شدد
وزير التربية والتعليم على ضرورة اتباع معايير الكفاءة في انتخاب مسؤولي القطاعات
التعليمية بدلا من التعيين وفق القرب القبلي او العائلي او الطائفي او الميول
والمصالح الشخصية . وقد اختار الوزير المنطقة الشرقية لاطلاق هذه التصريحات وهو
اختيار لا تخفى دلالاته ومعانيه. مسألة المساواة في الفرص والمساواة امام القانون
هي – ربما – اهم القواعد التي تقوم عليها الدولة الحديثة ، ولا يمكن لاي مجتمع ان
ينهض الا اذا استثمر جميع ما فيه من قوى مادية وفكرية واجتماعية . مثل هذه النهضة
لا تتحقق ولا تكتمل الا اذا كان الجميع سواسية في المغانم والمغارم .
ولا
يختلف اثنان على ضرورة المساواة بين المواطنين من الناحية المبدئية . ما دامت
الفكرة محصورة في الاطار النظري والمثالي فالكل معها والكل يدعو اليها . لكن مشكلة
الافكار الجميلة جميعا هي انها محدودة الاستعمال ، مثل بعض الادوية التي يكتب على
غلافها تحذير : للاستعمال الخارجي فقط ، او للاستعمال بواسطة الراشدين فقط . يجب
ان نقول لمعالي الوزير ولكل دعاة المساواة بين بني الانسان: ان فورمول ( للاستعمال
الخارجي فقط) لم يعد ينفع ، لان مشكلة التمييز لم تعد عرضا ثانويا يمكن تسكينه
باسبرين الكلام عن المثاليات ومكارم الاخلاق بل علة متاصلة ومتكررة . المساواة في
الفرص حق طبيعي ثابت واصلي لكل مواطن بمقتضى الشراكة في تراب الوطن ، وهي حق
قانوني مكتسب لكل مواطن بمقتضى النظام الاساسي. مقولات النظام الاساسي هي التزام
على عاتق كل مسؤول وصاحب منصب ، ليس القبول بها فحسب بل تطبيقها في الواقع ، كلا
ضمن دائرة عمله .
الكل
يتحدث عن الكفاءة واعتبارها مقياسا اعلى للتفاضل في الفرص الوظيفية ، والكل يمتدح
المساواة بين الناس باعتبارها من اعظم تمثلات العدالة الاجتماعية التي اقرها
الاسلام . لكننا مع ذلك ما زلنا نشكو من ان هذه القيمة الجميلة مازالت محدودة في
(الاستعمال الخارجي فقط).
رغم
ان تراثنا يدعو الى المساواة بين الناس (كلكم لآدم وآدم من تراب) الا ان سيطرة
الفكر المذهبي والطائفي بتفرعاته الكلامية والفقهية على هذا التراث ، جعلنا – عن
وعي احيانا وعن غفلة في معظم الاحيان – نتحدث عن المساواة كفرضية ثم ننقضها في
الاستنتاج والممارسة. بكلمة اخرى: نحن نتعامل مع قيمة المساواة كقيمة اخلاقية
مجردة لكننا نقيدها بعشرات من القيود حتى تنتفي تماما . وبهذه الممارسة فاننا نريح
انفسنا من حرج التنكر للقيمة الاخلاقية البديهية ، دون ان نتحمل عبء تبنيها فكريا او تطبيقها عمليا .
هذا
التفارق بين المناداة بالمثاليات المجردة على مستوى الكلام والكتابة من جهة ،
وتفكيكها او صرفها الى نقيضها من جهة اخرى ، هو مظهر آخر لعلة عميقة الجذور في
ثقافتنا ، هذه العلة هي التعامل مع القيم العليا كجدليات تفيد في المناكفة
والمساجلة مع الخصوم ، وليس كاشارات تدلنا على طريق العمل او معايير لتقييم
سلوكياتنا الحياتية . اننا نجادل الغربيين باننا لا نحتاج الى مواثيق حقوق الانسان
التي يدعوننا للالتزام بها ، لانها موجودة بالتمام والكمال في تراثنا . ترى الم
نسأل انفسنا : اذا كان هذا حقا فلماذا اذن لا نجدها مطبقة في حياتنا العامة ؟.
من
الواضح ان المساواة بين الناس ليست من القيم النشطة في واقعنا الحياتي ، و هذا
راجع الى انها ليست مكينة وراسخة في ثقافتنا (خارج حدود المثالية المجردة) . بل ان
تراثنا يحفل بما هو نقيض لقيمة المساواة
على المستوى التطبيقي . وقد ذهب الكثير من قدامى المفكرين ، من المسلمين
وغيرهم ، في الشرق والغرب ، الى ان امر المجتمع لا يستقيم الا بانقسامه ، بل ودافع
بعضهم عن الحدود التي تفصل الطبقات والشرائح الاجتماعية حتى البسها ثوب القداسة .
وفي عصور امارات الطوائف ، حوالي القرن الثامن الهجري ، ذهب بعض المفكرين المسلمين
الى تحريم زواج الاعجمي من عربية لانها اعلى مرتبة ، والزواج يقتضي جعل الزوج اعلى
من زوجته في النظام الاجتماعي . ولا زلنا في العصور الحاضرة نسمع من يحرم التزاوج
بين اصحاب المذاهب الاسلامية لنفس المبرر او قريبا منه .
اذا
اراد معالي الوزير ان يحقق فكرة المساواة في وزارته ، وان يجعل الكفاءة معيارا
اعلى للتفاضل بين موظفيه وادارييه ، فان الخطوة التالية بعد المناداة بالفكرة
تتمثل في وضع قانون يحدد كيفية تطبيق الفكرة ، ويعين جهة ادارية محددة يمكن الشكوى
اليها في حال جرى العبث بالقانون او مخالفته. ثمة شكاوى كثيرة حول هذا الموضوع
تترامى الى الاسماع من هنا او هناك ، وحري بمعاليه ان ينظر اليها باهتمام خاص، ليس
كحلقات منفصلة بل كاعراض لعلة قد لا تكون واضحة امام الاعين ، وان كانت نشطة من وراء الستار. الاصلاح يبدأ
بكلمة ، لكنه لا يكتمل الا بالفعل .