يقول المؤرخون ان الانسان
القديم كان أسيرا للطبيعة ، ويحدثنا القرآن عن حالات أصبح فيها الانسان عبدا لهذه
الطبيعة ، وهو ما ثبت لاحقا مع تقدم الكشوف الأثرية ، وتحول دراسة الاثار إلى علم
قائم بذاته ، وفي قصة النبي إبراهيم عليه السلام ، ايحاء واضح بأن انسان العصور
السابقة ، كان مجذوبا إلى القوى الهائلة التي يتوهم الحاجة اليها ، استجلابا للخير
أو اتقاء للشر ، وفي قصة النبي يونس عليه السلام إشارات إلى طقوس التضحية بأحد ركاب
السفينة ، إرضاء لما يظنونه إله البحر الغاضب ، وفي قصة موسى عليه السلام ، إشارة
إلى علاقة العبادة والعبودية بحاجة البشر إلى الماء والخصب والنماء ، يقول القرآن
حكاية عن فرعون (اليس لي ملك مصر وهذه الانهار) .
ومنذ ان وجد الانسان على هذه
الارض ، وحتى فترات متأخرة ، كان نهبا لعاملي جذب متعاكسين في الاتجاه ، عامل
يدفعه لتسخير الطبيعة والسيطرة عليها ، من أجل الارتقاء بحياته ، وعامل يدفعه إلى
الخضوع لقوى غير مرئية ومتوهمة ، باعتباره جزء من كون خاضع لتلك القوى ، فهو مجبور
لها ، مضطر إلى مسايرتها وارضائها ، وقد ابتكر
الانسان فكرة اظهار الاحترام وتقديم القرابين ، وهي طريقة تجاري ما يتبع في
ارضاء اقوياء البشر ، فهؤلاء أيضا يريدون الاحترام والقرابين ، لكي يرضوا على
ضعفاء الناس فيكفوا الأذى عنهم .
ومع مرور الزمن وتشكل
المجتمعات الحضرية أو شبه الحضرية ، دخل مفهوم العبادة وممارسة الطقوس الخاصة ،
التي تستهدف ارضاء القوى الخفية (التي اصبحت في وقت لاحق تعتبر آلهة) كجزء من
تشكيلة النظام الاجتماعي وجرى تنظيرها وتنسيجها في شبكة العلاقات الداخلية للمجتمع
ومكونات هويته .
في المقابل تجلى العامل
الاول في اجتهاد الانسان لتنظيم حياته والارتقاء بها ، وحظي بعض المجتمعات بنصيب
وافر من التقدم المادي ، تدل عليه الكشوف الاثرية لشبكات الري المنظمة وهندسة
البناء ، التي تستجيب لحاجات البيئة دون ان تضحي بالمتانة والجمال ، فضلا عن الطرق
المدهشة لخزن الغذاء ، واستخراج الدواء من أعشاب الارض القليلة القيمة .
لكن رغم تقدم هذه المجتمعات
، فان انسانها بقي أسيرا لوهم القوى الخفية ، باختياره وقبوله في غالب الاحيان ،
ولمسايرة النظام الاجتماعي في أحيان أخرى ، وفي حالات معينة كان هذا الاسر قسريا
تحميه الانظمة السائدة والسلطان ، وقام فراعنة مصر ـ مثلا ـ بتطوير مفهوم العبودية
، بتحديده وصرفه إلى انفسهم ، فأصبح الانسان مضطرا إلى عبودية الآلهة المجهولة ،
والتعبير عنها بالخضوع للفرعون المعلوم ، وهكذا تحول السلطان المادي البشري إلى
تجسد للآلهة الخفية المتوهمة .
ومع ان الانسان قد ضرب
أشواطا بعيدا في التقدم وتحرر العقل ، إلا ان أقواما كثيرة لا زالت تتعامل مع
مفاهيم من هذه النوع باعتبارها مقبولة وطبيعية ، بل محبذة ، في اليابان مثلا كان
الامبراطور يعتبر ابنا للاله الشمس ، وبقي هذا الاعتبار سائدا حتى نهاية الحرب
الكونية الثانية ، وكان محرما على أي مواطن لمس الامبراطور باعتباره الها أو ابنا
للاله ، وثمة أقوام لا زالت تنظر إلى الفيل والبقر والبركان وحتى الرموز الجنسية
باعتبارها آلهة أو متعلقات للآلهة ، وهذا يشير إلى ان المسألة لا ترتبط بتقويم
عقلي أو تحديد حسابي للفوائد والخسائر ، قدر ما ترتبط بحاجة هذه المجتمعات إلى
رموز أو عناوين للحاجات ، بكلمة أخرى فان البقرة التي يعبدها الهندوس ، أو الفيل
الذي يقدسه بعض البوذيين ، ليس عالما مفهوميا مستقلا ، بل هو عنوان أو رمز لعالم
مفهومي آخر ، يتضمن معادلة للحاجات التي تولدها البيئة ، والحلول التي يقترحها
المجتمع لسد تلك الحاجات ، ربما تكون هذه الحلول فعالة دائما ، وربما تكون فعالة
في بعض الأحيان فحسب ، لكن وجودها يعالج القلق الانساني تجاه العجز عن الاستجابة
الصحيحة لتحديات البيئة والزامات الحياة .
لو سالت اليوم هندوسيا عن
فائدة البقرة له ، أو خطرها عليه بشكل خاص
، ولو سالت يابانيا عن فائدة الشمس أو خطرها عليه ، فلعله لا يجد جوابا مقنعا ،
لكن المسألة ليست محصورة في العلاقة الفردية ، والبقرة أو الشمس ليسا عالما مستقلا
، فاذا جردتهما عما يرمزان اليه ، فلن تكون الشمس سوى قطعة ملتهبة تنشر الضوء
والدفء ، وهذا ما يمكن الحصول عليه من النار ، أو من مصابيح الزيت على سبيل المثال
. البقرة والفيل والشمس ، هي رموز لعالم آخر ، غير العالم المادي .
البقرة والفيل والشمس من حيث
هي كيانات مادية مستقلة ، تقابل حاجات الانسان المادية المستقلة ، أي حاجته للدفء والركوب والطعام ، لكن من حيث
هي رموز لعالم خفي ، فهي تقابل حاجات الانسان غير المادية وغير المحددة ، من قبيل
الشعور بالضعف والضآلة في عالم هائل
العظمة والقوة ، والشعور بالعجز عن مسايرة هذا العالم وحل المشكلات الفردية ،
والخوف من انعكاسات هذا العجز على سيرورة الحياة الخاصة ، انه قلق الوجود الذي
رافق الانسان منذ أقدم الازمنة ، ولا زال ملتصقا به وان تحولت مصادره وأشكاله وسبل
التعبير عنه ، نحن اليوم نتكلم عن السحر والجن واستحضار الارواح والمخلوقات
الفضائية ، وهي كلها تعبيرات عن ذلك العالم نفسه ، ومحاولات للتوصل إلى حلول من
خلال رموزه الخاصة ، بعيدا عن الحدود الصعبة لعناصر الحياة المادية .