يبدو ان المعلوماتية تتحول بالتدريج الى اسرع
القطاعات نموا في الاقتصاد الوطني لكل بلدان العالم تقريبا. (في 2021 بلغت
قيمة سوق المعلوماتية حول العالم 1,114.22 مليار دولار ، ويتوقع ان تصل في 2030
الى 2,554.76 مليار دولار ، بمتوسط 5.8% سنويا). واذا صحت هذه الفرضية ، فيمكن
الاستنتاج بأن هذا القطاع سيكون مصنع الثروات في السنين القليلة القادمة.
هذه فكرة متداولة يعرفها معظم الناس على الارجح.
لكني أتساءل دائما: كيف نحول الأفكار الى مصدر للثروة. دعني أضرب مثالا بجان
كوم ، وهو مهاجر اوكراني شارك زميله برايان اكتون في تطوير
برنامج التراسل الشهير "واتس اب" عام 2009. وفي 2014 دفعت شركة فيسبوك
19 مليار دولار للاستحواذ عليه. لا أتوقع – بطبيعة الحال – ان أرى مثل هذه التجربة
كل يوم. لكني استطيع القول دون تحفظ ان الجزء الاعظم من الثروة القومية للولايات
المتحدة الامريكية يأتي من هذا المصدر ، اي تحويل الافكار الى أموال.
محمد الشارخ (1942-2024)
في السنوات الماضية كان يقال ان تجارة الاراضي هي
الطريق السريع والآمن لصناعة الثروات. لكننا نعلم انه طريق لعدد محدود جدا من
الناس ، لانه يحتاج الى رساميل ضخمة. كما انه يبقى عملا فرديا في الغالب ولا يعود
بثمرات مهمة على الاقتصاد الوطني.
أما اليوم فاني ادعي ان اقتصاد
المعرفة ، ولاسيما قطاع المعلوماتية والبيانات بكل تفرعاته ، هو الطريق
الحقيقي للثروة ، ليس على المستوى الفردي فحسب ، بل على المستوى الوطني أيضا. ثمة
ميزات في هذا القطاع تجعل المجتمعات العربية قادرة علىالمنافسة على المستوى العالمي ، اذا حولت
اهتمامها بصناعة المعلوماتية ، وخصوصا البرامج ، من الاستهلاك او المتاجرة البسيطة
، الى الابتكار والصناعة في كافة المجالات ، بدءا بالعاب الاطفال حتى ادارة المدن
الكبرى.
سأركز هنا على ميزتين أراهما واضحتين لكل قاريء:
الأولى: أن هذا الحقل الاقتصادي لا يعمل الا ضمن شبكات.
لا يربح الفرد الا اذا ربح كثيرون آخرون. وهذه حقيقة اكتشفها مبكرا عالم الاجتماع
الامريكي – الاسباني مانويل كاستلز
، وكتب عنها بالتفصيل في ثلاثيته المسماة "عصر
المعلومات - 1996". ومن هنا فان ثمرات العمل لا تنحصر في شخص او عدد
محدود ، بل تتسع للمئات والآلاف من الناس. ان برنامج الكمبيوتر يشبه الفكرة التي
يبدعها شخص ، ثم يطورها شخص آخر ، ويستثمرها ثالث في استنباط فكرة مختلفة ، وهكذا
تتواصل وتتعدد استعمالاتها وعدد المستفيدين منها ، في الانتاج والاستعمال.تخيل الآن عدد الناس الذي يستعملون واتس اب في
اعمالهم ، حجم الارزاق والمعايش التي تمر عبره ، والفوائد المالية التي يجنيها ملايين
المستعملين في اصقاع العالم ، والعوائد التي تجنيها الولايات المتحدة الامريكية
بسببهم.
الميزة الثانية: لقد
تأخرنا في دخول حقل الصناعة ، لا سيما في مستوىالتقنيات العالية. وقد بدأت المجتمعات الاخرى منذ قرن او أكثر ، فاللحاق
بهم يتطلب مضاعفة السرعة في التعلم والتطبيق والاستثمار لاختصار الطريق. أما حقل
المعلوماتية ، فالعالم كله حديث عهد به. خذ مثلا الصين التي انضمت الى هذا المجال
في مطلع القرن الجديد ، وباتت اليوم تنافس الدول الاكثر تقدما في مختلف جوانبه.
ومن هنا فان المسافة الزمنية بيننا وبين الاكثر تقدما ، تعد ببضع سنوات وليس اكثر.
ما نحتاج اليه في الحقيقة هو الثقة بالذات اضافة الى الاجراءات العملية البعيدة
المدى.
يهمني جدا التأكيد على
"الثقة بالذات" لأني اشعر ان العرب يفتقرون اليها. ولعل هذا سر تفاخرهم الكثير
باشخاصهم وانسابهم. وابسط دليل على افتقارنا لهذا ، هو ان تطوير الحوسبة باللغة
العربية جرى في كندا واسرائيل وليس في اي بلد عربي ، خاصة بعد اخفاق التجربة
الكويتية الرائدة التي تزعمها المرحوم محمد
الشارخ ، صاحب مشروع "صخر" الكمبيوتر العربي الرائد.
اود اختتام هذه الكتابة
بالتأكيد على ان اقامة بيئة حاضنة ومحفزة لصناعة المعلوماتية على المستوى الوطني ،
في كل بلد عربي ، يحتاج الى مقدمات ، تبدأ من ادراج البرمجة في الصفوف الابتدائية
، ثم جعلها منهجا الزاميا في المرحلة المتوسطة. هذا سينتج جيلا كاملا من رواد
الصناعة. وهناك عوامل اخرى ربما نعود اليها في كتابة لاحقة.
واجهت هذا السؤال في سياق النقاش المتعلق بكتاباتي
الأخيرة. واكتشفت
لاحقا انه مطروح على نطاق واسع في الولايات المتحدة وأوروبا ، وثمة مهنيون يجاهرون
بالقلق على مكانتهم ووظائفهم ، مع تزايد الاعتماد على الأنظمة الذكية (انظر على
سبيل المثال البحث الذي نشرته مجلة البحوث الطبية JMIR حول الميل
لمقاومة الذكاء الصناعيبين الأطباء وطلبة كليات الطب).
بالمثل فان النقاش حول الموضوع قد بدأ بالفعل في مثل مجتمعنا. لكن
يبدو لي انه يلامس جوانب أكثر حساسية ، تتعلق خصوصا بالهوية الموروثة ، الدينية
والاثنية. ولعله سيزداد سخونة في الأشهر القادمة ، بعد تبلور التأثيرات الفعلية
للوافد الجديد في السوق والمجتمع.
لابد من القول ابتداء ان هناك من لا يرى
في الذكاء الصناعي خطرا داهما ، فهوية المجتمع لم تتأثر جديا بتوسع الانترنت ومن
قبلها البث التلفزيوني الفضائي. وفقا لهذه الرؤية فان الهوية الموروثة قوية بما
يكفي لاحتواء التحدي التقني أيا كان ، كما أن الذكاء الصناعي ليس من نوع التحولات
العميقة ، التي تلامس جوهر تفكير الانسان او رؤيته لذاته والعالم ، أي ما نسميه
هويته. هذا بالطبع جواب سهل ولا يثير القلق. غير ان مبرراته لا تبدو قوية او مقنعة.
لكن لو أردنا النظر
للتهديد المذكور كاحتمال قائم ، بغضالنظر عن مستوى تأثيره النهائي ، فلعلنا نذهب الى سؤال آخر تحليلي ، يتناول
المسارات المحتملة لتأثير الذكاء الصناعي على الهوية ، أي كيف يؤثر وأين يظهر تأثيره؟.
استطيع الإشارة بايجاز الى ثلاث
دوائر يتجلى فيها ذلك التأثير ، واترك التفصيل لمناسبات
أخرى في المستقبل. في كل من هذه الدوائر سنرى انكماشا لقنوات التواصل بين الأجيال.
