هذا تعقيب على مقالة قصيرة لأستاذنا إبراهيم
البليهي ، نشرها ضمن مجموعة فيها محبوه وقراؤه ، وتعالج ما اعتبره السر العميق
لنهضة اليابان خلال عهد
الامبراطور ميجي ، الذي تولى الحكم في 1852 حتى وفاته في 1912. والبليهي واحد
من القلة الذين تثير كتاباتهم عواصف الجدل الذهني ، بين القناعات المستقرة والشكوك
التي تولدها المعرفة الجديدة ، شكوك تؤكد حقيقة ان عقل الانسان يأبى التقاعد
والسكون.
قبل عهد الميجي ، كان المجتمع الياباني أسيرا
لمنظومة من التقاليد المتخشبة ، التي لا تقيد العقول فحسب ، بل تحرم أي تطلع خارج
اطار الثقافة الموروثة والأعراف السائدة وطرائق الحياة التي قدسها الأجداد.اندريه لالاند
ليس سهلا ان تتصور المعنى الدقيق لما اسميناه "تحريم
التطلع". لكني سأضرب مثالا يوضح الفكرة: تخيل انك قررت الزواج من خارج قبيلتك
، فاذا بأبيك يحذرك: سوف انتحر لو فعلت ذلك!. او تخيل ان رئيس القرية غير طريقته
في اللبس ، فاذا بكبار القرية يعلنون انهم سيهجرونها غاضبين. او يقتني أحد الناس آلة
للمطبخ ، فيجتمع جيرانه للبحث عن سبيل لطرد الأرواح الشريرة التي جلبتها تلك
الآلة.
بطبيعة الحال ، لم تحدث هذه الحالات كل يوم. لكني
أردت إيضاح المعنى النهائي لمقاومة التغيير ، من خلال حالات شديدة التطرف ، حالات
ربما وردت في قصص الرواة فحسب ، لكنها تشير أيضا الى جوهر الفكرة ، أي تصلب
التقاليد والأعراف ، والرفض الشديد لأي فكرة جديدة أو عرف مختلف.
-
حسنا. ما الذي
يدعونا لهذا الحديث؟
يثير مقال البليهي سؤالين متعارضين ، اظن ان كثيرا
منا قد تأمل فيهما:
-
السؤال الأول:
التقاليد المشار اليها ، لم تولد دفعة واحدة ، بل اتسعت وترسخت على مدى زمني طويل
، ربما يبلغ قرونا. فكيف تقبلها الناس جيلا بعد جيل ، ولم يتخلوا عنها رغم انها تجعل
حياتهم ضيقة عسيرة؟.
كثير من المفكرين سيجيبون عن هذا السؤال بالعبارة
التي اشتهرت على لسان البليهي: "العقل يحتله الأسبق اليه". بمعنى ان الانسان
يجد نفسه ، لحظة ولادته ، وسط بيئة ثقافية – اجتماعية أحادية الاتجاه ، تعرض نفسها
في صورة الحق الوحيد ، فتنبني ذاكرة الانسان وهويته ، ويتحدد تفكيره ، في ذات
الاتجاه المعتاد في مجتمعه. وبهذا سيكون جزءا من العقل الجمعي وامتدادا له. قد ينزعج
الانسان من نمط المعيشة السائد. لكنه – في الوقت ذاته – يراه حقا وحيدا ، او لازما
أخلاقيا ، او ضرورة للعيش مع الجماعة. فهذه الأفكار تلعب دور السور الذي يحمي قلعة
التقاليد من المساءلة والتحدي.
-
السؤال الثاني:
اذا كان الجواب المذكور صحيحا ، أي كانت الثقافة
الموروثة حاكمة على ذاكرة الانسان وتفكيره ، فلا يرى الا ما تعرضه هذه الثقافة ،
فكيف – إذن – امكن للناس ان يتحرروا من هذه الثقافة ، على النحو الذي جربته
اليابان في عصر الامبراطور ميجي ، كما ذكرنا آنفا؟.
سوف نستعير الجواب من
الفيلسوف الفرنسي اندريه
لالاند (1876-1963) الذي اقترح مستويين لعمل العقل ، أولهما "العقل
المنشأ" بضم الميم ، أي الذي تكون وبني تحت تأثير العوامل السائدة في المجتمع
المحيط ، من لغة وثقافة ونظام حياة. وثانيهما "العقل المنشيء" أي الذي
يصنع الأفكار وينتجها ، مستفيدا من العوامل السابقة ، او مستقلا عنها ، بل ومتمردا
عليها. وهذا العقل هو الذي كسر قلعة التقاليد وتجاوزها.
لم يكن لالاند أول من قال
بهذا. لكنه قدم رؤية متينة ، وعالج الإشكالات المحيطة بالفكرة. ولذا جرت العادة
على نسبتها اليه. ان قابلية العقل لتجاوز قناعاته المسبقة والتمرد عليها ، وقدرته
على إعادة بناء الأفكار من دون أساس سابق ، بل خلق أفكار جديدة ، لم يسبقه اليها أحد
، هي ما يميز الانسان عن الآلات الذكية. وهي التي تجعل كل قديم في معرض التحول
والاندثار. على ان تفصيل القول في هذا يحتاج لمقالة أخرى قريبا ان شاء الله.
الشرق الأوسط الخميس - 27 جمادي
الأول 1446 هـ - 28 نوفمبر 2024
https://aawsat.com/node/5086127
مقالات ذات صلة:
الانشغال
بالعلم والانشغال بالجن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق