمة رفيعة ، أما المساواة فليس لها ذات القيمة. وهذا الفريق هو الذي يعتبر نفسه معارضا للمساواتية anti-egalitarian.
  ب) على الجانب الثاني ، يقف أولئك الذين يرون العدالة والمساواة قيمة واحدة ،  أو على أقل التقادير ، ينظرون الى العدالة التوزيعية كتجسيد لوحدة المبدأين. هذا ما يظهر مثلا في الاستعمال المتكرر لعبارة "العدالة المساواتية = egalitarian justice" في الكتابات الأخيرة لرونالد دووركين ، امارتيا سين ، وجيرالد كوهين وغيرهم ، ممن شارك في النقاش حول محور "المساواة في ماذا؟"[3] وهو نقاش يتناول حدود المساواة ، اي  الاجابة على سؤال: إذا كان يتوجب معاملة الناس على قدم المساواة ، فهل يجب أيضا ان نجعلهم متساوين ، بقدر الامكان ، في الموارد ،  أو الرفاهية ،  أو فرص الرفاهية ،  أو القابليات ،  أو غيرها؟. كان هذا النقاش قد انطلق بناء على افتراض ان المبدأ الذي نتطلع اليه يتالف من المساواة والعدالة في آن واحد .
يظهر هذا بكل وضوح في الفقرة التالية التي نستعيرها من رونالد دووركين ، حين يقول "نحن نستعمل مصطلح المساواة في معناها المعياري.. ونعني به على وجه التحديد المجالات  أو الجوانب التي يعتقد المتحدث انه ينبغي ان يكون الناس فيها سواء ،  أو ان يعاملوا على قدم المساواة ، باعتبار هذا موضوعا للعدالة"[4]. يتضح إذن من حديث دووركين هذا ، انه ليس ثمة سؤال حول ما اذا كانت المساواة ذات قيمة ،  أو لماذا هي ذات قيمة: الامر ببساطة ان المساواة جزء مندرج في مفهوم العدالة. وفقا لهذه الرؤية ، فان التوزيع العادل للمنافع يساوي التوزيع المتساوي للمنافع.
تبدو هذه الرؤية أقرب الى قلوبنا من نظيرتها الاولى. لكن علينا ان نتوقف قليلا لفحصها ، قبل ان نواصل الطريق. اذا كان الذي يقال هنا حقيقيا ، فكيف نفسر حقيقة ان كلا من العدالة والمساواة ، يطرح في النقاشات السياسية ضمن سياق مستقل عن الآخر ، كي يعالج قضايا خاصة به؟.
الواقع ان ايا من الفكرتين لا تطرح بصورة بارزة في البرامج السياسية للاحزاب ، لاسباب خاصة بكل منهما. حين تعلن  انك مناصر للعدالة ، فان هذا الاعلان لن يلفت –على الأغلب – نظر الكثير من الناس ، بل سيبدو اعتياديا جدا ، حتى بالنسبة لكتاب البرامج السياسية في هذه الأيام.
ولو تساءل أحدهم عن المقصود بالعدالة التي تتبناها ، فلعلك تقول مثلا انك تنوي العمل لتحقيق العدالة للمتقاعدين وكبار السن ،  أو للاطفال المحرومين. هذه في حقيقة الأمر أقرب الى اعلان نوايا ، يشير الى اصطفاف المعلن الى جانب دعاة العدالة  أو المطالبين بالعدالة ، في مفهومها العام. ومن هذه الزاوية فمن المرجح ان لا يثير أي جدل ذي أهمية ، نظرا لأن ما يعلن عنه مألوف جدا ومتعارف عند الجميع. سيعتقد السامعون على الارجح ان هذا هدف يتفق عليه الجميع ، لكن من يعلن عنه ، يتحدث عن سعي لتفعيله وانجازه لصالح الفئات المذكورة ، التي عادة ما ينظر اليها كفئات ضعيفة  أو محرومة.
حين نصل الى المساواة ، سيبدو الأمر على النقيض. ان اعلان احد الاحزاب  أو أحد المرشحين لمناصب سياسية ، عن دعم غير مشروط للمساواة ، ينطوي على قدر من المخاطرة. دعنا نقول ان إعلانا من هذا النوع ، يساوي – على المستوى السياسي – الإعلان بان نظاما منصفا للضرائب ، يتطلب ان يلتزم أشخاص مثلي بدفع ضريبة تزيد قليلا عما يدفعون في الوقت الحاضر. اي حديث عن المساواة سيثير قلقا عند فريق من المجتمع ، مالم يقدم المتحدث توضيحا كافيا ، يحدد نوع اللامساواة القائمة التي ينوي التصدي لها ، من قبيل القول على سبيل المثال انه يعتزم تضييق الهوة بين الرجال والنساء في الأجور. بعبارة اخرى فان مبدأ العدالة يشكل نقطة اجماع بين كافة الرجال والنساء ، فيما عدا قلة محدودة من "النيتشويين الجدد" غير الناضجين half-baked neo-Nietzscheans ، الذين ربما لن يشاركونا الاحتفاء بذلك المبدأ الرفيع[5].
خلافا للعدالة ، فان مبدأ المساواة لم يحظ بنفس القدر من الاجماع. الذين يتبنونه من دون تحفظ ، ينتمون في الغالب الى شريحتين: الفلاسفة والمناضلين في ميادين السياسة[6]. قلة الذين يتبنون هذا المبدأ ، تدفعنا للتردد شيئا ما ، قبل ان نتقبل دمج المبدأين: العدالة والمساواة ،  أو اعتبار احدهما فرعا من الاخر.
ومع هذا التوقف ، لابأس بالاشارة الى ان الصلة التي تربط بين الاثنين اقوى من تلك التي أقر بها الفريق الأول ، حين قال ان العدالة تتضمن فقط نوعا شكليا من المساواة ، مثل المساواة التي يشار اليها حين تطبق احدى القواعد على نحو سليم.
-        ماذا يمكن ان تكون هذه الصلة يا ترى؟
- بعد قليل سوف اقترح رؤية ثالثة. لكن دعني أبدأ بتوضيح ما أشرت له سابقا من وجود نوعين من المساواة القيّمة:
 نوع يربطها بالعدالة ، ونوع يفهمها  كمبدأ مستقل. المساواة من النوع الاول (المرتبطة بالعدالة) مساواة توزيعية بطبيعتها. فهي تحدد ان منافع من نوع معين – الحقوق على سبيل المثال – ينبغي ان توزع بصورة متساوية ، لأن العدالة تقتضي هذا.
 اما النوع الثاني من المساواة فهو ليس توزيعيا بالمعنى السابق. المساواة هنا لا تتناول مباشرة اي توزيع لحقوق  أو موارد. بدلا من هذا فهي تعرّف مثلا أعلى لنظام اجتماعي ، يتعامل اعضاؤه فيما بينهم كأنداد متكافئين ، ويحصل كل منهم على قدر متماثل من التقدير والاحترام من جانب الآخرين.  بعبارة اخرى فهي تتصور نظاما اجتماعيا لا يسمح بانقسامات على اساس المكانة ، بينما يسهل – في المقابل - اختراق حدود التقسيمات التقليدية ، ومعاملة الافراد بناء على معايير غير معيار الانتماء الطبقي على سبيل المثال. نستطيع تسمية هذا النوع الثاني من المساواة بالمساواة في المكانة ،  أو حتى "المساواة الاجتماعية" ان شئت التبسيط.
هذان النوعان من المساواة ، التوزيعية والاجتماعية ، مختلفان تماما ، رغم انه في حالات محددة ،  يجري الاستعانة بهما ، كما لو انهما يحملان معنى واحدا ، في دعم برنامج سياسي محدد ، على الاقل في خطوطه العريضة. يتضح التمايز بين النوعين في المثال الآتي: افرض اننا اردنا المجادلة لصالح تقليص التمايزات  في الدخل ، مما تعرفه المجتمعات الليبرالية في الوقت الراهن. لو اردنا اقامة جدلنا على اساس المساواة التوزيعية ، فسوف نحاول ايضاح ان هؤلاء الذين يتلقون دخلا اكبر ، ليس لهم حق خاص يبرر لهم هذا ، وان العدالة كانت تقتضي توزيعا للدخول اكثر مساواة ،  أو ربما توزيعا متساويا تماما. بتعبير آخر ، سوف نحاول بيان ان الفريق الآخر ، اي اولئك الذين يحصلون على دخل دون المتوسط ، لديهم حق في المطالبة بجانب من الدخل الذي يذهب الى الشريحة الاعلى دخلا.
لكن لو اردنا – في جانب آخر – اقامة نقاشنا على ارضية المساواة الاجتماعية ، فسوف ينصب احتجاجنا على ان الفروق القائمة فعليا في المداخيل ، تترجم نفسها – شئنا ام ابينا – الى انقسامات اجتماعية. سنجادل ، على سبيل المثال ، بانه من المرجح ان اولئك الذين يقعون في النصف الادنى من متوسط الدخل ، سوف يشعرون بالغربة في الفضاء الاجتماعي ، وأنهم يتعرضون للاقصاء من الحياة الاجتماعية.
لا يقتصر الامر على شعور داخلي بين الاشخاص الأقل دخلا. فالفوارق الكبيرة في الدخل والمكانة ، تقود - بشكل طبيعي – الى بروز فجوة واسعة بين هؤلاء الذين تقع مداخيلهم في النصف الأدنى ، وبين المنتمين الى الطبقة الوسطى ، الذين ينعمون بمستوى معيشي مريح.
الفارق في مستوى المعيشة (وهو نتيجة للفرق بين معدلات الدخل) يثمر عن علاقة غير متوازنة  أو مريحة بين اطياف المجتمع. ونعلم ان العبء الأكبر لنظام كهذا ، يقع على عاتق الذين يكسبون أقل. بعبارة أخرى فانه في نظام اجتماعي يفتقر الى المساواة ، يقع الجزء الاكبر من كلفة النظام على الشريحة المنخفضة الدخل ، وليس الشريحة الأعلى دخلا ، كما هو المفترض.
ينبغي ان تكون الحالة السابقة الذكر ، قد أوضحت الفارق بين جوهر الاحتجاج في كل من النوعين. وبهذا يتضح أيضا ان المجادلة التي تطرح في الحالة الثانية ، لا تدور حول عدم الانصاف في التوزيع ، بل حول سلامة النظام الاجتماعي. محور هذه المجادلة هو ان مجتمعنا لا ينبغي ان يكون على هذا النحو. حين نعارض اللامساواة ، فاننا نعارض - في حقيقة الأمر – نظام علاقات اجتماعية عليل ، غير قادر على تفهم الحاجات الانسانية والقيم الناظمة للتفاهم بين البشر. ومن هذه النقطة بالذات ، فهو يتسبب في زرع بذور الريبة وسوء الظن بين الاغنياء والفقراء ،  أو ربما الغرور والتبجح في جانب والتملق  أو الخنوع في جانب آخر.
سوف نستكشف في السطور التالية كيف يتصل كل من نوعي المساواة بالعدالة. ان الغرض من دراسة الحالة الأولى هو التوصل الى تحديد دقيق للظروف التي في ظلها ، يتوجب علينا ، وفقا لدواعي العدالة ، ان نوزع الخيرات/السلع على بصورة متساوية.
اما الغرض من دراسة الحالة الثانية ، فيتلخص في استكشاف كيف أن التزامنا بمثال أعلى مستقل للمساواة الاجتماعية ، يؤثر على تفكيرنا في العدالة الاجتماعية. الفكرة هنا هي انه ثمة حالات تتضمن تطبيقات للعدالة ، لكنها – في الجوهر - ليست العدالة في المعنى المساواتي. حتى في هذه الحالات ، فان لايزال من الممكن ان نشكل البنية الاساسية على نحو يمكن التوزيع العادل من خدمة الغايات المساواتية.   