وهي – كما نعرف – الأداة الرئيسية التي يستعملها المجتمع لتمرير هويته وثقافته الى
الأجيال الجديدة.
الأولى: الذكاء
الصناعي مرحلة ثقافية/تاريخية لها متطلبات تقنية ، تتجاوز المتطلبات الخاصة بتصفح
الانترنت او الاتصالات الشبكية التي اعتدناها حتى الآن. ولهذا فان المستفيد الأول
من أدوات الذكاء الصناعي ، هو جيل الشباب وعدد قليل من المحترفين الأكبر سنا. اما
الغالبية العظمى ممن تجاوز سن الشباب ، فلن تستفيد منه ، لأنها لا تطيق تعلم فن
جديد ، خاصة ان لم تكن في حاجة ماسة اليه. لقد رأينا حالة شبيهة في مطلع القرن
الجاري ، حينما دخل العالم عصر الانترنت ، وبات معظم المعاملات الرسمية
والاقتصادية رقميا. يومذاك وقف آلاف من كبار السن موقف الحائر ، ثم قرر غالبيتهم الانسحاب
الى الهامش تاركا للشباب هذا العالم الجديد. ان شباب ذلك اليوم هم كهول اليوم ،
ومن المرجح ان ينقسموا بين راغب في عالم الذكاء الصناعي وبين زاهد فيه.
الثانية: سوف تزداد
قدرة الجيل الجديد على الوصول الى مصادر المعلومات. وبالتالي سوف ينكمش دور العوامل
الداخلية في تشكيل الهوية. كما ان أهمية المكان سوف تنكمش جديا ، فلا يعود له تأثير
حاسم على الوظيفة والمكانة ، ولا على الالتزامات ذات الطبيعة الثقافية.
الثالثة: الذكاء
الصناعي يؤذن بظهور اقتصاد جديد ، لم يسبق ان جرى تعريفه ضمن الثقافة ومنظومات القيم
الخاصة بالمجتمع. وبالتالي فهو لا ينضوي تحت المنظومة الأخلاقية والعرفية القائمة.
في هذه الحالة ستكون اخلاقيات وتقاليد الاقتصاد الجديد متأثرة بالمجتمع الجديد ، مجتمع
الشبكة حسب التصوير الذي اقترحه مانويل كاستلز ، والذي يتألف من كافة الأشخاص
الذين نتواصل معه على نحو شخصي او ثقافي او اقتصادي ، بواسطة الشبكة وباستعمال
منطقها وادواتها. نحن اذن بصدد مفاهيم جديدة لتعريف الذات واخلاقيات التعامل ومعنى
الاختلاف بينك وبين الاخرين ، أي معنى الاخرية.
يشير كل من هذه المواقع الثلاثة الى نقطة
اشتباك بين مكونات الهوية الموروثة ومؤثرات/تحديات العالم الجديد ، في مرحلة تواصل
مكثف يقودها الذكاء الصناعي. لازلنا بحاجة الى دراسة اعمق لهذه المسالة. ولعلنا
نعود لمراجعتها مرة أخرى في المستقبل القريب.
الشرق الاوسط الاربعاء - 11 شوّال 1444 هـ - 3
مايو 2023 م
في
حديث لبرنامج 60 دقيقةعلى قناة CBSقال ساندر بيشاي، رئيس شركة غوغل الشهيرة ، ان انتشار الذكاء الصناعي ينذر
بتحديات جديدة ، تستدعي حلولا أخلاقية واجتماعية ، ولهذا السبب فهو يدعو الفلاسفة
لأخذ دورهم في هذا المجال ، وعدم القاء المسؤولية على رجال الأعمال او المهندسين وحدهم.
يثير
اهتمامي ان عددا متزايدا من العلماء والباحثين ، يوجه اهتمامه الى الانعكاسات
الثقافية للذكاء الصناعي. كنت قد قرأت في أول الأمر عن اهتمام وزير الخارجية
الامريكي السابق هنري كيسنجر بالموضوع. وكيسنجر مفكر
قبل ان يكون سياسيا وقد بلغ الآن 99 عاما (مواليد 1923م) ، وقد اصدر في أواخر 2021
كتاب "عصر الذكاء الصناعي ومستقبل
البشريةThe Age of AI and Our Human
Future " بالتعاون مع إريك شميت ، الرئيس السابق لشركة غوغل ،
والبروفسور دانييل هتنلوكر ، الاستاذ بمعهد ماساشوستس للتقنية MIT ، والكتاب
مكرس للموضوع المذكور أعلاه ، وعنوانه يكفي للدلالة على محتواه.
نعوم شومسكي
وفي الشهر الماضي كتب المفكر المعروف نعوم شومسكي مقالا
خصصه للحديث عن إطلاق منصة "تشات جي بي تي"
وهي محرك بحث يعتمد أدوات الذكاء
الصناعي. وكان اطلاقها قد اثار ضجة كبيرة في شرق العالم وغربه ،
حيث قدمت نموذجا أوليا عما يمكن ان يؤول اليه الذكاء الصناعي ، ومدى ما يمكن ان
يحدثه من انعكاسات.
قبل هذا وذاك ، كان المفكر الامريكي-الاسباني مانويل كاستلزقد كتب بالتفصيل عن التحول المنتظر في القيم والعلاقات الاجتماعية
والثقافة ، بعد قيام ما اسماه مجتمع الشبكة ، اي نظم العلاقات والتواصل المعتمدة
تماما على الانترنت،
ونبه يومها الى عالم جديد يوشك على النهوض.
نحن
ندرك الآن التحول الهائل الذي أثمر عنه
توسع الانترنت ، في الثقافة والاعمال وانماط المعيشة والتعليم والهوية ، وفي كل
جانب آخر من جوانب الحياة ، وصولا الى الحرب. ان عالم ما بعد الانترنت لا يشبه ما
عرفناه في القرن الماضي الا قليلا.
لا
يعتقد شومسكي ان الذكاء الصناعي سيحتل
مكانة الانسان او يستعبده ، كما يقول الخائفون. لن يمكن للآلة ان تسبق الانسان في
صناعة الفكرة ، حتى لو سبقته في معالجة المعطيات. التفكير ليس فقط تقديم إجابات
معروفة سلفا ، او قابلة للاكتشاف بناء على المعطيات المتوفرة ، وهذا ما تفعله
الآلة. التفكير يبدأ من إعادة تركيب السؤال وإعادة تحديد المشكلة التي يطرحها ،
وقد يتضمن خلق احتمالات لم تكن موجودة قبل ذلك. وهذا ما يتجاوز قدرات الآلة.
وبالتالي فان الخوف من الغاء العقل الإنساني لا مبرر له.
لكن
كيسنجر وزملاءه يلفتون انظارنا الى مشكلة مختلفة نوعا ما ، هي ذاتها التي يشير
اليها مدير شركة غوغل ، وهي التي تحدث عنها أيضا كاستلز: الذكاء الصناعي سيأتي بعالم
مختلف في أسواقه ، في مدارسه ومناهج تعليمه ، وعلاقات الافراد الذي يعيشون فيه. إذا اردت مقارنة شبيهة ، فارجع خمسين عاما الى الوراء ، أي 1973 ، قارن وضع العالم والحياة
يومئذ بنظيره في 2023. هكذا ستكون المقارنة بين يومنا واليوم التالي لهيمنة الذكاء
الصناعي.
هذا
التحول سيخرج ملايين من البشر من دائرة النشاط الاقتصادي ، كما سيغير بعمق في
العلاقات الاجتماعية وفي منظومات القيم الحاكمة. نتحدث اذن عن تحول في المفاهيم والثقافة
وسبل العيش ، وليس فقط في التطبيقات. وهذا ما دعا ساندر بيشاي ، مدير شركة غوغل لالقاء
الكرة في ملعب الفلاسفة وعلماء الانسانيات: ان صياغة العهد الجديد ليس مهمة
المهندسين ورجال الاعمال وحدهم ، وليست - بالطبع - مهمة السياسيين وحدهم.
