‏إظهار الرسائل ذات التسميات الامر المطلق. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات الامر المطلق. إظهار كافة الرسائل

22/03/2023

رمضان كريم


 يحل علينا هذا الأسبوع شهر رمضان المبارك ، الذي اعتاد أهل بلدنا ان يتخذوه فرصة للتواصي بمكارم الاخلاق ، لا سيما الاحسان الى ضعفاء الخلق ، وكذلك التواضع وفعل الخير ، وترك الإساءة بالقول والفعل ، حتى لمن أساء الينا ، وأمثال هذا من الآداب والمحاسن.  

وقد سمعت أحيانا من يعارض هذا الكلام بمثل القول انه اذا تكبر عليك احدهم فتكبر عليه ، واذا ضربك احدهم فرد الضربة بضربة ، واذا كان سيئا فكن سيئا معه ، ولعله يستشهد بقول عمرو بن كلثوم "الا لا يجهلن احد علينا .. فنجهل فوق جهل الجاهلينا".

ولست في وارد الجدل مع أصحاب هذا الرأي. لكني وجدت حاجة لوضع قاعدة ، تكون معيارا نرجع اليه في الاخذ بهذا الرأي او نقيضه. هذه القاعدة هي فكرة الامر المطلق او القانون الكوني التي اقترحها ايمانويل كانط ، الفيلسوف الألماني الشهير.

يبدأ كانط بالنظر في داخل النفس الإنسانية ، فيراها منجذبة بطبيعتها للاستكثار من المنافع المادية ، حتى لو أدى للاستئثار بها دون الآخرين او على حسابهم. هنا يتوقف كانط ، داعيا للبحث عن مصدر  هذا الميل الأناني: هل هو غريزة التملك التي نولد وهي جزء من تكويننا العقلي ، ام هو صادر عن قناعات امتصها الانسان من محيطه ، مثل استنقاص الآخرين ، لسبب ديني او عرقي او طبقي او غيره.

يدعونا كانط للنظر الى أحكامنا وقراراتنا وافعالنا كما لو انها ستصبح قانونا كونيا يطبق على غيرنا أولا ، لكنه بعد ذلك سيطبق علينا وعلى أبنائنا واهلنا أيضا. بعبارة أخرى ، فان القانون الكوني يعني انني سأكون عرضة لنفس الحكم الذي أصدرته على غيري. فاذا حرمته من شيء ، فسيكون من حق الآخرين ان يعاملوني بنفس الطريقة ، واذا كذبت عليهم ، فقد اعطيتهم المبرر كي يكذبوا علي ، واذا استأثرت أنا وأهلي بشيء دونهم ، فقد منحتهم اذنا إن أرادوا ان يستأثروا بما شاؤوا ويحرموني من كل ما اظنه حق مشترك لي ولهم.

القانون الكوني اذن هو ما ينطبق على الجميع بنفس القدر والدرجة. فاذا أعطيت لنفسي الحق في فعل شيء يؤذي الغير ، فقد اقمت قاعدة جديدة تسمح لهم بفعل ما يؤذيني ، فاذا عارضتهم ، فلهم ان يقولوا : لقد سبقتنا ووضعت قانونا ، وقد جرى في الامثال قول بعض السلف "كما تدين تدان".

أريد الإشارة الى ان هذه الفكرة ليست جديدة تماما ، وليست من مبتكرات كانط ، فقد ورد مثلها في العديد من النصوص القديمة ، الفلسفية والأخلاقية. ولعل من أقربها الى مألوفنا ، وصية الامام علي بن ابي طالب لولده ، التي يقول فيها "يا بني اجعل نفسك ميزانا فيما بينك وبين غيرك فأحبب لغيرك ما تحب لنفسك، وأكره له ما تكره لها، ولا تظلم كما لا تحب أن تظلم، وأحسن كما تحب أن يحسن إليك، واستقبح من نفسك ما تستقبح من غيرك، وارض من الناس بما ترضاه لهم من نفسك".

يستطيع الانسان معرفة الدافع العميق لحكمه على الاخرين او تصرفه تجاههم. فهو قد يترفع عليهم ، لانه يرى نفسه صاحبا للدين الحق ، او منحدرا من عرق اصفى أو ارقى ، او منتميا الى طبقة ارفع شأنا. بل ان الانسان يسعى لاستنباط مبررات (كاذبة في بعض الأحيان) تربط ربطا اعتباطيا بين الميول الانانية وبين هذه الانتماءات. أقول ان الانسان يستطيع اكتشاف هذه الحقيقة لو تأمل بعمق في دواخل نفسه.

أتمنى لكم شهرا حافلا بالمسرات ، كما أتمنى ان تتاح لكل منا الفرصة كي يهذب ما استطاع من نوازع النفس ، كي نعود في ختامه أقرب الى حقيقة الإنسانية الصافية ، التي هي تجل من تجليات الفيض الرباني. كل عام وانتم بخير.

 الشرق الاوسط  الأربعاء - 29 شعبان 1444 هـ - 22 مارس 2023 مـ رقم العدد [16185]

https://aawsat.com/node/4226336

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...