(    الجزء الثاني    )

متى تقتضي العدالة مساواة في التوزيع؟

اشرت في السطور السابقة الى انني لا أميل للرأي الذي تبناه بعض فلاسفة السياسة المعاصرين ، وهو الرأي القائل بأن العدالة مساواتية دائما. استطيع القول بصورة عامة ان العدالة تدعونا دائما لاعطاء كل ذي حق حقه. وفقا للمعادلة الكلاسيكية ، ومع الاخذ بعين الاعتبار طبيعة السلعة/الفرصة موضوع التوزيع ، اضافة الى الظرف الذي يجري التوزيع في إطاره ، فان العدالة قد تتطلب توزيعا غير متساو. في حالات كثيرة ، سيكون هذا الشكل  أو ذاك من اشكال الاستحقاق desert، هو المعيار المناسب. ونعلم ان التوزيع طبقا للاستحقاق ليس مساواتيا.
اعلم ان هناك من يفسر المطالبات المبنية على الاستحقاق[7] ، بانها مطالبات بالتعويض ، وليست حالات توزيع اعتيادية ، مما يندرج في اطار موضوع النقاش هنا. لكني ارفض القول بأن المطالبات المبنية على استحقاق ذات طبيعة تعويضية دائما. يقال احيانا انه حين يكافأ الناس على جهودهم ، فان ما يحصل هو ان الكلف المندرجة في تلك الجهود ، يجري معادلتها  أو التعويض عنها ، بدخل اضافي يحصلون عليه في وقت لاحق. ومن هنا فان المحصلة الاجمالية هي نوع من المساواة[8]. أرى هذا التفسير بعيدا جدا عن الحقيقة ، ولا يمكن اخذه كوصف قابل للتعميم ، عما يجري في الواقع ، حين يكافأ المجتهدون على جهودهم. هذا لا ينفي – بطبيعة الحال - احتمال ان تكون الفكرة صائبة في حالات خاصة ، ولو قليلة.
دعنا الآن نلقي ضوء على الفكرة التي اشرنا اليها في السطور السابقة ، اي "كلفة الجهد". في رأيي ان كون الجهد مكلفا أو غير مكلف ، يعتمد على:
أ‌.       نوع الجهد الذي نتحدث عنه ، و
ب‌.    الموقف الذهني للقائم بذلك الجهد.
 لا أظن اننا نريد القول بان علينا ان ندفع أجرا أقل ، لهؤلاء الناس الذين يستمتعون بعملهم ، ومثلهم الذين يرون قيامهم بذلك العمل واجبا التزموا بأدائه ، حين انضموا الى هذه الوظيفة ، بينما نعطي أجرا أكبر لأولئك الذي يرون عملهم عبئا مرهقا ،  أو أنه – بطبعه - لا يستحق العناء. لا أظننا نريد ان نقول شيئا كهذا. لان مقتضى القبول بهذا القول ، هو ان المكافأة على الجهد ليست حقا مكتسبا يقابل الجهد ، بل وسيلة لتحقيق المساواة. واذا قبلنا هذا المنطق ، فينبغي ان نقبل به كتفسير لأنواع أخرى من الاستحقاق ايضا.
-  في اي من الحالات إذن ، تقتضي العدالة توزيعا متساويا للمكاسب والمنافع؟

الحجة الاولى: المن والسلوى

 اولى الحالات التي تمثل موضوعا للتوزيع المتساوي ، هي حالة المنافع والمكاسب التي يجدها الناس امامهم ، من دون ان يبذلوا جهدا في ايجادها. فهي اقرب الى ما يمكن ان نسميه "من السما/المن والسلوى= manna-from-heaven"  أو النعم غير المترقبة. انها مكاسب تستحق الاهتمام ، وهي قابلة للتوزيع ، لكن لا أحد يملكها فعليا  ، أو يقدم شواهد جدية أو متينة تفيد ملكيتها ، أو ملكية جزء منها. هذه النعم من الاملاك العائدة لجميع الناس مشاعا ، وليس لأحد منهم أن يختص به دون الآخرين  أو يحوزه منفردا. في مثل هذه الحالة ، نعلم ان التوزيع المتساوي للمكاسب والاعيان ، هو النهج الوحيد الذي يتلاءم مع الاقرار بالتكافؤ في القيمة بين كافة أعضاء الجماعة. هذا اذن هو نوع التوزيع الذي تقتضيه العدالة في هذه الحالة.
من الممكن ان تتفق الجماعة على اتباع طريقة مختلفة لتوزيع هذه النعمة فيما بين افرادها. دعنا نضرب مثلا باتفاق الجماعة على ان تضع النعمة كلها في كومة ، كي يقوم كل فرد بأخذ سهم منها بطبقة مشابهة لاستلال قشة من الكومة. هذه الطريقة لا تضمن مساواة تامة بين حصص الافراد. لكن النقطة الجوهرية في المسألة هي اتفاق الجميع على ان لكل منهم حق في المطالبة بسهم واحد. وانه يستطيع الحصول عليه ، ما لم يتنازل عنه مختارا.
سوف اعتبر هذه الحالة تخصيصا للعام  أو استثناء من القاعدة limiting case. [9] ذلك ان "من السما/المن والسلوى" رزق استثنائي في كلا الوجهين: فهو – أولا - يصل الى أيدي الناس من دون ان يبذلوا جهدا لتحصيله ، وهو – ثانيا – سلعة استهلاكية ، يقف الناس جميعا على قدم المساواة في الحاجة اليها (البيانات الواردة في الانجيل حول الحدث الاصلي الذي شهد نزول المن والسلوى على بني اسرائيل ، فيما يخص النقطة الأخيرة ، غامضة ومثيرة للالتباس. وهي توحي من ناحية ، بان حصة كل شخص محددة بما يساوي حصص الاخرين من المن والسلوى. لكنها من ناحية اخرى ، تشير الى ان هذه الحصة مهيأة بصورة من الصور على نحو يلبي حاجة صاحبها[10]).
مما يجدر ذكره في هذا السياق ان هناك من يدعو الى اعتبار الثروات الطبيعية في الارض ، قرينا للمن والسلوى ، من زاوية ان لكل انسان حق في حيازة حصة منها ، تساوي حصص الآخرين.
أرى ان المقارنة بين من السماء/المن والسلوى وبين ثروات الارض الطبيعية ، غير موفق من نواح عديدة. دعنا نذكر أولا ان الثروات الطبيعية سلع انتاجية بقدر ما هي استهلاكية. من ذلك مثلا الزيت والفحم ، وكذلك الغزلان والتفاح وما أشبه. فقيمتها تعتمد على المعرفة ، إضافة الى توفر القابلية عند بعض الناس لاستعمالها.
الموارد الطبيعية الارضية ليست سلعا  أو خيرات ملقاة على الارض ، تنتظر من يلتقطها ويستعملها ، كما هو الحال في من السما. انها تحتاج الى جهد بشري وخبرات تتناسب مع نوع كل منها. الغزال يجب ان يصطاده شخص عارف بفنون الصيد. كما ان الفحم يحتاج الى تنقيب واستخراج ، اي معرفة بهذه الأعمال.
ربما يكون ثمة أسباب معقولة لعدم تقسيم هذه الموارد بين الناس ، وتحويلها الى حيازات خاصة. لعلها تلعب دورا حيويا في النظام البيئي على سبيل المثال. وهي تقدم – من خلال هذا الدور – فائدة عامة لجميع المخلوقات. هذه الاعتبارات لا تعطينا حلا لمسألة توزيع الموارد الطبيعية. لكنها توضح لنا ان التوزيع المتساوي ، لا يمكن انشاؤه من خلال قياسه على حالة المن والسلوى.
المساواة هي المبدأ المناسب لتوزيع سلع من نوع المن والسلوى. لكن هذا مشروط بكون جميع المستفيدين متساوين تماما لحظة وصوله. بمعنى ان لا يكون لأحدهم صفة مميزة ، تفتح الباب امام معايير أخرى لتؤثر في مسار اللعبة. نعلم ان هذا لا يمكن اشتراطه – بشكل عام - في حالة الموارد الطبيعية. من هنا فان نظرية في المساواة التوزيعية ، فحواها ان لكل فرد من سكان العالم حصة متساوية ، في الموارد الطبيعية التي تزخر بها الارض ، هذه النظرية تقوم على اساس ضعيف وغير مستقر[11]. 

الحجة الثانية: التوزيع في ظرف عدم اليقين

دعنا نستعرض الآن حالة ثانية ، ربما  تشكل المساواة فيها ضرورة لضمان العدالة التوزيعية. في هذه الحالة يتوجب انجاز التوزيع في ظروف عدم اليقين بشأن مطالبات الأفراد ، وهي مطالبات تحظى باعتبار عندنا. دعنا نأخذ المثال الآتي: أسعى لتأليف فريق من الأشخاص للقيام بمهمة معينة. وفي مقابل انجازهم لها  ، ثمة منتج سيجري توزيعه بينهم.
في نهاية العمل ، لم أتوصل لطريقة موثوقة اعتمدها في تحديد حصة كل منهم ، في الجهد الاجمالي الذي أدى الى انجاز المهمة. أتوقع ان يكون بعضهم قد قدم مساهمة أكبر من غيره. لكن لا توجد طريقة لتحديد الفارق حسابيا (قل مثلا انهم جميعا اكملوا العمل المطلوب ، ولم يتوقف احدهم في منتصف الطريق).  في مثل هذه الحالة ، يتوجب علي توزيع المنتج بالتساوي بين المشاركين ، من أجل تقليص مقدار الظلم الذي يتوقع ان ينتج عن أي توزيع غير متساو.
المثال البسيط التالي يوضح أين تقع المشكلة في الحالة المذكورة. دعنا نفترض ان الفريق الذي دعوناه لانجاز المهمة يتألف من 5 اشخاص ، وان عدد المنتجات التي ستنجز في النهاية هو 25. سوف افترض مسبقا ، من دون معرفة لما سيحدث في الواقع ، ان كافة المشاركين يتساوون في القابلية للانجاز. اي ان الاحتمالات بينهم متساوية. هذه الاحتمالات تشمل مثلا أحسن الحالات ، وهي ان كل فرد سينجز  5 منتجات ، والاحتمال المعاكس وهو الأسوأ ، حيث ينتج شخص واحد مجموع ال 25 منتجا ، بينما يقتصر دور الاربعة اشخاص الباقين على التحرك بين بداية العمل ونهايته ، من دون انتاج فعلي. دعنا نحتسب مقدار ما وقع من ظلم ، بجمع الفارق بين عدد المهمات المنجزة والمنتجات التي استلمها اعضاء الفريق كمكافأة.
العضو
المنتج
المكافأة
الظلم الناتج
A
10
6
4
B
5
4
1
C
5
8

D
3
2
1
E
2
5





مجموع 
25
25
6
نفترض مثلا ان اعضاء الفريق انجزوا المهام التالية: A10, B5, C5, D3, E2,  وحصلوا مقابل هذا على المكافآت التالية A6, B4, C8, D2, E5 .  في هذه الحالة سيحسب مقدار الظلم الحاصل في تخصيص المكافآت على الوجه التالي:

(10 6) + (5 4) + (3 2) = 6[12]
ان الظلم الذي وقع هنا يقدر ب 6 وحدات من اصل 25 وحدة. اذن فان توزيعا متساويا للمكافآت سوف يقلل الظلم المتوقع من جراء التوزيع المتفاوت[13].
بدلاً من ذلك ، قد يجادل المرء بأنه في ظل انعدام اليقين ، ينبغي للمرء أن يتصرف على نحو يؤدي لتقليص مقدار الظلم الذي يحتمل وقوعه على اي فرد ، إلى ادنى الحدود الممكنة. هذا أيضا قابل للتحقيق بواسطة التوزيع المتساوي. بيان ذلك:
دعنا نفترض ، انه في أسوأ الحالات ، نجح أحد أعضاء الفريق منفردا ، في انتاج مجموع ال 25 وحدة ، التي كان متوقعا ان ينتجها الفريق باكمله. لكن عند توزيع المكافآت ، منح هذا العضو 5 وحدات فقط ، أي ان الظلم الذي وقع عليه يبلغ 20 وحدة. في ظل اي نظام توزيع آخر (غير التوزيع المتساوي) فانه من المحتمل ان يحصل على أقل من 5 وحدات. وبالتالي فان الظلم الواقع عليه سيكون اكبر من 20 وحدة. مع اختيار التوزيع المتساوي ، نعرف ان أكبر قدر من الحرمان يمكن ان نتسبب فيه لأي شخص ، هو 20 وحدة من الفوائد. لكن لو اخترنا أي نظام توزيع آخر ، في نفس الظروف (حالة عدم اليقين) فان مقدار الحرمان هذا قد يكون أكبر.
هذا الاحتجاج نفسه قابل للتطبيق ، حيثما كان معيار التوزيع هو الحاجة ، من دون ان تتوفر – في الوقت نفسه – طريقة موثوقة ، لمعرفة ما الذي يحتاجه هذا الشخص وما الذي يحتاجه الشخص الآخر ، كي نقيم رابطا صحيحا بين التوزيع والحاجة. أقترح انه في حال كهذا ، سوف يكون الاقتسام المتساوي للموارد المتاحة ، الوسيلة الاكثر موثوقية لتقليل الانحراف المحتمل عن توزيع عادل تماما .
لدي شك في ان شيئا مثل سلسلة التعليل هذه ، قد تكون قيد التطبيق في حالات واقعية ، نظير حالات الناس الذين يتوجب عليهم اجراء حسابات معقدة ، للتوصل الى تقسيم عادل للموارد بين المستحقين. مثل هؤلاء سيلجأون – في الاغلب – الى التقسيم المتساوي باعتباره الحل الابسط للمشكلة.
هناك اضافة الى ما ذكر ، جانب إجرائي نوعا ما في المسألة: اذا قمت بتقسيم متساو للحصص ، فلن يجرؤ أحد على اتهامك بالانحياز ،  أو محاباة احد  أو بعض اصحاب الحق ، على حساب الآخرين. لكن وراء هذا ، ربما تكمن فكرة أخرى ، خلاصتها انك قد لا تكون مضطرا لاجراء حسابات دقيقة ،  أو  لعلك قلق من الوقوع في أخطاء ، لو حاولت اجراء حسابات دقيقة ، عندئذ فان التقسيم المتساوي ، سوف يقلص احتمالات الانحراف عن الانصاف.
حجة عدم اليقين التي للتو سقنا أمثلة عنها ، يمكن أخذها الى مدى أبعد. دعنا نفترض مثلا انك متشكك في قياس الاستحقاق ، في مستوى التطبيق ، إن لم يكن في المبدأ. دعنا نفترض أيضا انك مؤمن بحق الناس في المكافأة ، فقط وفقط اذا كانوا ، بصفة شخصية ، قد تحملوا العبء الذي أثمر عن نتيجة بعينها. لكنك أيضا تظن انه في الحالات الواقعية ، من المستحيل تقريبا ان تفصل بين الجهد الذي بذله هؤلاء الأشخاص حتى انتجوا ، وبين التأثير المساعد لعوامل ليست من انشائهم ولم يبذلوا أي جهد في الحصول عليها ، مثل المواهب الطبيعية.  الى ذلك ، ربما تكون ممن يساند فكرة التوزيع المتساوي للدخل ، على ارضية ان هذا سيختصر – بالتأكيد – المسافة التي تفصلنا عن المستوى النموذجي للتوزيع المنصف ، اي التوزيع  بحسب الاستحقاق[14].  
ليس في نفسي ريبة تجاه فكرة الاستحقاق desert. لكني اعتقد ان بعض المساواتيين ربما يقيمون اعتقادهم هذا على اعتبارات من هذا النوع. لاحظ ان هذا سوف يعطيك ايضا مبررا لمقاومة الاقتراحات الداعية لتطبيق مبدأ باريتوPareto-superior  [15] في اللامساواة: اذا سئل السؤال المألوف: لماذا تختار  5, 5, 5, 5, 5 حين يكون بديل مثل 12, 9, 7, 7, 6  متوفرا؟. المساواتي الذي في ذهني سوف يجيب: لانه اقرب للانصاف. حين لا يكون لديك مبرر معقول لاعتبار ان الشخص الذي حصل على 12 في التوزيع الثاني ، كان يستحق اكثر من الشخص الاول الذي حصل على 6 ، حين لا يكون لديك مبرر لهذا ، ينبغي ان يزداد توقعي للظلم اذا تحركت من التوزيع الاول الى الثاني.
قدمت حتى الان مجادلتين من أجل المساواة ، انطلاقا من مبدأ العدالة. لعل القاريء قد لاحظ ان كليهما ذا طبيعة سلبية. تقول المحاججة الاولى: ان العدالة تستدعي ان يكون التوزيع متساويا ، حين لا يكون ثمة فوارق ذات صلة بين الاشخاص (كما في حالة المن والسلوى التي عرضناها آنفا). اما المحاججة الثانية فتقول: ان التوزيع المتساوي يجعلك أقرب الى العدالة ، حين تفتقر الى اي دليل  أو كفاءة محاسبية للتوصل الى حل عادل تماما (كما في حالة فريق العمل ذي الخمسة اشخاص).

