‏إظهار الرسائل ذات التسميات اندريه لالاند. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات اندريه لالاند. إظهار كافة الرسائل

26/12/2024

من تقليد الى تقليد ، عقل معماري وعقل هدام

 قلت قبل أسبوعين أن "العقل العملي" يهتم في المقام الأول بتمهيد العلاقة بين الفرد ومحيطه الاجتماعي. وضربت مثالا باختيار نوع الملابس واللغة وطريقة الكلام ، وبقية العادات التي تجعل الفرد شبيها بمن بالآخرين في محيطه. وبهذا المعنى فالعقل لا يبدع شيئا ، بل يعيد انتاج الثقافة الموروثة ، وما يستند اليها من أعراف وعادات وطرائق عيش.

لا بأس هنا باستدراك أظنه ضروريا كي لا يظن قاريء ان عقلا كهذا لا نفع فيه: فالجانب الأعظم من حياة الانسان ، مؤلف من تفاعلات مادية او فكرية مع الناس والطبيعة. وهو في كلا الحالين محتاج الى تقبل الاخرين لشخصه وتصرفاته. وفي هذه العملية يلعب العقل العملي دورا مؤثرا ، فهو يصمم الطرق المناسبة للتعامل مع الغير على نحو يحقق الهدف المنشود. ان افتقار الانسان للعقل العملي ، يماثل تماما افتقار المسافر لوسيلة السفر التي تحمله الى مقصده. بهذا المعنى فان العقل العملي هو أداة العيش ، وهو ضرورة للعيش ، ولولاه ربما بات الانسان غريبا منفردا ، او دائم الهروب مثل حيوان متوحش.

أما وقد وصلنا الى هذه النقطة ، فقد حان الوقت لبيان ان هذا المعنى على وجه التحديد ، هو الذي يوجب على الانسان ان يكون متواضعا ، اذا خالفه الآخرون في فكرة أو رأي أو مذهب. الأفكار التي نحملها أنا وأنت وغيرنا من الناس ، تنتمي في الأعم الأغلب الى توافقات اجتماعية ، أخذنا بها لأننا نعيش في وسط جماعة ، فلم نبتكرها بأنفسنا ولا وضعناها على طاولة المقارنة مع الأنماط البديلة ، كي نختار ما هو أفضل. بل حتى لو اخترنا ما نظنه أفضل ، فما هو الميزان الذي نرجع اليه في تحديد القيم التي نلقيها على هذا الجانب او ذاك ، قبل ان نقارن بينهما... اليس هو ذات الميزان الذي تشكل في ذهني وذهنك تحت تأثير المحيط الاجتماعي؟.

منذ نعومة أظفاره ، يتشرب الفرد الثقافة السائدة والأعراف والعادات المستقرة ، والاخلاقيات المعيارية التي تتبناها الجماعة ، فيتشكل على ضوئها عقله وذاكرته ، أي الطريقة التي يفكر بها ويعيش ، والمعايير التي يرجع اليها في الحكم على الأشياء. وحتى حين ينتقل الفرد الى جماعة جديدة ، كأن يتحول من دين الى آخر ، او من مذهب الى آخر ، أو يهاجر من بلد إلى آخر ، فانه يعيد تشكيل ذهنه وذاكرته ، أي منظومته العقلية ، على ضوء الثقافة السائدة في بيئته الاجتماعية الجديدة ، أي انه – بعبارة أخرى – ينتقل من تقليد الى تقليد. هذا حالي وحالك وحال الأغلبية الساحقة من سكان هذا الكوكب.

أقول الأغلبية الساحقة وليس الجميع. لأن هذا الكوكب يحوي أيضا أقلية صغيرة من السكان ، يمثلون "العقل المنشيء" بحسب تعبير اندريه لالاند ، او العقل النظري بحسب التعريف الموروث من فلاسفة اليونان. واضح من اسمه انه عقل لا يلتزم بالتوافقات الاجتماعية ، بل ربما كان شغله هو نقض الأساس الفلسفي /المنطقي الذي تقوم عليه تلك التوافقات وما يتعلق بها من معايير وقواعد.

لا يتسع المجال لتفصيل القول عن العقل في هذا الدور. لكن يهمني الإشارة الى فارق هام بين تعريف لالاند وتعريفات من سبقه. فهؤلاء قرروا ان العقل "نظري" بمعنى انه منشغل بمعادلات ذهنية ، لا يترتب عليها أي عمل ولا ترتبط بقضايا الواقع ، ربطا مباشرا. اما لالاند فقال انه "منشيء" بمعنى انه يخلق الأفكار الجديدة من عدم ، او انه ينطلق من فكرة قائمة ، فيتجاوزها الى مسافات وراءها لم تكن موجودة قبلئذ ، أي انه يخلق المسافات والمساحات ويملأها بالسكان ، أي الأفكار.