الشرق الاوسط 26 ابريل 2023https://aawsat.com/node/4294296/
يرجع اهتمامي بعالم الاجتماع الامريكي مانويل
كاستلز الى تحليله البارع لمفهوم "الشبكة" ، ودورها
المحوري في تشكيل عالم اليوم. وقد تعرفت عليه خلال دراستي لتحولات الهوية الفردية ،
ودور انظمة الاتصال الجديدة والصراعات السياسية ، في تفكيك الهويات الموروثة.
يمتاز المفكرون الأذكياء بهذه القدرة الباهرة على التقاط الافكار
العميقة ، واستخدامها مفتاحا لمسار او نسق فكري جديد. اميل الى الاعتقاد بأن كاستلز
التقط فكرة "الشبكة" من كتابات كارل
ماركس. فهي تمثل عنصرا محوريا في تحليل ماركس لنشوء الراسمالية ،
ولا سيما في شرحه لدور التواصل الفعال بين قوى الانتاج ، في تكوين فائض القيمة ،
ومن ثم اعادة تكوين راس المال ، وهي المعادلة التي اعتبرها مفتاحا لفهم الاقتصاد
الرأسمالي.
كارل ماركس
التقط كاستلز فكرة الشبكة
، واتخذها مدخلا لنقاش مبتكر ، حول الصيغ والاشكال الجديدة لقوى الانتاج (التكنولوجيا)
، لاسيما مع حلول الاجهزة الالكترونية محل نظيرتها الميكانيكية في الصناعة والسوق ،
خلال الربع الأخير من القرن العشرين.
احد الاسئلة
المحورية التي طرحها كاستلز يتناول العلاقة بين قوى الانتاج والمكان. فقد لاحظ ان موقع
الانتاج ، سواء كان مصنعا او مزرعة او سوقا تجارية ، يمثل قيدا على حجم ومستوى
التواصل بين أطراف العملية الانتاجية. إذا كنت (في اوائل القرن العشرين) تصنع
المحركات في وسط انجلترا على سبيل المثال ، فان وصولها الى اي نقطة في العالم خارج
الجزر البريطانية ، مشروط بحجم الناقل (السفينة) وزمن الوصول ، فضلا عن القيود
المرتبطة بالأمن والسلامة.
اختلف الامر تماما في أواخر القرن العشرين. حيث باتت الاجهزة
"الالكترونية" قاطرة التطور التقني على مستوى العالم. هذه الاجهزة
الصغيرة الحجم الخفيفة الوزن ، تعمل بشكل رئيسي في معالجة البيانات ، وليس الحركة
الميكانيكية للاجزاء. ومع وصولنا الى عصر الانترنت ، فقد أمست البرامج والتطبيقات
"البيانات/السوفتوير"قوة
الانتاج الرئيسية في كل أجزاء الاقتصاد ، من المصارف والمؤسسات المالية الى
المصانع الى انظمة الاتصال والنقل ، الى التعليم والصحة والاعلام والترفيه.. الخ.
لاحظ كاستلز ان قوة الانتاج الجديدة (البيانات) ليست مشروطة
بالمكان ولا تحتاجه ، مثلما كان الحال في عهد الاجهزة الميكانيكية. كل ما تحتاجه قوة
الانتاج هذه هو "مساحة" للتدفق ، مساحة يمكن صناعتها أو تطويرها في
العالم الافتراضي. ومن هنا فان المسافات لم تعد ذات اهمية أو تأثير. اذا كنت
تستطيع الدخول على شبكة الانترنت في الرياض مثلا ، فانت قادر على التواصل مع اي
شخص لديه حساب على الشبكة في ساوباولو او لوس انجلس او نيودلهي ، حتى أصغر مدينة
في قلب سيبريا. المسألة لا تنحصر في التواصل الشخصي ، بل بات بالامكان القيام بعمل
كامل في عالم يسمونه افتراضيا ، لكنه يصنع العالم الواقعي. الشبكة تحولت الى نسيج هائل
الحجم ، يماثل العالم الحقيقي. كما ان قوى الانتاج لم تعد محصورة في اطراف السوق ،
بل بات كل شخص في العالم جزء من شبكة المعلومات ، فاعلا او متفاعلا او منفعلا.
على هذه الارضية ، تساءل كاستلز: كيف يؤثر هذا التحول على
مفهوم الدولة ، وعلى الرابطة الاجتماعية وهوية الفرد؟.
انتبهت اليوم الى سؤال لم اجده عند كاستلز ، يتناول العلاقة
بين اتساع الاعتماد على سلاسل البيانات المشفرة (البلوكشين)
، وبين الضمور المتوقع لدور الدولة كضامن للملكية الخاصة. البلوكشين يلغي الحاجة
الى "كاتب العدل/الشهر العقاري" وسجلاته ,، فهل سيؤثر هذا على مفهوم الدولة وادوارها؟.
الشرق الأوسط الأربعاء - 12 شهر ربيع الثاني 1443 هـ - 17 نوفمبر 2021 مـ رقم
العدد [15695]
أبدأ
بتوجيه التحية الى الصديق العزيز الأستاذ عثمان العمير ، والى جميع الزملاء العاملين
في صحيفة ايلاف ، في عيدها العشرين. انظر
اليوم اليها كتحد استطاع صانعوه ان يثبتوا انهم يسايرون الزمن ، واتذكر الشهور
الأولى من صدورها ، حين كتب اكثر من شخص ، ان الصحافة الالكترونية لن تستطيع ابدا
، ان تأخذ مكان الصحافة الورقية التقليدية. وجرد بعضهم قائمة أسباب ، من بينها ان "الناس
تحب رائحة الورق"! ، أو ان "القراءة ارتبطت بالورق ، ولن يترك القراء
الورق حتى يتركوا القراءة"!. ومثله القول بان الصحيفة اليومية اعظم من فرقة
عسكرية ، وهذا لن يعوض بصحافة الانترنت .. الخ.
عثمان العمير
أتذكر
هذه الآراء ، بينما تمر في ذاكرتي أسماء الصحف الكبرى التي توقفت اصداراتها
الورقية ، بدء من كريستيان ساينس مونيتور الى الاندبندنت ، والطبعة الدولية من وول
ستريت جورنال ، إضافة الى صحف عربية شهيرة مثل السفير والانوار البيروتيتين ،
والشرق والحياة السعوديتين ، والنهار الجزائرية.. الخ.
لدي
اعتقاد عميق بأن الصحافة الورقية شمس غاربة ، ليس فقط بسبب التكاليف ، وليس فقط
لأن أدوات الانترنت باتت أقدر على ايصال الخبر في ساعته. بل لأن العالم يمر بتحول
جذري لم يسبق له مثيل في تاريخه ، وهو يتضمن تغييرا في بعض المفاهيم التي تلعب دور
أداة الفهم او مفتاح الفكرة ، والتي نستعملها في فهم ذواتنا والعالم المحيط بنا.
احد تجسيدات هذا التحول هو تحول الفعل الثقافي الى تفاعل ثقافي ، ودخول المتلقي
كشريك في صنع الفكرة او تطويرها ، ومنه أيضا تحول الاطار الموضوعي للفكرة (ربما
نسميه الافق التاريخي ) من المحلي المتصل ماديا بالفرد ، الى اطار عالمي او معولم.
كلا العنصرين يجعل الصحيفة الورقية (وكافة وسائل التواصل التي يقتصر دورها على نقل
الفكرة في اتجاه واحد) غير فعالة ، لانها غير قادرة على تلبية تطلعات انسان هذا
العصر ، الذي يتحول سريعا في نفس السياق.
كان
كارل ماركس يعتقد ان الأدوات الناقلة للثقافة ، بل كل أداة جديدة يستعملها البشر ،
تلعب دورا في تحديد طبيعة الثقافة وموضوعاتها وأولوياتها. وأظن ان البروفسور مانويل كاستلز هو أفضل من شرح دور
الشبكة الدولية للمعلومات ، اي الانترنت ، في تشكيل ثقافة العالم الجديدة وتحديد
طبيعتها واولوياتها وأدواتها ، على نحو مختلف تماما عما عرفناه حتى اواخر القرن
العشرين.