الحجة الثالثة: العضوية المتساوية

اما المحاججة الثالثة فهي اكثر ايجابية. فهي تقول: ان الأعضاء في جماعة ما يستحقون المساواة في المعاملة. اي ان عضويتهم في الجماعة بحد ذاتها ، تمنحهم حق المطالبة بالمعاملة المتساوية. بناء على هذا فان الاعتراف بعضوية شخص ما في الجماعة ، ثم انكار حقه في المعاملة المتساوية ،  أو حرمانه من منفعة  أو ميزة مساوية لما يحصل عليه الاعضاء الآخرون ، هذا الانكار  أو الحرمان يعتبر نقضا للعدالة.
الجماعة التي نتحدث عنها ، قد تكون اي شيء من حيث الحجم  أو موضوع العمل ،  أو طبيعة الرابطة الداخلية  أو سبب قيامها الخ. ربما تفكر في جمعية تطوعية مثل ناد للعب الاسكواش (التنس الارضي) ،  أو اي جمعية مماثلة. الشخص الذي ينتمي لعضوية هذا النادي ينبغي ان يتمتع بفرص مماثلة لبقية الاعضاء: ان يحجز صالة لعب مثلا ، ان يخدم كعضو في ادارة النادي  ، وما الى ذلك.
هذه امثلة على جماعات صغيرة. لكن المبدأ نفسه ينطبق على الجماعات العليا ، مثل المجتمع السياسي بكامله. كل شخص كامل العضوية في مجتمع سياسي فهو مواطن. وبصفته مواطنا ، فان له حق المطالبة بالمعاملة المتساوية مع بقية المواطنين ، في شريحة واسعة جدا من الحقوق والمنافع المتاحة في المجال العام ، بدءا من الحق في الحماية القانونية ، الى حقوق التصويت ، والرعاية الاجتماعية ، وما إلى ذلك.
خلاصة هذه الحجة اذن: ان عضوية الفرد في جماعة ، تمنحه حقا في المعاملة المتساوية مع سائر الأعضاء هذه الدعوى التي تبدو للكثيرين بديهية ، تواجه اعتراضا من زاويتين:
الاعتراض الأول : مبدأ المساواة ليس الأساس الذي اقيمت عليه حقوق أعضاء الجماعة
 فحوى هذا الاعتراض ان العضوية في جماعة ، ربما تمنح الفرد ميزات أو حقوقا معينة.لكن ليس ثابتا ان هذه تندرج في اطار المساواة ، أو تفهم ضمن شروطها. بل هي نوع من التأهل لمقدار مطلق من المنافع والحقوق ، التي جرى تعريفها كسلع  أو فرص  أو خيرات مشتركة في اطار الجماعة.
هذا التفسير غير وارد في نظري. وهو ما سأشرحه حين نبدأ في استكشاف حقوق المواطنة ، باعتبارها احدى الحالات التي يتمظهر فيها مبدأ المساواة.
حقوق المواطنة
دعنا نأخذ بعين الاعتبار الطيف الواسع من الخدمات العامة ، التي يحصل عليها المواطنون من حكوماتهم ، بشكل مباشر  أو غير مباشر  ، من الرعاية الصحية الى التعليم الى الاتصالات والمواصلات وما الى ذلك. في كثير من الحالات يعتبر الحصول على هذه الخدمات امتدادا وتكملة للحقوق الاساساسية ، التي تترتب على اكتساب صفة المواطنة ، وليست حقوقا أساسية غير قابلة للفصل عن صفة المواطنة.  ونشاهد اليوم ان هذه الخدمات باتت موضوعا للاختيار الجمعي ، حيث يختار المواطنون ( أو ممثلوهم) الخدمات التي سيتم تقديمها وفي أي مستوى. ونعلم ان هذا كله يعتمد في المقام الاول على مستوى النمو الاقتصادي للبلد ، كما ان التركيز على نوع من الخدمات  أو اكثر ، يرجع للقيم السائدة ، ومقدار الاهمية التي توليها الثقافة العامة للمجتمع لكل من تلك الخدمات.
لو اخذنا على سبيل التمثيل ، قطاع النقل. لا يمكن لأي دولة ان تتخلى عن مسؤوليتها في انشاء الانظمة الاساسية ، التي تسمح للناس بالتحرك السلس والانتقال من مكان الى آخر ، مثل الطرق والسكك الحديدية للنقل العام ، وما اليه[16]. هذا أمر في غاية الوضوح. لكن ليس من الواضح كيف سيعرف الانتقال الحر من مكان الى آخر  ، ضمن هذا المستوى  أو ذاك ، والتزام الحكومة بانشاء الطرق وسكك الحديد ، باعتبارها حقوقا. ليس من السهل تحديد الشروط  أو الإطار الذي ستصاغ وفقها وفي اطارها مثل هذه الحقوق. ويزداد الامر عسرا حين نأخذ بعين الاعتبار حقيقة التفاوت الواسع في سياسات النقل بين بلد وآخر. نجد على سبيل المثال ان البلدان القليلة السكان تضع سياسات النقل على نحو يوفر لغالبية السكان ، امكانية اقتناء مركبات خاصة. بينما تميل البلدان التي تعاني من ازدحام السكان ، الى التركيز على انظمة النقل العام وتشجيع غالبية السكان عليه ، وتثبيط الرغبة في اقتناء سيارات خاصة.
ما هو جدير بالاعتبار من منظور المواطنة ، ليس تمتع كل فرد بقدر محدد من الحركية والقابلية للانتقال. المهم حقا هو ان اي نظام جرى تبنيه من قبل  المجتمع السياسي ، فانه يجب ان يكون – بقدر الامكان – متوفرا لكافة المواطنين على قدم المساواة. شرط المساواة هذا سيهدر حين يكون نظام المواصلات العامة المتوفر لسكان الارياف – على سبيل المثال – أدنى مستوى وكفاءة ، من نظيره المتوفر لسكان المدن. وكذا الحال لو كانت سياسات النقل تميل بشدة لصالح الاعتماد على السيارات الشخصية ، وتركت – بموازاة هذا الميل – أقلية معتبرة الحجم من المواطنين الذين لا يستطيعون امتلاك سيارة ، تركتهم تحت رحمة نظام مواصلات عامة ، متدني المستوى وقليل الكفاءة. لا يمكن ابدا القول ان نظاما  اجتماعيا كهذا ، يعامل المواطنين جميعا على قدم المساواة ،  أو يقر بأن المعاملة المتساوية حق لهم.
ليس ثمة شك في أن تحقيق المساواة التامة في التعامل ، لكل فرد ، أمر مستحيل. لكن هذا ليس نهاية القصة. ثمة مجموعات تدعي ان سياسات النقل التي تتباها الدولة ، قد ادت الى تقليص ملموس لفرصها في التنقل الحر ، بالقياس الى بقية المواطنين. مثل تلك المجموعات ، عليها ان تعرض قضيتها وان تطالب بتغيير تلك السياسات ، استنادا الى الحقوق العامة لأعضائها ، كمواطنين ، ومنها مبدأ المساواة ، اي كونها صاحبة حق في الحصول على نصيب من الخدمات العامة ، يساوي ما يحصل عليه كل مواطن آخر.
يلزم هنا الاشارة الى ان فكرة ارتباط الحقوق بالمواطنة ، تنطوي على أبعاد عديدة مختلفة. وما ذكرناه في السطور السابقة مثال عن أحد الجوانب البسيطة.لكن لو أردنا الاشارة الى أحد الحقوق الكبرى (التي تؤثر أيضا على شريحة واسعة من الحقوق الاخرى) فسوف نذكر مثلا الحق في التصويت ، باعتباره أبرز الحقوق السياسية التي يمارسها الفرد تبعا لكونه مواطنا.
-        لماذا نصر على الحق المتساوي في التصويت: لكل مواطن صوت واحد له قيمة واحدة؟.
ان قيمة الصوت الذي يودع في صندوق الانتخاب ، من الناحية المادية والرمزية ،  تعتمد على التوزيع الاجمالي لحقوق التصويت في المجتمع السياسي. اذا كان هذا المجتمع سيتبنى مشروعا للتصويت التعددي ، كالذي نادى به جون ستيوارت ميل ، حيث يمنح المواطنون اعدادا مختلفة من الاصوات ، تتناسب مع قابليتهم لاتخاذ القرار في القضايا السياسية ، وهو امر يمكن اثباته بمستواهم الدراسي على سبيل المثال[17]. في حالة كهذه فان حيازة المواطن لصوت واحد سيجعله - من حيث المبدأ - عاجزا عن التأثير في المستوى السياسي ، لكن القضية الأهم في هذه القصة هي ان إقرار المجتمع السياسي لنظام كهذا ، يساوي اعلان المواطنين ذوي الصوت الواحد ، كمواطنين من الدرجة الثانية.
لا احد في هذا العصر يفكر في تقسيم المواطنين الى درجات وطبقات. لهذا السبب فان مشروع التصويت التعددي خرج تماما من دائرة النقاش ، ولم يعد احد ليقبله حتى كاحد الاحتمالات ، فضلا عن الدعوة اليه  أو تبنيه.  حين يكون اي شخص بالغا وحاملا لجنسية البلد ، فانه ، بمجرد حمله للجنسية ، اي اعتباره مواطنا ، سيحصل على شريحة من الحقوق الاساسية ، تساوي تلك التي يملكها كل عضو آخر في المجتمع السياسي. وأبرز تلك الحقوق ، وأكثرها وضوحا من حيث التعبير المادي عن المعاملة المتساوية ، هي التساوي في حقوق التصويت. وهذا يقودنا الى الاعتراض الثاني.
الاعتراض الثاني: العضوية قد لا تكون درجة واحدة
يتناول الاعتراض الثاني طبيعة الحق الذي اسميناه بالمساواة ، واعتبرناه أساسيا في كل جمع. حيث يثور هنا سؤال: اليست المساواة المطلوبة في الجماعة ، كما ناقشنا آنفا ، صنيعة لعرف الجماعة نفسها؟. لو عدنا الى قصة نادي الاسكواش (التنس) ، فهذا الاعتراض وارد. اذا كان النادي قد تأسس وفق نظام  أو لائحة ، تقر بأن كل عضو فيه يملك نفس الحقوق التي يملكها بقية الاعضاء ، عندئذ يتوجب ان يعاملوا جميعا على قدم المساواة ، سواء تعلق هذا الحق بتوزيع  صالات اللعب  أو في المشاركة في الادارة  أو غيرها.
لكن هذا قد لا يصلح كقاعدة عامة. قد يكون لدينا ناد آخر تأسس وفق نظام عضوية هرمي ، اي ان هناك أعضاء في مراتب أعلى وغيرهم في مراتب أدنى. عندئذ سيكون مقتضى العدالة هو التمايز في المعاملة ، بين الاعضاء الذي ينتمون الى درجات مختلفة. فوق هذا وذاك ، فان مبدأ العدالة بذاته ، لا يقرر اي نوع من النوادي يجب ان تنتتمي اليه.
لا نستطيع القول ان هذا الاعتراض خطأ أو غير وارد تماما. ربما يوجد اناس يعتبرونه صحيحا ومعقولا. لكنه – من ناحية ثانية – لا يستطيع الصمود في الاطار المذكور أعلاه. ليس من الحوادث العرضية  أو الصدف المحضة اننا نقيم جمعياتنا ومنظماتنا على ارضية المساواة. مثل هذه المنظمات والجمعيات تتمتع بقيمة واعتبار من نوع ما في نفوسنا. هذه القيمة ستضيع فيما لو اخترنا شكلا تراتبيا/هرميا للعضوية فيها. حين نشارك في هذه الجمعيات كأعضاء متساوين ، فان هذه المشاركة تمنحنا نوعا من الاعتراف الضروري للذات الحديثة. نحن لا ندعي هنا ان حاجة الانسان – بما هو انسان - لهذا الاعتراف ، وفي هذا الاطار خصوصا ، يمثل حقيقة كونية. ليس الامر كذلك. ولهذا قلنا في السطور السابقة ان فكرة النظام الهرمي ، رغم تهافت ارضيتها ، ليست خطأ بالكامل  أو غير واردة بشكل مطلق.
لكن بالنسبة لاشخاص مثلنا ، فان الاعتراف يجب ان يأخذ هذا الشكل ، اي الحقوق المتساوية والمعاملة المتساوية. ولهذا السبب نشدد على ان عضويتنا في اي نظام ، يجب ان تقام على قاعدة المساواة. ويكتسي هذا المبدأ اهمية اعظم حين يتعلق الأمر بالعضوية في أعلى تلك الانظمة قدرا وأهمية ، أعني به الدولة الوطنية. بعد ذلك نقول ان مبدأ العدالة يتطلب ان يعامل كافة الاعضاء في نظام واحد ، على قدم المساواة ، حين يتعلق الأمر بمنافع مكتسبة بحكم العضوية في الجماعة.
وكما قلت في موضع سابق ، فان هذه المحاججة ترتقي الى مستوى (المحاججة الايجابية) دفاعا عن قيمة المساواة. حين نقول بأن كل شخص يتمتع بحقوق سياسية متساوية ، فاننا لا نعني انه لا يوجد اختلاف بين هؤلاء الاشخاص ، اختلافا ربما يبرر تكليفات غير متساوية ، ولا نعني اننا غير واثقين في قدرتنا على ممارسة التمييز في معاملة الناس. نحن نقول بوجوب المعاملة المتساوية لكافة اعضاء الجماعة ، لأننا نجد انه من الامور القيمة والايجابية ان تترسخ قيمة  المساواة في هذه المنطقة.