على أي حال فان تلك الأفكار النظرية ، هي التي تشكل الأساس للتطبيقات وعلوم الواقع ، مثل الرياضيات التي على ارضها بني الكمبيوتر وتطبيقاته وحسابات السفر والاحصاء وامثالها. واظن ان الفكرة قد اتضحت بما يغني عن مزيد البيان.

الخميس - 24 جمادى الآخرة 1446 هـ - 26 ديسمبر 2024 م

https://aawsat.com/node/5095226

مقالات ذات صلة:

الانشغال بالعلم والانشغال بالجن

تعقيب على استاذنا البليهي

لماذا يرفضون دور العقل؟

اليد الخفية التي تدير العالم

اصلاح العقل الجمعي

مشكلة الثقافة الدولتية

الثقافة كصنعة حكومية

العقل المساير والعقل المتمرد

عقل الصبيان

 

 

 

 

 

 

 

12/12/2024

العقل العملي

 وفقا لشروحات اندريه لالاند ، التي تطرقنا لبعضها في الأسبوع الماضي ، فان "العقل المُنشأ" بضم الميم ، هو خلاصة الحكمة والتجربة الاجتماعية ، وهذا ما يسميه الناس عقلا. لفهم الفكرة ، تأمل في مغزى إشارات الناس حين يقولون "فلان عاقل" او يتحدثون عن "كلام عاقل" او "تصرف عقلاني" وأمثالها.

مغزى هذا الكلام ان الناس يشيرون الى رضاهم عن الشخص او فعله او قوله. لكن متى يرضى الناس عن شخص .. اليس حين يفعل شيئا يجاري فعلهم او يقول مثل كلامهم ، في محتواه او شكله ، او حين يلبس مثل لبسهم او يأكل مثل أكلهم.. الخ.

لتعرف الفرق .. افترض ان شخصا لبس بنطلون جينز ممزق ، كالذي يشيع لبسه بين الشباب اليوم ، وذهب لمقابلة وزير او مدير كبير ، فهل تتخيل ان الأشخاص المسؤولين عن إدخاله وترتيب مقابلته ، سيسمحون له بالدخول؟. لماذا لا يعتبرون الامر طبيعيا ، ويقولون ان اللباس لا يدل على صاحبه؟. الجواب ببساطة انهم سيعتبرونه غير عقلاني ، لأنه لا يلتزم بأعرافهم ، أي لا يشبههم. بل يبدو شاذا وغريبا. وربما يقولون انه "غير لائق". لماذا يا ترى اعتبروه غير لائق ، غير لائق بمن يلبسه او بهم ، او بالثقافة التي ينتمون اليها؟.

حسنا.. ماذا عنك؟.

لو كنت مدعوا للقاء شخصية رفيعة ، بل حتى لمقابلة وظيفية ، هل ستلبس الجينز الممزق ، ام ستختار اللباس المتعارف في البلد... ما الذي يدعوك لهذا الاختيار وليس ذاك؟.

مسايرة الجماعة هي ابرز وظائف "العقل العملي". والعقل العملي ابرز تجسيدات "العقل المُنشأ". وفقا لرؤية اندريه لالاند ، فان الجانب الأعظم من عمل العقل ، مكرس لترسيخ علاقة الفرد بالمحيط الاجتماعي ، وذلك باستلهام الثقافة والتجربة الاجتماعية ، وتحويلها الى قواعد سلوكية يتبعها الفرد بشكل عفوي. وعلى هذا الأساس يتحول الفرد الى "عضو" مندمج في البيئة الاجتماعية. ومن الامثلة على هذا الأشخاص الذين يهاجرون الى بلد اجنبي ، فيجتهدون في تعلم لغته ، وتقليد لهجة سكانه ، حتى يصبحوا مثلهم تماما ، لأن الانسان – بطبعه – لا يحب ان يفرز عن الجماعة ، او يعامل كشخص مختلف او غريب.

لعل الشرح السابق يجيب أيضا على السؤال المتداول: لماذا يلتزم قومنا بالطابور ونظام المرور ونظافة الحدائق ، حين يسافرون الى البلدان الأجنبية ، ولا يفعلون مثل ذلك حين يكونون في بلدهم. تتعلق المسألة بفهم توقعات الآخرين ، وتقديم الانسان نفسه لهم على نحو يتماشى مع تلك التوقعات.

