14/11/2024

الفعل السياسي: مشكلة الأيدي القذرة

في مجادلته للفلسفة النفعية ، روى برنارد ويليامز ، الفيلسوف الانكليزي ، قصة رجل اسمه "جيم" ، حط رحاله فجأة في قرية صغيرة في الجنوب الأمريكي. في الساحة الرئيسية للقرية ، كان ثمة كتيبة من الجنود تستعد لاعدام 20 هنديا ، اتهموا بالتمرد على الحكومة الفيدرالية. توجه جيم لتحية قائد الكتيبة ، الذي رحب به كأجنبي شريف ، وعرض عليه ان ينقذ حياة 19 من الهنود الأسرى ، شرط ان يقتل أحدهم بنفسه. أكد الضابط انه سيعدم الجميع لو رفض جيم العرض.

طبقا للمفهوم المبسط للفعل الخير في الفلسفة النفعية ، يتوجب على "جيم" ان يقتل أي شخص فيهم ، كي يحافظ على حياة التسعة عشر الباقين. لأن قيمة الفعل في هذا التيار الفلسفي ، رهن بحجم المنافع التي ينجزها لاكبر عدد من الناس ، حتى لو تضرر احدهم او عدد قليل منهم.

مايكل والزر

أورد ويليامز هذا المثال ، كي يوضح النهايات المنطقية للتبرير النفعي. وهو تبرير يتبناه كثير من الناس ، من دون تأمل او قراءة نقدية في معانيه ومآلاته. تتجلى المعضلة التي تواجه جيم ، في شعوره العميق بالمسؤولية عن موت 20 شخصا ، فيما لو تمسك باخلاقياته الاساسية ، ورفض الانخراط في هذه اللعبة القبيحة. لكنه – في المقابل – يسأل نفسه: هل من الصواب ان يقتل شخصا لايعرفه او ربما لايستحق القتل؟.

هذا سؤال قد يطرح بمفرده ، أو كجزء من الحدث. وقد يوجه لشخص الفاعل ، أو يوجه للأسرى العشرين.

-         حسنا ، ما هو موقفك عزيزي القاريء ، لو كنت في موقع "جيم"؟.

 تأمل في موقف الطرف المتضرر ، باعتباره إنسانا مثلك ، واسأل نفسك: ماذا لو كنت أنا في هذا الجانب ، وكان على شخص آخر ان يتخذ القرار: هل يتوجب علي القبول بالموت كي يحيا بقية الاشخاص؟.

دعنا نأخذ مثالا أكثر قسوة: افترض انك دخلت المستشفى ، فوجدت 10 أشخاص في غرف العمليات ينتظرون متبرعين بأعضائهم كي يعيشوا ، والا فسوف يموتون. انت سليم الجسد ، ولديك هذه الاعضاء جميعا: هل سترضى بأن توضع على طاولة العمليات ، كي يؤخذ قلبك وكبدك وعينك ورئتك وبقية اجزاء جسمك ، لتزرع في اجسام المرضى الآخرين؟.

هذا السؤال يحمل نفس مبررات السؤال الأول: اذا كان بقاء العشرة أشخاص اولى من بقاء شخص واحد ، فانه يتوجب على طاقم المستشفى ان يأخذوك فورا الى غرفة العمليات ، كما يجب عليك ان تقبلها بطيب خاطر. اما لو اعتبرت هذا الفعل غير اخلاقي ، فعليك ان تتحمل وفاة العشرة أشخاص ، دون أن تشعر بالذنب.

هذه المعضلة عالجها مايكل والزر ، الفيلسوف الامريكي الذي نشر في (1973) مقالا عنوانه "الفعل السياسي: مشكلة الأيدي القذرة". وتبنى موقفا مقاربا للموقف النفعي ، لكنه قدم تصويرا مختلفا.

أثارت مقالة والزر جدلا كثيرا ، وتحولت الى نص مرجعي في اخلاقيات الفعل السياسي ، لأنها عالجت تجارب فعلية يمارسها السياسيون كل يوم. ويقول والزر انه أراد العثور على خط معقول بين من يريدون التمسك بمعايير اخلاقية صارمة ، صحيحة ، لكنها غير مفيدة في ميدان العمل ، مقابل أولئك الذين لا يتورعون عن تبني افعال مفزعة ، يبررونها بما يترتب عليها من انجازات ضرورية وكبيرة.

هذه الرؤية تطرح سؤالا ضروريا:

-         هل من الاخلاقي استعمال وسائل سيئة لتحقيق غايات عظيمة ، وهل من الاخلاقي ان نقتصر على الوسائل الحسنة مع علمنا بانها لا توصلنا لأي نتيجة ، او ربما تكلفنا خسائر باهضة؟.

 نفهم طبعا ان الغاية لا تبرر الوسيلة. لكن ماذا لو كانت الوسيلة القبيحة طريقا ضروريا لمنع الكارثة؟.

ما يميز رؤية والزر عن المقاربة النفعية ، هو اعتباره فعل السياسي خطأ ، وان كان الاقدام عليه ضروريا لتفادي الكارثة. بينما ينظر النفعيون الى هذا الفعل باعتباره صحيحا ، ولو كان – خارج هذا الاطار – خطأ وقبيحا.

أعلم اني قد أوصلت القاريء الى نقطة تثير الحيرة. لكني أفهم أيضا ان ما سبق ، قد يحفز بعضنا لاعادة التفكير في بعض قناعاته المستقرة.

الخميس - 13 جمادي الأول 1446 هـ - 14 نوفمبر 2024     https://aawsat.com/node/5081472 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

تعقيب على استاذنا البليهي

هذا تعقيب على مقالة قصيرة لأستاذنا إبراهيم البليهي ، نشرها ضمن مجموعة فيها محبوه وقراؤه ، وتعالج ما اعتبره السر العميق لنهضة اليابان خلال...