(      الجزء الثالث      )

هذه اذن هي الحجج التي توضح – من زاويتين ، سلبية وايجابية – لماذا تقتضي العدالة ، في بعض الاحيان على الاقل ، توزيعا متساويا للموارد والحقوق.
سوف انتقل الآن الى نقطة أخرى مهمة أيضا وهي المساواة الاجتماعية. سوف اسعى لاستكشاف جوانب أكثر من هذه الفكرة ، التي سبق ان قلت انها قائمة بذاتها ومستقلة عن فكرة العدالة.

المساواة الاجتماعية

قد يظن بعضنا ان مجتمعا يقيم العدالة ، سيكون أيضا مجتمعا يقيم المساواة ، بالمعنى الثاني الذي نحن بصدده الآن ، أي المعنى الاجتماعي. لكن هذه مسألة تجريبية. تتوقف على توفير شواهد ، ولا تكفيها المجادلة النظرية ، حول امكانية الربط بين العنصرين (المساواة الاجتماعية والعدالة).
نستطيع توضيح النموذج المثالي للمساواة الاجتماعية بطرق عديدة. لكن أخشى أنه سيكون من الصعب تقديم تعريف جامع مانع. سبق ان أشرت الى ان الأمر يتعلق بكيفية تقدير الناس بعضهم بعضا ، والكيفية التي يعتمدونها في تسيير علاقاتهم الاجتماعية.
ليس ضروريا ان يكون الناس متساوين في القوة/السلطة ،  أو في الثروة والمكانة ، كما لا يقتضي الأمر ان يتساووا في المواهب الطبيعية كقوة الجسد  أو الذكاء. يمكن لهم ان يكونوا مختلفين في كل من هذه الجوانب ، وقادرين في الوقت نفسه على بناء علاقاتهم على اساس المساواة.
الجوهري في المسألة هو مدى تقديرهم لهذه الاختلافات. ثم ، وعلى نحو خاص ، مدى تاثير تلك الفوارق على العلاقة فيما بينهم ، ولاسيما اتخاذها اساسا لبناء نظام اجتماعي طبقي متصلب ، يجعل الشخص ( أ ) اعلى من الشخص ( ب ) على الدوام ومن دون ان يسمح بالخيار المقابل ، اي ان يكون (ب) أعلى من (أ) في اي ظرف.
حينما تسود المساواة الاجتماعية ، يشعر الناس بان كل عضو في المجتمع يتمتع بمكانة وقدر ماثل لبقية مواطنيه ، قدر يتجاوز التصنيف القائم على ابعاد معينة تتسم بالتفاوت بين الاشخاص. ويعبر عن هذه التقدير والتجاوز في طريقة تعامل الناس مع بعضهم البعض. فهم – على سبيل المثال – يستعملون طرقا متماثلة في مخاطبة بعضهم (اطلق مايكل والزر على المجتمع المساواتي ، اسم "مجتمع السادة society of misters "[18]). في هذا المجتمع يحيي الناس بعضهم البعض بالمصافحة بالايدي وليس بالانحناء  أو الركوع ، يختارون اصدقاءهم بناء على الذائقة المشتركة والمصالح المشتركة ، وليس تبعا للمكانة الاجتماعية .. الخ.
اعتقد ان المساواة الاجتماعية ، كمثل أعلى وقيمة قائمة بذاتها ، راسخة في الضمير الاخلاقي للمجتمعات الانسانية المعاصرة ، على نحو أعمق بكثير مما يظهر في جدالاتهم السياسية. حينما يتراجع الناس عن المساواة ، كما يفعلون بين حين وآخر ، فانهم يعبرون عن موقف رافض لنمط محدد هو المساواة التوزيعية الشاملة. بهذا المعنى فانه يبدو ان الناس كثيرا ما يتصرفون بطريقة توحي وكأنهم يريدون ترسيخ التمايزات الطبقية. لكن هذا لا يوضح الصورة الكاملة. فهؤلاء الناس انفسهم ، لا يعتبرون هذه التمايزات والفواصل الطبقية ، مشروعة. ثمة دليل صغير على هذا المدعى ، يمكن العثور عليه حين تتأمل في الحمولة المعنوية لمصطلح التلطف والتواضع.
حين يعيش المرء في مجتمع منقسم طبقيا ، ثم يقدم تنازلات  أو يتحدث عن التواضع ، فانه – وفق تعريف د. صامويل جونسون – كمن يتخلى عن امتيازات الوجاهة تطوعا ، ليندمج بارادته ، وفي شروط متساوية ، مع من يعتبرون عادة ، أدنى منه في المكانة [19]. ان التنازل – في حالة كهذه - ليس مجرد مبادرة براغماتية ، بل تعبير مادي عن قناعات راسخة في داخل نفس الانسان. وهو – بهذا المعنى – من الفضائل. انه لأمر في غاية اللطف ان تغض الطرف عن فوارق بينك وبين الآخرين ، حين يكون لديك الحق في التمسك بها ، واستثمار ما يترتب عليها من منافع. 
ينبغي القول ان هذا من فضائل العصر الحديث. أما في عصر جين اوستن (1775-1817) فقد كانت فكرة التواضع من قبل اصحاب الامتيازات ، أمرا ملتبسا. لعل الذي قرأوا روايتها الشهيرة "كبرياء وهوى"  أو ربما شاهدوها على التلفزيون ، يتذكرون السيد المريع كولينز ، الذي كان دوره الرئيس هو الثناء على تلطف راعيته السيدة كاثرين بي برغ.  صورت اوستن هذا الرجل ، كولينز ، كشخص هزلي ومثير للشفقة في آن. ومع انها ارادت – كما يبدو - تقديم صورة ساخرة للرجل. الا انها قدمت في طيات روايتها شرحا وافيا للعالم الاخلاقي ، الذي كان ينظر – يومئذ - الى التواضع والتلطف ، باعتباره فضيلة استثنائية[20].
لم يعد الامر على هذا النحو في أيامنا هذه. التلطف والتواضع لم يعد فضيلة خاصة ، يستحق اصحابها الثناء والمدح ، كما كان يفعل كولينز لراعيته السيدة برغ. لم يعد ممكنا امتداح شخص رفيع المقام ، بانه لطيف  أو متواضع ، لأن المجتمعات ما عادت تولي تقديرا خاصا  أو حقوقا استثنائية  لحملة الالقاب ، كما كان الأمر في الماضي ، ولم يعد لهؤلاء ميزة  أو مكانة خاصة دون سائر الناس ، لمجرد انهم ورثوا هذا اللقب  أو ذاك. بل لم يعد التمسك بالامجاد العائلية القديمة ، وما ترتب عليها من نفوذ  أو حقوق ، امرا سائغا للأجيال الجديدة من أبناء تلك العائلات. ومن هنا فلم يعد اللقب اشارة الى مكانة متمايزة للشخص ، كي يتواضع لمن لا يملك لقبا  أو يعامله بلطف. بل لو ان شخصا وصف بهذا (أي قيل ان صاحب اللقب الفلاني قد تواضع للناس)، لعد نوعا من القدح فيه ، لكونه يشير الى ادعائه (قبل ذلك) حقا  أو مكانا ، لم يعد قائما  أو معترفا به.
أعتقد ان القبول المتزايد للمساواة الاجتماعية كقيمة ومثل أعلى ، يمكن ان يقاس على نحو اجمالي ، من خلال تتبع مفهوم التلطف والتواضع ، وعلى الأخص تحوله من فضيلة يشار اليها بالبنان الى خصلة معيبة ، يرمى صاحبها بالتفاخر والتعالي.
-        لكن لماذا نصر على ان ما نسميه "المساواة الاجتماعية" هي ، حقا ، نوع من أنواع المساواة؟
-         لماذا لا نطلق على النظام الاجتماعي الذي يهتم بها اسما جديدا ، مثل "مجتمع الأصدقاء المتقاربين"  أو أي شيء من هذا القبيل؟.
الواضح أن "المساواة الاجتماعية" شيء مختلف عن المساواة التوزيعية (مع أني سأقترح بعد قليل أن لها آثارًا توزيعية معينة). فهي لا تنطوي على التحويل المتساوي لنوع محدد من الميزات  أو المنافع ، من شخص الى شخص. بدلا من ذلك ، فان مفهوم "المساواة الاجتماعية" يصف نمطا حياتيا ، يؤمن الناس في إطاره ، ايمانا جادا  بأنهم سواء ، ويتعاملون فيما بينهم على هذا الأساس أيضا.
في مجتمع يتبنى هذا المفهوم ، يشكل الايمان بالمساواة ارضية مستقرة للرابطة التي تجمع أعضاء المجتمع. ومن هنا فان كافة التفاعلات والتعاملات فيما بينهم ، تنطلق من قناعة مسبقة بأن كل فرد فيهم كفء لكل فرد آخر ، وان هذه القناعة تتجاوز اي تمايز محتمل (في الانجاز الشخصي على سبيل المثال). قد يكون جون طبيبا أكفأ من بيتر ، الأمر الذي يدعوني لاختيار الذهاب الى جون حين اكون مريضا. لكن في اي حالة غير هذه ، فاني انظر الى جون وبيتر كاشخاص متكافئين ، وأعاملهم على هذا الأساس. أنا لا أتبنى أي معاملة تفضيلية مع جون ، احجبها عن بيتر ، الا في موقع واحد ، هو مجال تخصصه ، حيث يتفوق بخبرته على بيتر وغيره. وفي هذه الحالة فاني اذهب الى جون - الخبير وليس جون - الشخص.