لعلنا نلاحظ هذا المسار بوضوح في حالة المهاجرين الى مجتمعات أجنبية. لكنه يحصل – وان لم تلاحظه – في مجتمعك الخاص أيضا. أنا وأنت نعمل دون كلل لاقناع المجتمع المحيط بنا ، بأننا مؤهلون لعضويته ، كما نتجنب كل فعل يؤدي الى انفصالنا عنه او استبعادنا منه.

كرس اندريه لالاند معظم نقاشه عن "العقل المُنشأ" لتأكيد ان وظيفته المحورية ليست صناعة الأفكار الجديدة ، بل التواصل مع المحيط الاجتماعي بما فيه من بشر وأفكار وتوقعات. ينجز العقل هذه المهمة باستلهام الثقافة السائدة ، ثم إعادة انتاجها على نحو يتقبله المحيط كدليل على كفاءة صاحبه. تبدأ هذه الممارسة في وقت مبكر نسبيا ، لكنها تتصاعد عند نهايات مرحلة المراهقة وبداية الرجولة ، ولا سيما في سن العمل.

تفاعلات العقل في هذه المرحلة ، تسهم في انشاء ما نسميه "العرف العام" او "عرف العقلاء". ويشير مفهوم "العرف" الى المتوسط العام لمواقف الجمهور ، تجاه كل قضية من القضايا التي تبرز على مسرح الحياة اليومية. ولمن لا يعرف أهمية العرف ، فهو الوسيلة التي تفسر وفقها تطبيقات القانون العام واحكام الشريعة. ولتفسيراته – في غالب الأحيان – قوة القانون. وقد اتخذ في الثقافة الغربية أساسا لتحديد ما يعتبر حقا او باطلا.

هذا ببساطة هو "العقل المُنشأ" بضم الميم ، وهو يطابق – في رأيي – "العقل العملي" وفق التسمية القديمة.

الشرق الأوسط الخميس - 11 جمادى الآخرة 1446 هـ - 12 ديسمبر 2024 م

https://aawsat.com/node/5090798

مقالات ذات صلة:

الانشغال بالعلم والانشغال بالجن

تعقيب على استاذنا البليهي

لماذا يرفضون دور العقل؟

اليد الخفية التي تدير العالم

اصلاح العقل الجمعي

مشكلة الثقافة الدولتية

الثقافة كصنعة حكومية

العقل المساير والعقل المتمرد

عقل الصبيان

05/12/2024

عقل الصبيان

 

في هذه الكتابة شيء من العسر. وأرجو من الأصدقاء الأعزاء الذين تفضلوا بقراءتها ، ان يتحملوا قليلا ، وأعدهم بأنها ستحل إشكالية مهمة جدا ، وكثيرة التكرار في النقاشات المتعلقة بالعقلاني واللاعقلاني في المعتقدات والأفكار ، ولا سيما في مدى التزام الفرد بما هو سائد في المحيط الاجتماعي من قناعات وآراء.

وكما وعدت في مقالة الأسبوع الماضي ، فاني سأتعرض لرؤية الفيلسوف الفرنسي اندريه لالاند المتعلقة بوظيفة العقل. لكني سأطرقها من زاوية مختلفة نوعا ما.

أخذا بعين الاعتبار مختلف الآراء التي عالجت وظائف العقل ومكانته في التفكير والتشريع ، والتي عرضها مفكرون قدامى او معاصرون ، استطيع تحديد ثلاث وظائف محورية للعقل ، يظهر دور كل منها في مرحلة عمرية محددة ، بدرجة اكبر من الاخرى. وأعني بهذا مرحلة الصبا المبكر ، ومرحلة الاندماج الاجتماعي (بداية سن العمل) ثم مرحلة الاستقلال الذهني.

سنبدأ بمرحلة الشباب المبكر ، حين يكون الانسان متلقيا ومستهلكا لما يراه او يسمعه في المجتمع المحيط به. دعنا نفترض انه صبي في الثانية عشرة من العمر ، وقد أخبره استاذه بأن الضوء والظلام ربما يجتمعان في وقت واحد ، أو ربما يكون الشخص موجودا وغائبا في نفس المكان ، او انه ثمة من هو صغير وكبير في ذات اللحظة. فهل تظن ان الصبي سيتقبل الفكرة ويصدق مقالة استاذه؟.

ان أردت التحقق من المسألة ، فقلها لصبي في هذ العمر ، واختبر رد فعله. لقد جربتها بنفسي مع عدة اشخاص في هذا العمر او دونه ، فضحك بعضهم ظنا انني أسرد عليهم نكتة او لغزا. آخرون سكتوا واجمين بين مصدق ومكذب. المهم اني لم اجد من يصدق إمكانية اجتماع المتناقضات ، مكانيا او زمانيا أو موضوعيا. فمن الذي اخبر أولئك الصبيان باستحالة اجتماع النقيضين ، وكيف اكتشفوا ان ما نذكره هو فعلا نقائض وليس مجرد عناصر منفصلة عن بعضها.

تعرف الفلاسفة على هذه القصة منذ قديم الزمان. وفي العصور الحديثة ، كانت محط اهتمام العديد من الفلاسفة البارزين ، لا سيما مع بروز النزعة التجريبية ، التي تنفي أي علم او معرفة عقلية قبل التجربة. ايمانويل كانط مثلا ، قال مجادلا التجريبيين: حين تجري تجربة ، ستحتاج لمعرفة مسبقة بالعناصر الداخلة فيها ومعايير قياس سلامة الناتج ، فمن أين جاءت تلك المعرفة ، هل هي نتاج لتجربة سابقة؟. لكن تلك التجربة تحتاج أيضا الى معرفة سابقة ، وهكذا سوف ندور وندور في حلقة مفرغة بلا بداية. وسيظهر في نهاية المطاف ، انه لا محيص من القبول بفرضية ان العقل مجهز– قبل أي تجربة – ببعض أدوات التعقل الضرورية للقيام بأشياء عديدة ، ومنها الدخول في تجارب. هذه الأدوات هي ما نعرفه باسم العقل الفطري او العقل المحض او المعارف القبلية. وهي تتمظهر في صورة حدس او تخيل أو تأملات منطقية ، لا يعرف الانسان ، سيما في مراحل عمرية مبكرة ، مصدرها او ضوابطها ، لكنه يجدها في نفسه فيستعملها ويثق في دلالاتها. ومع مرور الزمن تنضج هذه الأدوات وتتحول الى ما نسميه بالعقل العملي ، وهو مرحلة اعلى من عمل العقل ، يبرز دورها خصوصا مع تقدم الصبي الى مرحلة الشباب ، ولاسيما حين يحتاج لتقديم نفسه الى بقية اعضاء المجتمع. وهذا ما سنتحدث عنه في الأسبوع القادم ان شاء الله.

زبدة القول ان العقل في مرحلة الصبا ليس عقلا منتجا للافكار ، لكنه قادر على فهم الأشياء ، وتمييز ما هو ممتنع عقلا عما هو ممكن ، نظير ما ذكرناه عن المتناقضات.  هذه القابلية تسمح لنا بالقول ان الانسان لا يولد جاهلا ، بمعنى ان الجهل ليس هو الأصل في الانسان ، كما يظهر من كلام استاذنا إبراهيم البليهي.

مقالات ذات صلة:

الانشغال بالعلم والانشغال بالجن

تعقيب على استاذنا البليهي

لماذا يرفضون دور العقل؟

اليد الخفية التي تدير العالم

اصلاح العقل الجمعي

مشكلة الثقافة الدولتية

الثقافة كصنعة حكومية

العقل المساير والعقل المتمرد

 

الشرق الأوسط الخميس - 04 جمادى الآخرة 1446 هـ - 5 ديسمبر 2024 م

https://aawsat.com/node/5088397

28/11/2024

تعقيب على استاذنا البليهي


هذا تعقيب على مقالة قصيرة لأستاذنا إبراهيم البليهي ، نشرها ضمن مجموعة فيها محبوه وقراؤه ، وتعالج ما اعتبره السر العميق لنهضة اليابان خلال عهد الامبراطور ميجي ، الذي تولى الحكم في 1852 حتى وفاته في 1912. والبليهي واحد من القلة الذين تثير كتاباتهم عواصف الجدل الذهني ، بين القناعات المستقرة والشكوك التي تولدها المعرفة الجديدة ، شكوك تؤكد حقيقة ان عقل الانسان يأبى التقاعد والسكون.

قبل عهد الميجي ، كان المجتمع الياباني أسيرا لمنظومة من التقاليد المتخشبة ، التي لا تقيد العقول فحسب ، بل تحرم أي تطلع خارج اطار الثقافة الموروثة والأعراف السائدة وطرائق الحياة التي قدسها الأجداد.

اندريه لالاند

ليس سهلا ان تتصور المعنى الدقيق لما اسميناه "تحريم التطلع". لكني سأضرب مثالا يوضح الفكرة: تخيل انك قررت الزواج من خارج قبيلتك ، فاذا بأبيك يحذرك: سوف انتحر لو فعلت ذلك!. او تخيل ان رئيس القرية غير طريقته في اللبس ، فاذا بكبار القرية يعلنون انهم سيهجرونها غاضبين. او يقتني أحد الناس آلة للمطبخ ، فيجتمع جيرانه للبحث عن سبيل لطرد الأرواح الشريرة التي جلبتها تلك الآلة.

بطبيعة الحال ، لم تحدث هذه الحالات كل يوم. لكني أردت إيضاح المعنى النهائي لمقاومة التغيير ، من خلال حالات شديدة التطرف ، حالات ربما وردت في قصص الرواة فحسب ، لكنها تشير أيضا الى جوهر الفكرة ، أي تصلب التقاليد والأعراف ، والرفض الشديد لأي فكرة جديدة أو عرف مختلف.

-         حسنا. ما الذي يدعونا لهذا الحديث؟

يثير مقال البليهي سؤالين متعارضين ، اظن ان كثيرا منا قد تأمل فيهما:

-         السؤال الأول: التقاليد المشار اليها ، لم تولد دفعة واحدة ، بل اتسعت وترسخت على مدى زمني طويل ، ربما يبلغ قرونا. فكيف تقبلها الناس جيلا بعد جيل ، ولم يتخلوا عنها رغم انها تجعل حياتهم ضيقة عسيرة؟.

كثير من المفكرين سيجيبون عن هذا السؤال بالعبارة التي اشتهرت على لسان البليهي: "العقل يحتله الأسبق اليه". بمعنى ان الانسان يجد نفسه ، لحظة ولادته ، وسط بيئة ثقافية – اجتماعية أحادية الاتجاه ، تعرض نفسها في صورة الحق الوحيد ، فتنبني ذاكرة الانسان وهويته ، ويتحدد تفكيره ، في ذات الاتجاه المعتاد في مجتمعه. وبهذا سيكون جزءا من العقل الجمعي وامتدادا له. قد ينزعج الانسان من نمط المعيشة السائد. لكنه – في الوقت ذاته – يراه حقا وحيدا ، او لازما أخلاقيا ، او ضرورة للعيش مع الجماعة. فهذه الأفكار تلعب دور السور الذي يحمي قلعة التقاليد من المساءلة والتحدي.

-         السؤال الثاني: اذا كان الجواب المذكور صحيحا ، أي كانت الثقافة الموروثة حاكمة على ذاكرة الانسان وتفكيره ، فلا يرى الا ما تعرضه هذه الثقافة ، فكيف – إذن – امكن للناس ان يتحرروا من هذه الثقافة ، على النحو الذي جربته اليابان في عصر الامبراطور ميجي ، كما ذكرنا آنفا؟.

سوف نستعير الجواب من الفيلسوف الفرنسي اندريه لالاند (1876-1963) الذي اقترح مستويين لعمل العقل ، أولهما "العقل المنشأ" بضم الميم ، أي الذي تكون وبني تحت تأثير العوامل السائدة في المجتمع المحيط ، من لغة وثقافة ونظام حياة. وثانيهما "العقل المنشيء" أي الذي يصنع الأفكار وينتجها ، مستفيدا من العوامل السابقة ، او مستقلا عنها ، بل ومتمردا عليها. وهذا العقل هو الذي كسر قلعة التقاليد وتجاوزها.

لم يكن لالاند أول من قال بهذا. لكنه قدم رؤية متينة ، وعالج الإشكالات المحيطة بالفكرة. ولذا جرت العادة على نسبتها اليه. ان قابلية العقل لتجاوز قناعاته المسبقة والتمرد عليها ، وقدرته على إعادة بناء الأفكار من دون أساس سابق ، بل خلق أفكار جديدة ، لم يسبقه اليها أحد ، هي ما يميز الانسان عن الآلات الذكية. وهي التي تجعل كل قديم في معرض التحول والاندثار. على ان تفصيل القول في هذا يحتاج لمقالة أخرى قريبا ان شاء الله.

الشرق الأوسط الخميس - 27 جمادي الأول 1446 هـ - 28 نوفمبر 2024

https://aawsat.com/node/5086127

مقالات ذات صلة:

الانشغال بالعلم والانشغال بالجن

لماذا يرفضون دور العقل؟

اليد الخفية التي تدير العالم

اصلاح العقل الجمعي

مشكلة الثقافة الدولتية

الثقافة كصنعة حكومية

العقل المساير والعقل المتمرد

 

المسافة بين الرؤيا والسياسة

قبل أسبوع من لقائه العاصف مع الرئيس الاوكراني (28-فبراير-2025) قال الرئيس الأمريكي انه يسعى للتوافق مع نظيره الروسي بوتين ، على طريقة لانه...