مبروك
اذن لصحيفة ايلاف التي وفقت في التقاط الخيط الابيض ، روح العالم الجديد ، وركبت
أمواج المغامرة التي ارتاب الكثيرون في عواقبها ، وبرهنت على ان الفكرة الذكية
تصنع الفرق.
اشقاؤنا في اليمن هم اكثر العرب استعمالا
لعبارة "تصفير العداد". ذلك ان رئيسهم السابق ، المرحوم علي
عبد الله صالح (1942-2017) اعتاد تعديل البند الخاص بالفترات الرئاسية في
الدستور ، كلما انهى فترة رئاسية ، كي يترشح
من جديد للانتخابات. وبلغت شهرة المصطلح ان الرئيس نفسه وعدهم يوما بانه "لن
يصفر العداد" مرة أخرى. اما انا فتعلمت معنى "التصفير" من ابني
الاكبر ، وهو مهندس كمبيوتر. في كل مرة اواجه مشكلة في جهازي ، كان ينصح بالتصفير =
Reset.
مانويل كاستلز
موضوعنا اليوم ليس العداد الرئاسي ولا
الكمبيوتري. انما اردت لفت انتباه القراء الاعزاء الى فكرة "التصفير العظيم =
Great Reset" التي اظنها سترافقنا في قادم الايام ، بل اتمنى ان يكون
العالم العربي ، لا سيما المثقفين والطبقات الجديدة ، جزءا من الحراك الذي يحمل
هذا العنوان ، والذي اظنه أهم التحولات في تاريخ البشر.
صديقي الصحفي اللامع حسن المصطفى يقول ان
التجارب الجديدة هي محور التاريخ البشري. وهي لم تتوقف أبدا. ولذا فالتحولات المنتظرة
احتمال طبيعي. وبدا لي هذا القول صحيحا في الجملة ، لكن لعله يقلل من أهمية
التحولات التي أدعي انها ستحدث بعد تلاشي جائحة كورونا.
لا اقول ان الجائحة أوجبت التحول او
صنعته. فقبلها كان العالم يتهيأ لقفزة واسعة في حقل الاتصالات والمعلوماتية ، تؤذن
بالانتقال الى عالم رقمي مخالف لما ألفناه حتى الآن.
حين تتبلور "الثورة
الصناعية الرابعة" حسب وصف البروفسور كلاوس شواب ، فان جانبا
اساسيا من الحياة سوف يتغير على نحو يصعب تخيله ، في الاقتصاد والتعليم والصحة
والمواصلات على سبيل المثال. اقول هذا لان معظمنا لم يتخيل ، قبل 20 عاما فحسب ،
انه سيعيش حياة ينظمها جهاز صغير في الجيب اسمه "الهاتف الذكي".
قلة من الناس يرون المستقبل. هذا مضمون اشارة الرئيس
السابق باراك اوباما في رثاء "ستيف
جوبز" مبدع فكرة الهاتف الذكي: "كان ستيف ثاقب البصيرة حين راى
المستقبل يوم عجز الاخرون ، وكان شجاعا حين كافح من اجل الامساك به ، بينما تردد
الاخرون".
في 2016 تبنى منتدى دافوس مفهوم "التورة
الصناعية الرابعة". وقد تحدثت عنه في مقال بهذه الصحيفة منتصف نوفمبر الماضي.
ونعلم ان المملكة قد وقعت اتفاقية مع المنتدى ، يجعلها جزء من هذا الحراك الانساني
الجديد. نذكر ايضا الصراع الشديد بين الولايات المتحدة والصين ، حول امتلاك تقنيات
الجيل الخامس ، التي ستكون عصب الشبكات والاتصالات في السنوات الآتية. هذا وذاك
يشيران الى مسار تحول بدأ بالفعل.
لكن الجديد الذي اضافته "كورونا"
هو تغيير الاولويات وتسريع بعض المسارات. سيناقش
منتدى دافوس فكرة "التصفير العظيم" في دورته القادمة. جوهر الفكرة ان الوباء
كشف للعالم نقاط ضعف مؤثرة ، وقرب احتمالات كانت مؤجلة. وفقا لبعض الباحثين فان الاضطرابات
العمالية في فرنسا نهاية 2019 ، والتظاهرات التي اجتاحت الولايات المتحدة في الشهر
الجاري ، تستدعي مراجعة لفكرة "العقد الاجتماعي" و سبل تحقيق
"العدالة الاجتماعية" ولاسيما التناسب بين دور الدولة والمجتمع المدني
في هذا المجال.
هل لهذا علاقة بالتحول الى العالم
الرقمي؟
في راي علماء مثل مانويل كاستلز، فان تبلور العالم الرقمي يؤدي الى:
أ) تغيير جذري في مفهوم الهوية الشخصية وتركيبها
، اي الجواب على سؤال: من أنا؟.
ب) تغيير مؤثر في معادلات القوة وتوزيعها
في المجتمع والعالم. ستحوز الطبقات
المهمشة دورا اكبرمما عرفه العالم في اي
وقت. وبسببه سوف نرى توزيعا مختلفا للسلطة وراس المال والتاثير الثقافي.
ولعلنا نعود لتفصيل الموضوع في وقت
لاحق.
الشرق الاوسطالأربعاء - 25 شوال 1441 هـ - 17 يونيو 2020 مـ رقم العدد [15177]
نشر ضمن كتاب "ابراهيم البليهي: مفكر ووطن" منشورات منتدى الثلاثاء - اغسطس 2020 ص ص 49-71
الاستاذ ابراهيم البليهي واحد من المفكرين النوادر في المملكة العربية السعودية. اني اشبه دوره التنويري بادوار مفكرين كبار ، مثل جون لوك وجان جاك روسو ، الذين لم يعرفوا كنجوم في عالم الفكر ، الا بعد وقت طويل من طرحهم الأولي لافكارهم. هؤلاء الافذاذ حصلوا على التقدير الذي يستحقونه بعد زمن طويل من رحيلهم. اما انكار الناس لقيمة افكارهم يوم طرحوها ، فسببه أن الناس يكرهون من يحدثهم عن أخطائهم. وسيغضبون عليه أكثر لو أخبرهم ان آباءهم كانوا خاطئين أيضا ، وسيمقتونه أشد المقت ، لو قال لهم ، دون ان يرف له جفن ، بأنهم – فوق كل ارثهم البائس وأخطائهم الحاضرة – عاجزون عن إصلاح انفسهم وحياتهم. هذا ما فعله البليهي على وجه التحديد.
ولكي يزيد الطين بلة ، فانه لم يقل ذلك في كتاب علمي لا يقرأه الا قلة من ذوي الاختصاص. بل قاله في كل مكان استطاع الوصول اليه ، من الصحيفة اليومية ، الى محاضرة في منتدى مفتوح ، الى حديث على التلفزيون. بعض الناس رأوا انه كان على البليهي ان يحافظ على خطاب أقل خشونة مما اعتاد ، كي يتجنب عداوة التيارات القوية في المجتمع. لكن الواضح انه لم يعبأ بمثل هذا الكلام. آخرون حاولوا اقناعه بأن يتحدث في قضايا أخرى ، غير رؤيته الرئيسية التي تسببت في الصدام بينه وبين اولئك النافذين ، لكنه أيضا لا يرى قضية تستحق العناء سوى النظرية التي يدعو اليها ويعمل على بناء اطارها النظري ، اي ما يسميه "علم الجهل".
اختار البليهي ان يذهب مباشرة الى ما يعتقد انه جوهر المشكل الاجتماعي ، كي يعرضه عاريا امام الناس ، دون قلق من ردود الفعل ، التي كانت -كما هو متوقع - قاسية جدا ومؤلمة.
الارث العليل
يعتقد البليهي ان جوهر المشكل الذي يواجه العرب ، هو ان أذهاننا وهويتنا تشكلت تحت تأثير تراث ثقافي عتيق ومنفصل عن زمنه. لقد ورثنا هذا التراث من آبائنا ، وبات من ثم ارضية نبني عليها رؤيتنا لانفسنا وعالمنا ، ونعيد انتاجها كارث جديد ننقله الى ابنائنا. هذا الثقافي متخم بالأساطير التي أبطلها العلم الحديث. هيمنة الموروث الثقافي ليس حالة خاصة بالعرب ، فهو يرى ان "الناس من كل الانساق الثقافية المتضادة ، يلتقون في العقلانية العملية والتنظيمية والفنية والمادية ، وفي كل ما هو مشترك بين كل البشر، لكنهم يفترقون افتراقا حادا في الانساق الثقافية المتوارثة"[1].
تبدو عناصر الثقافة العامة جذابة في عيون اصحابها ، لانها تنسجم مع ما يعرفون من قيم وأعراف. لكنها مع ذلك ليست شيئا ينبغي الحفاظ عليه. لقد أبدعها اسلافنا كاستجابة لظروف خاصة بهم ، في أزمان متفاوتة. ثم ، وبسبب ظروف التخلف والجمود ، وما يفرزه من ميل نفسي شديد لتقديس الأسلاف ، جرى تجريد تلك الاعراف والتقاليد من إطارها التاريخي الخاص ، فباتت مطلقة ، ثم تحولت الى نوع من المسلمات المقدسة او شبه المقدسة ، التي لا يجادلها أحد ، او التي – على اقل التقادير – تثير الفزع ، حين يعترض عليها بعض الناس.
بكلمة واحدة ، هذه الاعراف المقدسة أوهام متراكمة ، وضعناها في مرتبة المعرفة حينا ، وفي مرتبة القيمة حينا آخر ، فتحولت نتيجة لذلك الى جهل مقدس ، او حجاب على العقل ، يريك العالم على نحو غير ما هو عليه في الواقع. ومن هنا ، يرى البليهي ، ان المجتمع العربي غير قادر على التحرر من جهله ، وغير راغب في التحرر أيضا ، لانه لا يرى في هذا الركام الثقافي سوى صورته وصور اسلافه ، على النحو الذي يحبه ويرتاح اليه.
معظم الذين قرأوا البليهي او استمعوا اليه سيشعرون بصدمة ، خفيفة بالنسبة للبعض ، وقاسية للبعض الآخر ، لأنه ببساطة لم يؤجل صراعاته مع أحد كما لم يجامل احدا. ولذا فان أيا من التيارات التي تصارعت في المجتمع السعودي لا ترى فيه حليفا او سندا ، كما انه لا يستطيع الاتكال على أي منها او التعويل على دعمه ، في مواجهة موجات الكراهية والتحريض السلبي التي توجهت اليه في معظم الاوقات.
ليس سهلا ان يكون الانسان ناقدا للجميع ، لانه ليس سهلا ان يكون خصما للجميع. وفي مجتمع تقليدي كمجتمعنا ، فان اي ناقد سيصنف عدوا ، ولن يقر له أحد بالحق في ان يتبنى فكرته الخاصة او قناعاته المختلفة. والحق ان البليهي اختار اصعب طريق ممكن للتعبير عن قناعاته. فقد اصطدم مبكرا بالتيار الديني التقليدي وذراعه المنظم ، وهذا الاخير فريق احترف خوض المعارك وتشويه المعارضين وعزلهم اجتماعيا وتخريب مبادراتهم.
جوهر الرؤية التي يدعو اليها البليهي ، هو السبب في اصطدامه بالتيار الديني التقليدي. هذا تيار يقدس الموروث ، ينظر الى التاريخ كمرجع للأفكار والاراء والمعايير ، ويعلن صراحة انه يسعى لقولبة الجيل الجديد وبرمجته وفق ما يراه صالحا للدين والدنيا.
برمجة الاذهان وادلجة الجيل هي محور جدالات البليهي ، وهي – عنده – سبب العجز المشهود عن التحرر من الجهل المقدس والأوهام الموروثة. وهي بالتالي سبب التخلف الاجتماعي الذي يركد فيه العرب والمسلمون عموما.
يسعى البليهي لتأسيس نظرية جديدة يطلق عليها اسم "علم الجهل". وهو يبني هذه الرؤية على أرضية علمية ، سوسيولوجية وابستمولوجية ، معروفة ومقولاتها رائجة بين دارسي الاجتماعيات والثقافة. ولهذا أيضا فهي تتعرض للنقد الذي يتوجه لتلك المقولات ، فضلا عن النقد الخاص بالعلاقة بينها وبين المستخلصات النهائية.
علم الجهل:
تاسيس "علم الجهل" هو المهمة التي يقول البليهي انه نذر لها حياته. والحقيقة انه من السهولة بمكان ان تلاحظ ان كل احاديثه وكتاباته خلال الثلاثين عاما المنصرمة ، دارت بشكل رئيسي حول هذا الموضوع. دعنا مثلا نستعرض المبرر الذي ساقه الى هذا المسار ، منذ وقت مبكر نسبيا. في 1993 كتب البليهي:
كلما استمعت الى طوفان الاحكام التي يصدرها الناس على كافة القضايا وعلى مختلف الافكار والاشخاص والمواقف والاشياء بشكل جزافي وجائر وخال من الاحساس بمسؤولية الكلمة (....) وكلما اصغيت الى جدال بين مختلفين ، احسست بالحاجة القصوى الى تاسيس علم الجهل ، ليرافق حياة الناشئين منذ البدايات الاولى لطلب العلم ، وليصطحبوه في كل حياتهم ، حتى يدركوا ضآلة ما يعرفون ،قياسا بما لا يعرفون (...)
ان علم الجهل هو المدخل الحقيقي للعلم. لان الناس لا يفطنون ان الجهل في الفرد هو الاصل ، اما العلم فهو شيء طاريء وضئيل وهش . ومع ذلك لا بد من المجاهدة الدائمة لاكتسابه. فالجهل بلا حدود اما العلم فهو تقميش محدود.[2]
المشكلة الجوهرية التي يواجهها الناس في الحياة اليومية ، حسب تقدير الاستاذ البليهي ، هي التعالم الناتج عن الجهل المركب ، اي جهل الانسان بكونه جاهلا "ان جهل الجهل هو اصعب عوائق المعرفة. فالذي يجهل جهله لا يحاول ان يتعلم. والذي تغيب عن ذهنه احتمالات الخطأ ، لا يكون حذرا في اصدار الاحكام"[3]
وهي مشكلة جوهرية لانها تشكل ما يمكن وصفه بسلوك عام عند البشر. معظم الناس يجهلون نقاط جهلهم ، وهي – بطبيعة الحال – اكثر بكثير من نقاط علمهم. اما السبب الذي يرجع اليه البليهي هذه السمة فهي طبيعة البشر في الثقة المطلقة بما استقر في اذهانهم من تصورات او مواقف تجاه البشر والاشياء. [4]
انطلاقا من هذه النقطة يذهب البليهي بعيدا ، واظنه يتجاوز ما هو ممكن بحسب الطاقة البشرية وطبائع الحياة ، فينتقد ما يمكن وصفه بجهل المفكرين "حتى حين يكون الفرد على جانب كبير من التفتح وسعة الاطلاع وعمق المعرفة ، فان النقص البشري يبقى ملازما له ، لان معارفه محكومة باهتماماته وهو في الغالب لا يرى الا ما تجسده هذه الاهتمامات"[5] .
اعتقد ان اشارة البليهي هذه غير مناسبة للموضوع ، لانها تخرج النقاش من الحدود العلمية الطبيعية (النقاش ضمن ما هو ممكن عادة وفق الطاقة البشرية) الى تقديرات مبنية على معايير مثالية متجاوزة ، ولا يمكن التحقق من امكانيتها او صدقيتها. في الحقيقة فان ما لا يستطيعه الانسان لا يعتبر جهلا بالمعنى الذي يعمل عليه الدارسون ، بل هو اقرب الى المعنى الميتافيزيقي للغيب ، والجهل به امر طبيعي ، بل لا يمكن القول بغيره.
لكن للانصاف ، سوف اضع تبريرا لهذا الموقف ، خلاصته ان البليهي ربما اراد من اطلاق هذه الدعوة المثيرة ، الاشارة الى حقيقة نعرفها وهي ان غالبية اهل العلم ، في ظرف محدد ، منسجمون مع التيار السائد ، ممتنعون عن نقده ، لأكثر من سبب ، معرفي او نفسي. فالغرض من اشارة البليهي اذن التشنيع على اهل الفكر المعرضين عن دورهم الرئيس ، اي نقد السائد.
القابليات الفارغة:
يعتقد البليهي ان الجهل هو الاصل. ويعبر عن هذا المعنى بمقولة القابليات الفارغة. خلاصة هذه المقولة ان الانسان يولد بذهن فارغ ، وان المحيط الاجتماعي يقولب عقله ويحدد توجهاته. لهذا فان الانسان يتحول – دون ان يشعر في الغالب – الى نسخة عن المثال الذي يريده المجتمع[6]. وهو يؤكد مرةبعد مرة على تأثير البيئة الاجتماعية في تشكيل الانسان ، ثقافته ولغته وتوجهاته العامة ورؤيته للعالم ، ويضرب مثلا بالانسان الذئب: لو ان انسانا تربى بين الذئاب ، لاصبح مثلهم يعوي مثلهم ويتحرك مثلهم ويأكل مثل ما يأكلون.
هذه الفكرة مثبتة علميا ، وهي الرأي الراجح عند الغالبية العظمى من علماء الاجتماع المعاصرين. لكن البليهي يفترق عن هذا الاتجاه حين يتشكك – بقوة – في قدرة الأفراد على اكتشاف حقيقة الوضع الذي يعيشونه ثم التحرر من أسر البيئة.
وللتوضيح اود البدء بالاشارة الى ان تعبير "قابليات فارغة" ينطوي على غموض في دلالته. القابلية ليست وعاء كي تكون مليئة او فارغة ، بل هي حالة ديناميكية ، توجد في الانسان عند ولادته ، ثم تتطور او تتراجع بتاثير التفاعل بين الانسان ومحيطه. دعني اميز هنا بين ثلاثة أشياء ، كي نستوضح الذي نتحدث عنه:
1-العقل والغرائز
2-القابليات الفطرية /natural endowments
3-القدرات/الامكانات capacities/capabilities
العقل والغرائز: نعرف جميعا ان الانسان يولد مجهزا بالعقل والغرائز ، وهذا مما لا خلاف فيه. العقل على وجه الدقة ، هو اداة فحص وتصنيف وخزن واعادة انتاج المعرفة وتطوير المعرفة. ان عقل الطفل الرضيع قادر على فرز ما يعتبر تهديدا لحياته وما لا يعتبر. مقاومة الفناء هي اقوى الغرائز عند كافة الاحياء. لكنها عند الانسان تتحول الى اداة دفاع عن الذات متطورة وديناميكية ، يعاد انتاجها بشكل فوري بحسب الظروف المحيطة. هذا التطور هو عمل العقل. لكن الغريزة الاخرى ، اي غريزة التملك والتكاثر في المال والعلم والقوة والمكانة ، هي الشاهد الاعظم على عمل العقل. ونستطيع تلمس آثارها عند الاطفال منذ بواكير ايامهم. ان الغرائز ليست سوى ذلك الجزء من العقل ، الذي تمت برمجته في الانسان وهو لازال في رحم أمه ، من قبل الخالق سبحانه وتعالى. المجموعة المتشكلة من العقل وادواته المادية (الحواس الخمس) والادراكية (الغرائز) هي وسيط التواصل بين المخلوق الذي هبط للتو على سطح الارض وبين العالم الذي يستضيفه.
اما القابليات الفطرية ، فهي اما بيولوجية او ذهنية/روحية. الاولى مثل الصحة وسلامة البدن ، وبعضها ارث من الابوين وبعضها الاخر نتاج لتاثير البيئة. اما القابليات غير البيولوجية ، مثل الاخلاقيات والسلوكيات والذكاء ، فلا احد يقول بانها فطرية ، بمعنى انها ضمن تكوين الانسان لحظة ولادته.
لا بأس بالاشارة هنا الى وجود تيار صغير بين علماء الاحياء والاجتماعيين ، يطلق عليه وصف الداروينية الجديدة، يرى ان بعض الصفات غير البدنية تنتقل من خلال الجينات ، مثل الذكاء والقدرة على تحدي عوامل الفناء. واحتمل ان عالم الاحياء الامريكي ادوارد ويلسونهو ابرز القائلين بهذا الرأي في العصر الحاضر. وقد عرضها بالتفصيل في كتابه "البيولوجيا الاجتماعية: التوليفة الجديدة"[7].لكن هذه الرؤية ليست مقبولة عند السواد الاعظم من علماء الاحياء ، فضلا عن الاجتماعيين. كما ان الاستاذ البليهي رفضها أيضا في اكثر من حديث ، من بينها محاضرته في الكويت في 10 يناير 2012.[8]
اما القدرات/الامكانات ، فلم اسمع أحدا من اهل العلم يقول انها وراثية او فطرية. الاجماع قائم على انها نتاج للتفاعل بين الفردومحيطه ، مؤثرا او متأثرا.
زبدة القول ان فكرة "القابليات الفارغة" ليست واضحة ، واذا صح تفصيلنا لها على احد المعاني الثلاثة ، فلن تكون متينة بما يكفي لدعم نظرية الاستاذ البليهي. لكننا سنأخذ منها الجزء الذي يركز على دور البنية الاجتماعية في صياغة الهوية والذهنية.
ماذا يعني ان تكون المشكلة في البنية:
البنيةالاجتماعية ليست قطعة حجر ، فهي كائن حي متفاعل مع المؤثرات المختلفة الداخلية والخارجية. تجري التحولات بشكل مستمر ، وان كان بطيئا في معظم الاوقات ، لكن التحول يتسارع في ظروف الازمة ، ويتحول الى تحول انقلابي حين تكون الازمة شديدة او عاصفة. وحين نتحدث عن تحول في البنية ، فاننا نشير بشكل اكثر تركيزا الى منظومات القيم والاعراف ومعايير العلاقات الاجتماعية التي تشكل ما نسميه بالرابطة الاجتماعية. هذه الرابطة كينونة جمعية واحدة ، تتفاعل – بشكل لين او خشن – مع هموم اعضاء الجماعة وتطلعاتهم ومعارفهم اضافة الى قدراتهم المادية.
التشديد على ثبات البنية على مدى تاريخي طويل ، يجعل البليهي في خط واحد مع العلامة عبد الرحمن بن خلدون ، الذي تحدث عن "طبائع" الشعوب والاقوام. ولا أظن هذا صحيحا. نحن نتخيل تاريخنا ولانعرفه بدقة. ومحاولتنا لفهمه تنطوي على مقاربة رجعية. وهي لا يمكن ان تكون منطقية لانك تريد ان ترى الماضي بعين الحاضر.
مفهوم ابن خلدون بعيد عن مفهوم البنية الاجتماعية المعروف في علم الاجتماع المعاصر. وهو يقع في منتصف المسافة بينها وبين نظرية الحتمية البيولوجية. وارى ان فكرة البنية التي يتحدث عنها البليهي ، اقرب الى مفهوم "الطبائع" الذي ذكره ابن خلدون. بل ان الاستاذ البليهي يذكر ايضا في سياق احاديثه ، عبارات تطابق عبارات ابن خلدون ، مثل عنوان الفصل 26 من "المقدمة" الذي اختار له " باب أن العرب إذا تغلبوا على أوطان أسرع إليها الخراب"[9] والعنوان يكفي عن مزيد البيان.
والحقيقة ان ابن خلدون لم يقل باطلا ، فالادلة على قوله اكثر من ان تحصى. وابرزها ان بعض آثار الامم السابقة للدولة العربية لازالت قائمة ، بينما لم تترك هذه الدولة على اختلاف عصورها اي اثر يشار اليه بالبنان. او انها لم تترك ما يشير الى عناية بالبناء والعمران على نطاق واسع.
وقال ابن خلدون في تبرير هذه الحالة ، ان العرب اميل للتوحش وانكار النظام ، وهم لا يجيدون التعامل مع مكونات البيئة ، فالحجارة التي استعملتها الامم في البناء ، استعملها العرب في نصب القدور للطبخ ، كما ان الاخشاب التي اقيمت بها الاسقف اقاموا بها الخيام ، فضلا عن قيام حياتهم على الغزو والغنيمة والنهب.
انظر كذلك الفصل 28 من المقدمة ، وعنوانه "باب في أن العرب ابعد الأمم عن سياسة الملك"[10] وكذا الفصل 21 "باب في أن العرب ابعد الناس عن الصنائع" والفصل 35 "في أن حملة العلم في الإسلام أكثرهم من العجم"
وقد اغرق ابن خلدون في الكلام عن اختلاف الاعراق وامتياز بعضها بصفات واخلاقيات ، مصدرها تكويني ، رغم انه حاول ايضا ايجاد تفسير في اطار نمط المعيشة والانتاج ، اي ما نسميه اليوم بالاقتصاد السياسي. وللتاكيد ذكر التاثير الشديد للبيئة الاجتماعية والثقافة العامة ، على نمط العيش والاخلاقيات "اعلَمْ أنّ اختلاف الأجيال في أحوالهم إنّما هو باختلاف نِحْلَتهم من المَعاش"[11] و "الإنسان ٱبنُ عَوائده ومَأْلُوفه، لا ٱبن طبيعته ومِزَاجه. فالذي أَلِفَهُ من الأحوال حتّى صار خُلُقًا ومَلَكةً وعادةً، تَنَزّل منزلةَ الطبيعة والجِبِلّة"[12]. لكن لا يبدو ان هذه التفسيرات قللت من اعتقاده في الفوارق البيولوجية. ولعله اعتبر العاملين ، اي الاجتماعي والبيولوجي ، متضامنين في تشكيل الشخصية والسمات الخاصة لكل عرق.
اشرت الى انه لا يظهر في اي من كتابات البليهي ، ما يشير الى تبنيه لمنظور الحتمية البيولوجية ، القائلة بالفوارق بين الاعراق في القابليات الفطرية. لكن الحاحه على الفشل التاريخي للعرب [13]، مضافا اليه تاكيده الشديد على جبر البنية الاجتماعية ، والعسر الشديد للتحرر منها (لا سيما استبعاده الحازم لامكانية اكتشاف الحقيقة ووضع مسافة بين الذات والبيئة) يوقعه في مشكل اساسي ، هو الشك في عقلانية الانسان وخيريته. في الحقيقة هناك اشارات الى تمتع الانسان بهاتين السمتين في انحاء من كلامه عن القابليات الفارغة. لكن تشككه القوي في قابلية الانسان للتحرر ، هو الذي يعطي ايحاء قويا الى تبنيه للمنظور العكسي ، وهذا يتعارض مع مبدأ متفق عليه بين الفلاسفة المعاصرين ، بل هو احد الثوابت في الفلسفة الحديثة ، وهو اعتبار عقلانية الانسان واخلاقيته ، و – تبعا لهذا – قدرته على التصحيح. مما يعزز هذا الظن اشاراته احيانا الى ما يشبه مفهوم الجبر ، يقول مثلا في شرحه لمفهوم التلقائية:
" الانسان كائن تلقائي ، يحب رغما عنه ، ويكره رغما عنه ، ويقلق رغما عنه ، ويخاف رغما عنه ، ويفر من المخيف بشكل تلقائي ، ويصاب بالارق وتنتابه مختلف الانفعالات دون ارادته . انه يصاب بالكرب رغما عنه ويجب نفسه مدفوعا تلقائيا للتعبير عما يتفاعل ويغلي في داخله.."[14]
مخرج محتمل
وفقا للبليهي فان العقل البشري يخضع لتاثير نظم تفكير ثلاثة:
أ-نظام التفكير التلقائي المتوارث الذي يجده الانسان في البيئة المحيطة منذ اطلالته الاولى على العالم. هذا النظام يتشكل ضمن منظومة من القيم والاعراف والاوهام التي تحولت مع الزمن الى ما يشبه برنامجا ثابتا ونهائيا في حياة الجماعة وعقلها بحيث لا ترى شيئا سواه ، لا ترى حقا ولا باطلا ولا شيئا محايدا الا عبر الموازين والمناظير التي توفرها هذه المنظومة او النسق.[15]
ب-نظام التفكير العملي ، اي مجموعة المعلومات والمعايير التي يتعامل بها ومعها الانسان في حياته اليومية ، التي قد يتشارك فيها او في بعض جوانبها مع اشخاص لا ينتمون الى اطاره الثقافي الخاص. وهذا يطابق وفق البليهي مفهوم "الحكمة العملية" عند ارسطو. التفكير العملي محكوم من حيث المبدأ بنظام التفكير التلقائي السابق الذكر ومعاييره فيما يخص رؤية العالم. لكنه يختلف عنه في الاداء العملي او المهني حيث يتبع منطق المهنة وقواعدها التي قد تكون اكثر تطورا او مختلفة تماما عن النظام الاول.[16]
ت-نظام التفكير الفردي الريادي الاستثنائي: وهو نظام فلسفي ناقد ومضاد للنظام الاول. ويعتقد البليهي انه ليس ممكنا لهذا النظام ان يكون اسلوب حياة للجماعة. انه ميزة يتمكن منها بعض الافراد فحسب. ان الاختراقات العملية الكبرى نادرة جدا ، لان الاشخاص الذين يتمتعون بالمواصفات التي تتطلبها – وابرزها امتلاكهم لنظام التفكير هذا - قلة نادرة.[17]
حين تستغرق في قراءة الاستاذ البليهي ، فقد تشعر بانه لا يقترح شيئا سوى الوقوف امام طريق مسدود وربما البكاء على اطلال الذات المهشمة. لكن حديثه عن التعليم والانسان المفتوح للتغيير ، قد يكون مخرجا محتملا من اليأس. مع انه يضع شروطا لنجاح هذا الدور ، قد لا تتوفر في الاعم الاغلب من نظم التعليم في العالم. على اي حال لا ينبغي اخذ الكلام في حدوده القصوى. ثمة دائما نقاطة في الوسط يمكن اعتبارها مؤشرا على هذا الاتجاه او ذاك.
مهمة التعليم حسب راي البليهي ليست تكديس المعلومات في اذهان الطلبة ولا سرد الاحداث واستظهار الوقائع ، بل تطوير العاقل الناقد المتسائل ، العقل الذي يشعر دائما بالحاجة الى المزيد ، وليس العقل الذي يشبه وعاء امتلأ فاكتفى بما فيه.[18] بعبارة اخرى فان التعليم – في صورته المثلى – سيبني الذهنية المتسائلة الناقدة ، التي تنتمي للنوع الثالث من نظم التفكير ،بحسب الشرحالوارد في السطور السابقة.
الانسان مشروع مفتوح النهايات
رغم عسر التحرر من البرمجة الاجتماعية ، فان الانسان قادر على ذلك. لا يمكن انكار هذا. هذا ما يميز العقل الانساني عن الادراكات الغريزية للحيوان
"القطاة تهتدى الى وكرها في الفلاة دون تردد او بحث (...) لا تتوه ولا تتردد ولا تبحث ، انما تنجذب الى وكرها الخفي كما ينجذب الحجر الى الارض."
"دودة القز تنسج خيوط الحرير بنفس الطريقة وعلى نفس المستوى من الدقة منذ ان وجدت والى ان يرث الله الارض ومن عليها.