لماذا المساواة الاجتماعية قيمة؟

قد لا يقاوم الكاتب اغراء الحديث عن الفضائل الاخلاقية ، وما تلقيه على الحياة من جمال. قد يأتي هذا في سياق الاجابة على سؤال مثل: "لماذا نعتبر المساواة الاجتماعية امرا ذا قيمة؟". حين نواجه هذا السؤال نستذكر ان قيمة المساواة مستمدة من مثل عليا يتفق عليها الجميع ، مثل صون كرامة الإنسان والاحترام الواجب لكل شخص ، وان المجتمع الذي يتسم بالمساواة ، سيحقق درجات من هذه المثل اعلى بالتأكيد مما يحققه مجتمع مقسم على اساس طبقي.
رغم الاخذ بعين الاعتبار هذه المبررات ، ثمة شكوك تراودني حول فاعلية هذه الاستراتيجية ، في اثبات النظرية التي أريد شرحها. سبب الشك هو ان كلا من الشكلين الاجتماعيين اللذين اخذناهما بنظر الاعتبار ، يحمل مفرداته الاخلاقية الخاصة. بعض المصطلحات ، مثل التلطف/التواضع ، التي استعرضناها للتو ، تحول ايحاؤها الداخلي من الترحيب الى التنديد.  مصطلحات أخرى تحول معناها ، مع بقاء قيمتها على ما كانت: هذا هو حال مصطلح الكرامة والاحترام/التقدير على سبيل المثال. كل من هذين المصطلحين يولد معنى حين يستعمل في اطار النظام القيمي للمجتمع الطبقي ، ويولد معنى مختلفا في اطار النظام القيمي للمجتمع المساواتي.
في المجتمع الطبقي / الهرمي ، ينال الفرد الاحترام إذا التزم بالواجبات المناطة بالاشخاص الذين في مثل موقعه  أو مكانته. اما مصطلح الكرامة فالمعنى المتولد منه في المجتمع الطبقي ، أقرب الى مفهوم الوقار  أو الاتزان. ويراد به هنا ان يكون طابعا عاما لسلوك الافراد ، متناسبا مع مكانتهم في النظام الاجتماعي. واريد الاشارة في هذا السياق الى  المعالجة الباهرة التي عرضها كازيو ايشيغورو[21] ، في روايته "بقايا اليوم" ، حين قدم مقارنة ذكية بين المعنى المتولد من مصطلح الكرامة ، في المجتمع الارستقراطي ونظيره الديمقراطي.
ما أردت ايضاحه هو أننا لا نملك مصطلحا محايدا ، يمكن اعتماده في المقارنة بين شكلي الحياة المذكورين. ما نستطيع قوله هو ان البديل الاول ، ا ي النظام الطبقي/الهرمي ما عاد يمثل احتمالا حقيقيا بالنسبة لنا. ان العودة اليه تتطلب جرعة هائلة من الوعي الزائف ، كي يشكل أرضية تقوم عليها منظومة المعتقدات والسلوكيات الضرورية لبنية هذا النظام. ان المجتمع الطبقي/الهرمي ليس خيارا لنا ، ولا يمثل احتمالا جديا. اذا كان ما نتطلع اليه هو نظام اجتماعي يضمن للناس الكرامة والاحترام  ، فينبغي ان يكون من نوع الاحترام والكرامة التي تتوفر في إطار "المساواة الاجتماعية".
وعلى نفس النسق ، يمكن المجادلة بأنه لو أردنا أن يحظى مجتمعنا بقدر من التضامن الداخلي ، فإن الاطار الذي يجعل الامر ممكنا وعمليا ، هو أن يرتبط الناس ببعضهم على نحو افقي ، باعتبارهم متساوين في المكانة والقيمة. هذه بطبيعة الحال حجج نرى انها تدعم المساواة الاجتماعية ، رغم ان كلا منها مشروط بغيره ، وليست صلبة ومتماسكة بحد ذاتها. لكنها على أي حال الحجج التي استطيع عرضها الآن.

