"الهندسة الثقافية" ليست مفهوما معياريا في الدراسات الاجتماعية ، كما قد يبدو لأول وهلة. انه مفهوم حديث الظهور نوعا ما. ولذا فهو غير شائع بين الباحثين في هذا الحقل. لا بد من القول أيضا ان المصطلح ليس مجرد وصف لحالة او مسار عمل ، بل ينطوي على ايحاءات محددة ، هي – بوجه من الوجوه – حكم على غاياته. ولذا لا يمكن اعتباره محايدا او موضوعيا ، كما قد يود المغرمون بالتعريفات والتدقيق في المصطلحات. الذين يتحدثون عن الهندسة الثقافية ، يريدون القول – غالبا – ان هناك من يسعى للتحكم في عقول الناس ، باستعمال هذه الوسيلة.
ان أردنا شرح فكرة "الهندسة الثقافية" فهي تشير الى جهد مخطط ، هدفه تغيير الثقافة العامة لمجتمع ما ، او على الاقل احداث تغيير كبير فيها. ونعرف ان تغيير الثقافة يؤدي ، عادة ، الى تغيير هوية المجتمع او شخصيته او طريقته في التفكير او مواقفه تجاه الحوادث والتحولات.
كثيرا ما يخلط الكتاب بين "الهندسة
الثقافية" وبين الدعاية التجارية او السياسية ، التي تؤدي – هي الاخرى – الى
تغيير في سلوكيات المجتمع المستهدف. وأذكر في هذا الصدد ما نقله أحد الكتاب عن
رئيس شركة البسكويت الوطنية الامريكية (نابيسكو) واظنها اضخم شركات
الاغذية الخفيفة في العالم ، الذي قال ان الخطط الدعائية للشركة تستهدف صنع مفهوم
عن الحياة الحديثة ، يحول منتجات نابيسكو الى رمز للرفاهية والسعادة: "نحن
نصنع المفاهيم وليس فقط البسكويت".
أراد الكاتب من وراء هذا الاستشهاد ، التأكيد على ان
الدعاية التجارية تعيد تشكيل الوعي الجمعي والثقافة العامة. لكن يبدو لي ان هذا
النوع من الدعاية يبقى محدودا وسطحيا أيضا. فالذين يحبون البسكويت والذين يحبون
المشروبات الغازية والذين يرتدون أزياء معينة ، يشعرون بالسعادة ربما ، لكنهم سيتخلون عنها لو
اضطروا للاختيار بينها وبين وجبة الغذاء مثلا. الدعاية تركز على توجيه الخيارات ،
لكنها لا تذهب اعمق من هذا.
أما الهندسة الثقافية فهي تستهدف تغيير الثقافة
العامة ، او ما نسميه العقل الجمعي
، من خلال احداث تغيير عميق في القيم الاساسية التي يقيم عليها الافراد مبادراتهم
و مواقفهم العفوية تجاه الآخرين. هذا التغيير ينعكس على شكل انقلاب في خيارات
الفرد ، التي سوف تتحدد – منذ الآن - على ضوء منظومة القيم الاساسية الجديدة ، في تحديد ما يوضع للمقارنة والمعايير
التي تحكم التفاضل بين الخيارات.
لا شك ان الحكومات هي الاقدر على هندسة الثقافة
العامة واعادة تشكيلها. ذلك انها تمتلك بعض أهم القنوات المؤثرة في هذا العمل ،
وهي السوق ، الاعلام ، والتعليم ، ودور العبادة. كما انها تملك المال والوقت.
ويلعب الوقت دورا حاسما في الهندسة الثقافية. فتغيير العقول يتطلب وقتا طويلا جدا.
واحتمل ان كافة الحكومات تقوم بهذا العمل ، في مرحلة من المراحل. بل حتى الحكومات
الليبرالية في غرب اوربا تهتم بها ، وهي تضعها تحت عناوين مقبولة نظير "الاندماج الوطني"
وتطوير الاعراف العامة مثلا. وقد جرى التركيز على هذه المسألة بعد تفاقم مشكلة
الهجرة الى أوربا. ونعرف على سبيل المثال ان التعليم في المرحلة الابتدائية ، بات
يركز بدرجة اكبر على ترسيخ النموذج الثقافي الوطني ، الذي يمتد من تأكيد مفهوم
المواطنة والحقوق المدنية ، الى سيادة القانون واستناده للارادة العامة التي لا
يمكن معارضتها ، مرورا بنمط التغذية والعمل .. الخ. ولعل القراء الاعزاء يذكرون قرار
الحكومة الفرنسية بمنع الرموز الدينية في المدارس العامة ودوائر الدولة ، وهو
جزء من التطبيق الفرنسي لمفهوم العلمانية الصلب ، الذي يشمل ابعاد المظهر الديني
بشكل حازم عن مصادر قوة الدولة. لكنه يطرح هناك في إطار مفهوم الاندماج الاجتماعي
وتوحيد العرف العام.
الخميس - 07 ذو الحِجّة 1445 هـ - 13 يونيو 2024 م
https://aawsat.com/node/5030385
مقالات ذات صلة
الحكم اعتمادا
على العقول الناقصة