والقط يقفز من جدار الى اخر بمهارة يغبطه عليها لاعبو السيرك وبرشاقة لا يستطيعها الانسان الا بتدريبات مضنمية ومتواصلة.
انه التكوين الناجز والبرمجة المكتملة .. لان الحيوانات موجهة غريزيا وليست متروكة لجهدها ولا موكولة لاختيارها .. ولذلك لا يعتريها النقص ولا تتعر للخطا في حدود المهام التي خلقت من اجلها
اما الانسان فهو بمثابة مشروع مقترح ، فهو مفتوح لكل احتمالات التالق والانطفاء .. ولكل مستويات الفجاججة والنضج.."[19]
انعتاق الفرد من رق اهوائه وتخففه من هيمنة البرمجة التي صاغه بها مجتمعه ، يجعله قادرا على توجيه حياته بالمستوى اللائق بالانسان.
"ان مرونة العقل البشري مزية عظيمة ، لكن عفونة التقاليد احالت هذه المزية الى رزية . فالعقل المفتوحللفهم عند الولادة ..استحال بالتنشئة الى عقل مغلق بالتعصب"[20]
انتاج العلم والثورات العلمية
من المحاور التي اظنها رئيسية في فكر الاستاذ البليهي ، دور الفرد الاستثنائي في النهضة. وخلاصة رؤيته في هذا الخصوص هي ان البحث العلمي العادي ، بكل ما فيه من علماء ومؤسسات بحث وجامعات ، لا ينتج علما عظيما. العلم العظيم يتوصل اليه افراد استثنائيون حالمون ، في لحظة توهج للحلم او الخيال الذي يتجاوز كل ما هو واقعي او متعارف او مألوف. وفقا للبليهي فانه ثمة "خلط شديد التضليل وفادح الضرر بين الاختراقات العبقرية التي تتحقق بواسطة الاهتمام التلقائي القوي المستغرق ، وبين البحث العلمي الرتيب بواسطة الالتزام باحد المناهج العلمية وخطواته التقنية"[21]
حين تقرأ هذه الفكرة بمفردها ، سوف تتذكر – على الارجح – نظرية توماس كون في تقدم العلم ، التي شرحها في كتابه المرجعي "بنية الثورات العلمية"[22]. ميز كون بين مرحلتين في تقدم العلم: مرحلة العلم العادي حيث يقتصر دور الباحثين على ما يسميه "حل الكلمات المتقاطعة" اي العلم تحت سقف نظرية اساسية متوفرة فعليا[23]. هذه النظرية ليست مجرد رأي بل منظومة كاملة من الفرضيات الاساسية وتعريف موضوعات العلم والمنطلقات ومعايير التقييم وطرق البحث والقياس والمعايرة وصولا الى تقييم النتائج. ان اي علم ينتج في هذا الاطار لن يختلف – وفقا لتوماس كون – عن السياق السائد فعليا. ولذا لا نتوقع اختراقات كبرى في مرحلة العلم العادي او في اطار البارادايم الذي يتمثل في النظرية والمنظومة السابقة الذكر.
تحدث الاختراقات حين يكتشف عالم ما عجز ادوات المنظومة اياها عن حل المعضلات او الاشكالات التي تظهر في نفس البيئة العلمية ، اي ضمن حدود الباراديم ، ويعجز انصار البارادايم عن تبرير اسباب هذا العجر او انكار جديته[24]. هذا الاكتشاف سوف يزعزع الثقة الراسخة في البارادايم السائد ويفتح الباب امام بديل عنه. واذا نجح اي بديل في استقطاب الاهتمام ، فسوف ينفر الناس اليه ويتخلون عن سلفه في حركة تشبه قفزة بين عالمين. وهذا ما يسميه توماس كون بانقلاب البارادايم او الثورة العلمية ، ويعزو اليها اهم لحظات التحول الكبرى في تاريخ العلم[25].
ملاحظة اخيرة
لقدأجاب الاستاذ البليهي عن سؤال: ما هو الطريق للخلاص من الوضع السائد محل النقد ، اجاب بان الحل يكمن في متابعة الامم التي تقدمت والاحتذاء بتجربتها ، مثلما فعل اليابانيون والكوريون في النصف الثاني من القرن العشرين.
هذا الاقتراح يواجه معضلتين مهمتين: اولاهما تشديده على عسر التحرر من الزامات البنية الاجتماعية ، والحاحه الموازي على ما يمكن ان اسميه بالحالة السكونية للعقل الذي تشكل في هذا الاطار. فكيف يمكن لانسان تسكنه حالة جهل مركب – وفق تصوير البليهي – ان ينظر للاخرين نظرة التلميذ ، مثلما فعل الكوريون واليابانيون؟.
في اعتقادي ان الفكرة القائلة بان الانسان العربي يعاني من جهل مركب ، ليست دقيقة ، وان القسر الشديد للبيئة على النحو الذي صوره الاستاذ البليهي ، ليست صحيحة هي الاخرى. في كل الاوقات يمكن للانسان ان يتحرر – ولو لوقت يسير – من انحيازاته ويستذكر المباديء الاولية للعدالة كمعيار حاكم على علاقته مع الغير ، وفق التصوير الذي قدمه الفيلسوف المعاصر جون رولز ، عن الموقف الاصلي وحجاب الغفلة ، وعلاقتهما بقابلية الانسان لاكتشاف الخير والعدل[26].
أود الاشارة ايضا الى نهوض المشاعر الفردانية في العقدين الاخيرين ، وتسلحها بالقدرات الاتصالية الواسعة التي اتاحها تطور تقنية الشبكات والاتصالات ، حتى بات ممكنا لشاب ذكي في مكان ما من العالم ان يطلق فكرة ذكية يتلقاها الاف الناس ، فتصنع تيارا يؤثر بعمق في حياة العالم. ان الجيل الجديد من سكان العالم – ومنه العرب والمسلمون دون استثناء – يشكل هويته وشخصيته وثقافته من خلال مسارات تواصلية مكثفة تتجاوز النطاقات التقليدية ، اي العائلة والقوم والبيئة المحيطة. لم يعد ابناؤنا يشبهوننا الا قليلا ، وسيكون ابناؤهم اقل شبها بنا وبهم ، واكثر تشربا بالرؤى والتصورات التي تنتشر في شبكات الانترنت وتجوب العالم. واود احالة القاريء الى الرؤية العميقة ، التي قدمها البروفسور مانويل كاستلز ، حول اجتماعيات الشبكة وتوليف الهوية وتحولات القوة في عصر الانترنت[27]. يساعدنا تحليل البروفسور كاستلز على فهم ابعاد التحول الذي تمر به المجتمعات والثقافة وموازين القوى وخطوط التاثير في العالم ككل. ما يتعرض له الجيل الجديد في كل ارجاء العالم ، من تداعيات العولمة وتبدل مكونات الهوية والثقافة ، يتعرض له الجيل العربي أيضا ، وليس لدينا دليل يبرر استثناءه من هذا التحول العميق الذي يؤثر في حياة العالم شرقه وغربه.
في ختام هذه الكتابة ، اود العودة الى ما بدأت به من تأكيد على العمق الاستثنائي للرؤية التي يطرحها الاستاذ البليهي ، كما اثني على شجاعته الفائقة في تحمل الهجمات المتوالية والبغضاء المستمرة من جانب القوى التي نصبت نفسها حارسة للموروث المتخلف ، فضلا عن الأقلام التقدمية التي لم تستطع احتمال تصنيفه اياها كجزء من مركب التخلف الثقافي.
في بلدنا خير كثير ، وليس ادل عليه من وجود اشخاص مثل ابراهيم البليهي ، الذي كان قادرا على الاستمرار والتطور ، رغم كل المعوقات الاجتماعية وغير الاجتماعية.
[13]انظر مثلا حديث البليهي الى قناة العربية: فهد الشقيران: البليهي: العرب أعاقوا الحضارة واليونسكو تحمي التخلف ، موقع قناة العربية 15 نوفمبر 2016 https://bit.ly/2XrFE88