تطبيق مبدأ "المساواة الاجتماعية" في الحياة العامة

"المساواة الاجتماعية" ليست توزيعية في جوهرها. مع ان بعض تطبيقاتها له انعكاسات وآثار توزيعية.
كي نحقق هذا المثال في حياتنا الاجتماعية ، يجب:
 أولا : اعتماد المساواة كأرضية للنظام الاجتماعي. هذا ما يجب ان يحدث على وجه التأكيد ، في المجتمع السياسي الذي نحن جميعا أعضاء فيه. للنظام السياسي اهمية خاصة وأولوية على غيره ، لأنه السلطة النهائية المسؤولة عن وضع نظم التسيير وقواعد العمل ، التي تؤثر على كافة الممارسات والتبادلات التي تنطوي على "توزيع".
كي يكون مبدأ المساواة معيارا حاكما ، على توزيع السلع والفرص وبقية الخيرات المتاحة في المجال العام ، فان الهيئة المسؤولة عن تنظيمه وادارته ، يجب ان تبنى على أرضية المساواة أيضا. بناء المجتمع السياسي على مبدأ المساواة يعني ان يكون جميع اعضائه متساوين متكافئين ، باعتبارهم مواطنين وحسب. ما لم نتمتع بمكانة متساوية كمواطنين ، فلن يكون لدينا مكانة متساوية في الحياة الاجتماعية في إطارها الواسع. هذا ادعاء يتوقف اثباته على برهان تجريبي ، لا أملكه الآن. لكنه يبدو واضحا بما يغني عن اي بيان  أو دليل.
ثانيا:   تبني مبدأ المساواة الاجتماعية ، ربما يساعد على تعزيز المضمون المساواتي في عدد من تطبيقات العدالة التوزيعية ، التي ليست – في ذاتها - مساواتية.
دعني أشرح هذه الفكرة كي نتفادى الالتباس: في كثير من الحالات يتركز اهتمامنا بالعدالة على تقييد الممارسات ، بحيث لا تخرج عن المعايير الخاصة بالعدالة. لكن اهتمامنا لا يمتد غالبا الى تحديد كيفية الممارسة وشكلها.  سأقدم هنا مثالين ، يتضمن كل منهما تطبيقا لمعيار العدالة المرتبطة بالاستحقاق. في هذين المثالين يظهر ان العرف العام يتقبل التمايز في مكافأة العاملين ، حين تكون أعمالهم مختلفة ،   أو يكون أداؤهم متمايزا. لكن العرف الذي يعتبر التمايز في المكافأة معقولا وعادلا ، لا يحدد مقدار الفارق بين الأعلى والأدنى ، ولا يحدد آلية معيارية للربط بين تمايز الاداء واختلاف المكافأة. الأمر الذي يفتح الباب أمام ممارسة ، تبدو – من حيث الشكل على الأقل – عادلة ، لكنها تنطوي على إفراط في استعمال الحق.
 المثال الأول: يتقبل العرف فكرة ان الأشخاص الذين يتولون وظائف تنطوي على مسؤوليات جسيمة ، ينبغي ان يحصلوا على مكافأة اكثر من غيرهم ، الذين لا يتحملون مسؤوليات مماثلة ضمن وظائفهم. لكن ما هو الفارق المعقول   أو العادل؟. هل ينبغي ان نأخذ نسبة ثلاثة الى واحد مثلا ،   أو عشرة الى واحد؟. واذا اعتبرنا هذا عادلا ، فكيف نحدد على نحو دقيق تلك الشريحة من المسؤوليات التي تستدعي تمايزا في الاجر ، ومعيار التمايز صعودا   أو هبوطا ، فهل نحددها مثلا بالرجوع الى بيئة العمل ام غيرها؟.
ان مباديء العدالة لا تعطينا اجوبة تامة لهذه الاسئلة. ربما نعرف من هذه المباديء ، ضرورة الاتساق والاستمرارية في التعامل مع اولئك الذين يتولون وظائف تنطوي على مسؤوليات ، لكنها لا تحدد على نحو دقيق ، ما هو التعامل الذي يستحقونه.
 المثال الثاني: في سياق مماثل ، ثمة حالات تستدعي سؤال العدالة ، لكنها ستكون عرضية ومشروطة بغيرها ، وليست مستقلة   أو قابلة لأن تنطوي تحت قاعدة قابلة للتحدي المسبق. كمثال على هذا النوع من الحالات ، سنقول انه ليس من متطلبات العدالة ان تضع جامعة اكسفورد مثلا ، جائزة لأفضل قصيدة انكليزية على التفعيلة السداسية اللاتينية. لكن لو حدث وأنشئت مثل هذه الجائزة ، فانه سيكون من غير الانصاف ان لا تسلم الجائزة بالكامل (نفترض انها تتضمن مبلغا من المال مثلا) الى الفائز بها ، كما انه لن يكون من الانصاف ان يمنع النساء من الاشتراك في المسابقة مثلا.  
ما علاقة هذا بالمساواة الاجتماعية؟
إذا كنا نستهدف تحويل مجتمعنا الى مجتمع مساواتي ، فسوف نبدأ بالتأكيد باعادة صياغة التبادلات والممارسات التي طبيعتها توزيعية ، على نحو يثبط الظهور المحتمل للتقسيمات الهرمية/الطبقية ، ويعزز المساواة التامة بين المستفيدين. من المهم على وجه الخصوص ، وضع حلول تقلص احتمال استئثار افراد ، أو شرائح محددة بنطاق واسع من الامتيازات ، لأن تراكمها يؤدي الى استمرار حالة التمايز ، ويجعل من العسير على الناس ان يعيشوا معا في ظل شروط متساوية ، حتى لو كانوا – على المستوى النظري والقانوني – متساوين.
يهمني التشديد على هذه النقطة. لانها تشير – في رأيي - الى الوضع القائم في الديمقراطيات الليبرالية ، حيث يعترف القانون والمؤسسات الدستوية لجميع المواطنين بحقوق متساوية ، باعتبارهم مواطنين فحسب. وهذا إقرار في غاية الأهمية بطبيعة الحال. لكن لا ينبغي غض الطرف عن واقع التمايز واللامساواة القائمة الى جواره ، التمايز في التعليم ، في القدرة التنظيمية ، وفي الدخل. من المهم النظر في هذه التمايزات. لان استمرارها يعني ان تلك المجتمعات لاتزال – فعليا – منقسمة على اساس طبقي ، رغم اقرار القانون بالمساواة للجميع[22].  
لقد جادلت في مكان آخر بأن الجواب الأكثر تفاؤلاً على هذا الوضع ، سنجده في فكرة "المساواة المركبة". فحوى هذه الفكرة باختصار شديد ، أنه إذا استطعنا الحفاظ على العديد من مجالات التوزيع المستقلة ، وإذا كان معظم الناس يحصلون على نسبة عالية من مراداتهم في عدد من تلك المجالات ، عندئذ يمكننا تحقيق المساواة الاجتماعية ، من دون الحاجة الى فرض  نظام مساواة توزيعية بسيط ، يغطي كافة جوانب المجتمع الوطني. خاصة مع معرفتنا بان فرض نظام بسيط للمساواة التوزيعية ، سيكون غير عادل من جهة ، وغير قابل للتطبيق من جهة أخرى[23].
لكن كجزء من هذه الاستراتيجية ، يمكن لنا ان نبدأ باصلاح الممارسات التي بقيت في الظل ، ولم تجر معالجتها في إطار مباديء العدالة. من ذلك على سبيل المثال: انه في ظل اقتصاد السوق ، ستكون رواتب ومكافآت العاملين في منشأة واحدة ، متفاوتة بشكل ملحوظ. هذا امر لا يمكن اتقاؤه ، وهو يعتبر – الى حد بعيد – ممارسة منصفة.
لكني لا أرى سببا ، يمكن نسبته الى الضرورات الاقتصادية ، أو إلى مباديء الانصاف ، يبرر هذا التفاوت الكبير في انظمة الأجور ، الذي نعرفه اليوم في غالب النظم الرأسمالية.  هذه إذن فرصة متاحة لصياغة مفهوم الأجر المنصف  أو الانصاف في توزيع الاجور ، على نحو يتناسب مع مبدأ المساواة الاجتماعية ، أو يساعد على تعزيزها.
 نعلم ان الرأي العام يميل بالفعل الى هذه الوجهة. معظم الناس يعتقدون ان الفجوة في الاجور ، بين شاغلي الدرجات الوظيفية المختلفة ، كبيرة جدا وغير عادلة[24]. وبالنسبة لمن يؤمن بقابلية العرف العام لاصدار حكم عقلائي ، فان الاعتقاد المشار اليه يستحق الاهتمام (من حيث انه يقدم تقييما واقعيا لواحد من تطبيقات العدالة).  والذي اقترحه في هذا المجال ، هو انه لن يكون من الصعب اقناع عامة الناس ، باننا لا نجاوز الانصاف لو قبلنا بمنح مدير شركة كبرى ، راتبا لا يجاوز – دعنا نقول مثلا - ثلاثة أضعاف  أو أربعة أضعاف الراتب الذي يحصل عليه – مثلا - عامل غير مؤهل ، بالنظر الى الفوارق النسبية بين الاثنين في القدرة على الأداء ومستوى التأثير.
علاوة على ذلك ، عندما يكون متاحا لنا ان نختار بين الممارسات التي يجب إنشاؤها  أو الحفاظ عليها ، فان بوسعنا – حينئذ – ان نجعل اعتبارات المساواة الاجتماعية ، مرشدا ودليلا لخياراتنا. لنفترض أننا نحاول التوصل الى قرار لانشاء نظام لتكريم المتميزين من ابناء المجتمع ، الذين قدموا انجازات مشهودة. بعض الناس ربما يقترح توجيه التكريم الى رجال الأعمال الأثرياء ، الذين يقدمون تبرعات ضخمة للأحزاب السياسية. قد يحظى هذا الدعم بترحيب كثير من الناس ، لاسيما اعضاء الاحزاب التي تحصل على الدعم. لكنه من ناحية ثانية ، يجسد بوضوح ما نعتبره الطرف المعاكس لمبدأ "المساواة المركبة" ، وهو ما أسماه مايكل والزر بالتحكم  أو السيطرة [25].
تحرزا من هذا التقييم ، سيقترح أناس آخرون معيارا للتقييم مخالفا تماما. سيقترحون مثلا انتقاء أشخاص من عامة الجمهور ، لمجرد انهم تخلوا عن جانب كبير من وقت فراغهم ، كي يؤدوا اعمالا تطوعية تخدم الآخرين.
لا يمكن اعتبار اي من الخيارين اكثر عدلا من الآخر ، لسبب بسيط ، وهو ان كلا منهما يقيم اعتبارا لقيمة مختلفة عن نظيره. من هنا فان لكل خيار قيمة في ذاته. لكن تفضيل احدهما على الآخر يرجع لمعايير اخرى. ونستطيع القول ان مبدأ "المساواة الاجتماعية" يعطينا سببا واضحا لترجيح الخيار الثاني.
اعتقد ان فلاسفة السياسة لم يفعلوا خيرا لقضية العدالة ولا اختها المساواة ، يوم طرحوهما كمنظومة واحدة ، تحت عنوان "العدالة المساواتية egalitarian justice". لم يكن هذا أمرا طيبا. نحن نحتاج بدلا من هذا ، الى التفكير في نوعين من المساواة ، متمايزين: النوع الاول هو المساواة في التوزيع ، وهي في بعض الحالات (وليس جميع الحالات) من متطلبات العدالة. اما النوع الثاني وهو متمايز بوضوح ، فهو المساواة في المكانة ،  أو المساواة الاجتماعية. هذا ايضا له مضمون توزيعي / تطبيقات توزيعية ، لكنها ليست في الغالب مباشرة ولا قائمة بذاتها ، بل مشروطة بالدعاوى السوسيولوجية ، حول الطريقة التي تتحول بها الفوارق في الدخل  أو التعليم ، الى تمايزات في الطبقة الاجتماعية.  لقد زعمت هنا انه يمكن للمساواة أن تعطي شكلا محددا يتجسد من خلاله مبدأ العدالة ، حيثما بقيت قيمة العدالة نفسها صامتة. بعبارة اخرى فان المساواة هي التطبيق الخارجي لفكرة العدالة المجردة.
من المقدر ان نوعي المساواة سيدخلان في تعارض. لكن هذا ليس جزء من من القضية التي أجادل دونها هنا. بل انني أميل الى مسار مختلف في التفكير ، حيث أرى  ان المواطنة المتساوية والحقوق الراسخة المرتبطة بها توفر نقطة بداية حيوية ، يمكن ان ننطلق منها لارساء مساواة اجتماعية أعمق وأوسع نطاقا.
لكن يجب القول على أي حال ، ان نوعي المساواة اللذين نتحدث عنهما ، مختلفان. كل منهما يستمد مبرراته من مسار فكري وتقليد سياسي خاص: المساواة التوزيعية تستمد مبرراتها من التراث الليبرالي بفكره وتقاليد عمله ، بينما المساواة الاجتماعية تستمد مبرراتها من الاشتراكية والديمقراطية الاجتماعية[26].
ونتوقع من كل مدافع عن مبدأ المساواة ، أن يكون منفتحا على النقد من جانب معارضي الفكرة وناقديها. لا نتوقع ان يتوقف النقاش حول الموضوع. ولذا فقد يكون ضروريا ان يبدا كل باحث نقاشه بايضاح نوع المساواة الذي يتناوله ، ناقدا كان  أو مدافعا.

 

 

§[1] حول الكاتب

ديفيد ميلر مفكر سياسي بارز وأستاذ للنظرية السياسية بجامعة أكسفورد. ولد في 1946. تدور اهتماماته العلمية حول العدالة الاجتماعية ، المواطنة والهوية الوطنية. وعرف بميله لشكل مخفف من القومية المدنية civic nationalism. وتعرف ايضا بالقومية الليبرالية
القومية المدنية هوية سياسية مبنية على المواطنة المشتركة داخل الدولة. الرابطة التي تربط المواطنين ليست لغة او ثقافة ، بل مؤسسة سياسية قائمة على المساواة بين جميع من يلتزم بالنظام العام.
دعاة القومية المدنية ملتزمون بقيم الليبرالية الكبرى ، لا سيما الحرية والتسامح والمساواة والحقوق الفردية. لكنهم يتمايزون عن سائر الليبراليين بميولهم الجماعية ، فهم يؤكدون على قيمة الهوية الوطنية للافراد، ويعتبرونها ضرورة لجعل حياتهم ذات معنى. وعلى مستوى الدولة فان الهوية الوطنية الصريحة تسهم في تمكين الديمقراطية وتيسير عملها.
اهتمام ميلر بالقومية قاده الى تصور نسخ محلية لمفهوم العدالة ، وهو من جوانب اختلافه مع نظرية العدالة عند جون رولز وروبرت نوزيك. وهو يقول في هذا الصدد ان "لاي مجتمع سياسي واجبات أخلاقية تجاه أعضائه ، مختلفة عن واجباته تجاه رعايا الدول الأخرى ، وهي غالبا اكبر".
مما يميز نظرية ميلر حول العدالة ، منحه اهمية لما يصفه ب "المساواة الاجتماعية" تفوق "المساواة التوزيعية" التي تشكل صلب نظريات العدالة الاكثر شهرة. وتقدم المقالة الحاضرة مقاربة عميقة للفكرة ، رغم انها – مثل سائر اعمال ميلر – لا تتوسع في محاججة البدائل ، قدر تركيزها على توضيح الاساس النظري للفكرة ذاتها.





1  قدمت هذه الورقة  اولا في مؤتمر حول "المساواة" عقد في جامعة ريدينغ (27 ابريل 1996). اني مدين لحضور الاجتماع لتعليقاتهم. كما اني مدين ل توني اتكينسون ، اندرو ماسون ، واندرو ويليامس لاقتراحاتهم التي كانت عونا في مراجعتها قبل النشر. نشرت المقالة في:
Ratio (an International Journal of Analytic Philosophy) (Dec. 1997) pp. 222-237 https://onlinelibrary.wiley.com/doi/abs/10.1111/1467-9329.00042
2David Miller, ‘Equality’ in G.M.K. Hunt (ed.), Philosophy and Politics(Cambridge: Cambridge University Press, 1990)
[3]   See for instance: Amartya Sen, ‘On the Status of Equality’, Political Theory, Vol. 24, No. 3 (Aug., 1996), pp. 394-400. https://www.jstor.org/stable/191919
[4] R. Dworkin, ‘What is Equality? Part 3: The Place of Liberty’, Iowa Law Review, 73 (1987–8), p. 6.
[5]  استعرت هذا الوصف من شارلز تايلور:
  Charles Taylor, ‘The Politics of Recognition’, Philosophical Arguments, (Cambridge, MA: Harvard University Press, 1995), p. 254.
لبعض التوضيحات حول تيار النيتشوية الجديدة ، انظر
Austin Harrington, Barbara L. Marshall, Hans-Peter Muller  (eds.),  Encyclopedia of Social Theory, (Routledge 2006), p. 397
[6] قصدي ان فئتي الفلاسفة والمناضلين هما الاكثر ايمانا بأن مبدأ المساواة ، مع تفسيره بصورة مناسبة ، يمكن ان يجيب على جميع اسئلتنا المتعلقة بالعدالة التوزيعية. اما الغالبية العظمى من الناس ، اي غالب الذين لا ينتمون الى هاتين الفئتين ، فالمرجح انهم سيتبنون أنواعا محددة من المساواة ، مثل تكافؤ الفرص ، أو المساواة السياسية ، دون جعل المساواة ككل هدفا رئيسيا او معيارا اخلاقيا للمشروعات السياسية.
[7] حول مفهوم الاستحقاق وصلته بالتوزيع ، انظر
 Peter Celello, Desert’, in The Internet Encyclopedia of Philosophy (IEP) Retrieved: Oct., 3, 2019. http://iep.utm.edu/desert/
[8] For a view of this kind, see C. Ake, ‘Justice as Equality’, Philosophy and Public Affairs, 5 (1975), 69–89
[9] Parfit says in a similar vein that in such cases ‘equality is the default: what we should aim for when we cannot justify distributing unequally’. D. Parfit, ‘Equality or Priority?’, (Lindley Lecture, University of Kansas, 1991), p. 15
[10]  طبقا لما ورد في الانجيل : " 17 ففعل بنو اسرائيل هكذا والتقطوا بين مكثر ومقلل18 ولما كالوا بالعمر لم يفضل المكثر والمقلل لم ينقص. كانوا قد التقطوا كل واحد على حسب اكله. "الانجيل ، سفر الخروج ، الاصحاح 16 ، الايات 17-18 18.
 [11] لا أرمي من وراء هذا القول الى انكار  ان لكل شخص في هذا العالم حق اساسي في الموارد الكافية الضرورية للعيش. لكني لا اعتبر المساواة بين تلك الموارد. وقد عالجت مبررات التمييز بين الاثنين ، ودللت على موقفي  المعارض لفكرة المساواتية الكونية في:
 David Miller: ‘Justice and Global Inequality’ in A. Hurrell and N. Woods (eds.), Inequality, Globalization, and World Politics, Oxford University Press 1999.
[12]  هذه ليست الطريقة الوحيدة لاحتساب الظلم في التوزيع. لكني اعتقد ان حجتي سوف تنطبق على كافة القياسات المعقولة ، مثل تلك التي تركز في حساباتها على مقادير العجز ومقادير الفائض ، وكذلك تلك التي تعطي قيمة مضاعفة لحالات العجز الاكبر دون الحالات الاصغر.
 [13] آمل ان اتمكن من تقديم دليل كامل على هذه النتيجة في ورقة أخرى. لكن حتى في هذه الصورة الاولية ، فان تبدو يمكن ايضاح جدوى المعادلة على النحو التالي: أفترض أننا بدأنا بتوزيع متساوٍ للمنتجات ، بحيث يحصل كل من  A ، B ، C ، D ، E على 5 وحدات.
دعنا الآن نذهب في اتجاه اللامساواة: انقل A إلى 5 + X و B إلى 5 −X. هل سيقود لزيادة الظلم أم تقلصه؟ بالنسبة لبعض الثنائيات ، سيؤدي هذا التغيير الى تقليص الظلم الواقع على احد الاعضاء. لكنه سيكون اشد وبالا على غيره ، بينما لن يكون ذا أثر على عضو ثالث.
يتضح اذن ان كل حالة شهدت تقليصا لمقدار الظلم ، قابلتها حالة معاكسة زاد فيها الظلم. وذلك ببساطة عن طريق عكس مساهمات A و B ، وتبعا لفرضية F أو أي مجموعة من المساهمات تتضمن A9 و B6 ، مثلا ، هناك احتمال مماثل يشمل A6 ، B9.
وفي الوقت ذاته ، لو أمكن ادراج مساهمة A و B في نطاق 5 −X إلى 5 + X ، فإن تأثير الابتعاد عن خط التساوي سيظهر على شكل غلبة الحالات التي يزداد فيها الظلم ، مع ندرة في الحالات التي تشهد تحسنا في المقابل. من هنا نستنتج ان ثمرة الخروج عن خط المساواة ستكون زيادة في الظلم المتوقع. والخطوة التالية هي تعميم هذه النتيجة ، كي تغطي حالات من الابتعاد عن خط التساوي ، أكثر تعقيدًا من المثال الحاضر.
[14] حول مفهوم "الاستحقاق" وعلاقته بالجدل حول المساواة ، انظر جون رولز: العدالة كانصاف ، اعادة صياغة ، ترجمة حيدر حاج اسماعيل ، المنظمة العربية للترجمة (بيروت 2009) ص 194
[15]  For a brief on Pareto Superiority, see:  ‘Pareto efficiency’, Wikipedia, https://en.wikipedia.org/wiki/Pareto_efficiency
[16]  لا اعني انه يتوجب على الحكومة ان تكون مزودا مباشرا لهذه السلع ، القصد ان عليها مسؤولية ، على الاقل في وضع الاطار القانوني المناسب ، لكي يقوم الموردون من الاهالي بهذه المهمة.
[17] للاطلاع على مناقشة تفصيلية لرؤية ستيوارت ميل ، انظر:
European Journal of Political Theory, vol. 17, 1: pp. 65-86. Jun 2015.

[18] M. Walzer, Spheres of Justice(Oxford: Martin Robertson, 1983, p. 256
[19] John Simpson & Edmund Weiner (eds.), Oxford English Dictionary, 2nd ed. (Oxford: Clarendon Press, 1989) vol III, p. 681
[20] لبعض المعلومات عن اعمال اوستن ، انظر صوفيا غلير: "ست حقائق مدهشة من حياة الروائية البريطانية جين أوستن" ، موقع بي بي سي 25 يوليو 2017. http://www.bbc.com/arabic/vert-cul-40711121
[21] سير كازيو ايشيغورو روائي بريطاني من اصل ياباني ، حصل على جائزة نوبل للاداب 2017. للمزيد حوله ،  وحول اعماله الروائية ، انظر  هالة صلاح الدين ، جريدة العرب (لندن 06-10-2017) https://i.alarab.co.uk/pdf/2017/10/06-10/p1000.pdf#page=14
[22]   أشرت في مقالة أخرى الى ان الرابط السببي بين اللامساواة في التوزيع المادي واللامساواة الاجتماعية ، ليس بسيطا: حيث ان العوامل الثقافية تلعب دور الوسيط بين الاثنين. وهي عوامل متباينة – كما نعلم – بين مجتمع وآخر. راجع:
D. Miller, ‘Arguments for Equality’ in P.A. French, T.E. Uehling & H.K. Wettstein (eds.), Midwest Studies in Philosophy, VII: Social and Political Philosophy (Minneapolis: Uni. of Minnesota Press, 1982) pp. 84–5.
[23] D. Miller, ‘Complex Equality’ in D. Miller and M. Walzer (eds.), Pluralism, Justice and Equality(Oxford: Clarendon Press, 1995).
[24] I have looked at the evidence in ‘Distributive Justice: What the People Think’, Ethics, 102 (1991–2), 555–93 and in ‘Popular Conceptions of Social Justice: A Comparative Approach’ in S. Svallfors (ed.), In the Eye of the Beholder (Umea: Bank Of Sweden, 1995).
[25] Walzer, Spheres of Justice, ch. 1.
[26] I have explored the way in which writers in the social-democratic tradition such as Tawney and Crosland understood equality in ‘Equality and Market Socialism’ in P.K. Bardhan and J. Roemer (eds.) Market Socialism: the Current Debate (New York: Oxford University Press, 1993)





مقالات ذات صلة
فكرة المساواة: برنارد وليامز
المساواة والعدالة : ديفيد ميلر
من دولة الغلبة الى مجتمع المواطنة: مقاربة دينية لمبدأ العقد الاجتماعي

ثقافة المجتمع.. كيف تحفز النمو الاقتصادي او تعيقه

  ورقة نقاش في الاجتماع السنوي 42 لمنتدى التنمية الخليجي ، الرياض 2 فبراير 2024 توفيق السيف يدور النقاش في هذه الورقة حول سؤال : هل ساهمت ...