‏إظهار الرسائل ذات التسميات صراع الاجيال. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات صراع الاجيال. إظهار كافة الرسائل

19/10/2023

الناس شركاء في صياغة الحياة الدينية


ذكرت في مقال سابق انني مؤمن بان كل جيل من أجيال المسلمين ، له الحق في صياغة النموذج الذي يراه مناسبا للايمان والتدين في عصره. وان هذه القناعة تعني امكانية ان يكون لكل عصر نموذج في الحياة الدينية ، مختلف عن العصور السابقة.

وكنت قد طرحت هذه الفكرة قبل سنوات على أستاذ لي ، فأجابني بالقاعدة المعروفة في الفلسفة اليونانية "لكل سؤال صحيح ، جواب واحد صحيح ، ولا يمكن ان يكون اكثر من واحد". وتطبيق هذه الفكرة ان الشريعة مجموع اجوبة الدين على أسئلة الحياة ، لكل مسألة حكم واحد هو ما قاله الله او الرسول.

أظن ان معظم من يسمع هذا الكلام ، سيأخذه كأمر بديهي. لأنه يبدو معقولا ومطابقا لما تعلمناه منذ الصغر.

رغم ذلك ، فهو لا يمنع تساؤلات جدية ، أولها: من قال انه بديهي. واذا كانت الشريعة كاملة ناجزة منذ حياة النبي ، فلماذا اجتهد القضاة والائمة والفقهاء على امتداد القرون التالية حتى يومنا ، فابدعوا آلاف الاحكام والتفاسير التي لم يعرفها زمان النبي؟.

قد يظن القاريء العزيز ان دور الفقيه مقتصر على تطبيق الآيات والأحاديث على القضايا الجديدة. وهذا غير صحيح. لأن السؤال الجديد وليد ظرف جديد ، فيحتاج لاجتهاد في تحديد الموضوع ، واجتهاد في تحديد النص الذي يناسبه. وكلا الاجتهادين عمل بشري يعتمد قواعد العلم والمنطق. ونعلم ان عمل العقل محكوم بخلفية صاحبه ، الثقافية والاجتماعية ، فضلا عن المستوى العام للمعرفة في زمنه. واحيل القاريء الى ما نقله الدكتور حيدر اللواتي عن عدد من كبار المفسرين والمحدثين المسلمين ، الذين انكروا كروية الارض ، اعتمادا على آيات او أحاديث توحي بانها مسطحة (الرؤية 16 اكتوبر). فهؤلاء الأعلام افترضوا انه لا يمكن مخالفة النص ، حتى لو قام الدليل على مخالفة الواقع لمفاده. لا نتوقع طبعا ان يأتي مفسر او فقيه معاصر بمثل هذا ، لأن الزمن تغير. ان الافق التاريخي للناس (ومنهم صاحب الفكرة) يحدد طريقة فهم الموضوع وطريقة البحث عن جوابه. وبالتالي فان رأي الفقيه او المفسر الذي نظنه مطابقا لمفاد النص ، هو في الحقيقة فهمه الخاص او الفهم السائد في زمنه. ولهذا يتغير مع تغير الزمان وموضوعات الحياة واساليبها ، فضلا عن تطور المعرفة واتساع ادراك الانسان لحقائق الطبيعة. اي ان الجواب الذي ظن انه الوحيد الصحيح ، ليس سوى الاحتمال الراجح في زمنه والمتناسب مع مستوى معارفه. وحين يتغير الزمان وتتسع المعرفة ، فسوف يكتشف الناس احتمالات بديلة.

ان استقلال العلوم عن بعضها ، واتجاهها للتخصص الدقيق هو اهم التحولات التي حصلت في القرنين الاخيرين. وبسببه ما عاد الفقيه قادرا على الاحاطة بعلم الطب او الهندسة او الفلك او الرياضيات ، كما كان الحال في الماضي. بل حتى العلوم اللصيقة بدراسة الشريعة ، تحولت الى تخصصات متوسعة ودقيقة ، لا يمكن للفقيه ان يتفوق على المختصين فيها. ومن ذلك علوم النحو واللغة والادب والمنطق والفلسفة والتاريخ ، وكذلك العلوم الخاصة بالاثبات وفهم النزاعات ، ومثلها العقود والتعويضات. وهي مما يحتاجه القضاة.

ان اعتماد العلوم المختلفة في تشخيص موضوعات الحكم الشرعي ، وارتقاء فهم الفقيه نتيجة اطلاعه على العلوم الجديدة التي تطورت بعيدا عن مدارس العلم الشرعي ، هي ما نسميه مشاركة عامة الناس ، مسلمين وغير مسلمين ، في فهم موضوعات الشريعة ، ثم في صياغة احكام الشريعة.

ما ندعو اليه اذن هو اقرار المشتغلين بالفقه ، بأنهم يعتمدون في كثير من عملهم على العلماء في الحقول الاخرى. فاذا كان لعمل الفقيه قيمة ، فان جانبا منها يرجع الى أولئك. هذا ببساطة ما نسميه مشاركة اجيال المسلمين في صوغ حياتهم الدينية وتجربتهم الدينية. انه واقع قائم ، لكنه يحتاج الى اقرار وتنظيم.

الشرق الاوسط الخميس - 04 ربيع الثاني 1445 هـ - 19 أكتوبر 2023 م

https://aawsat.com/node/4614221


مقالات ذات علاقة

تأملات في حدود الديني والعرفي

تجديد الخطاب الديني: رؤية مختلفة

ثوب فقهي لمعركة سياسية

حول الحاجة الى فقه سياسي جديد

حول تطوير الفهم الديني للعالم

دعوة التجديد بغيضة.... ولكن

دعوة لمقاربة فقهية جديدة

دور الفقيه ، وجدلية العلم والحكم

الـدين والمعـرفة الدينـية

رأي الفقيه ليس حكم الله

العلم في قبضة الايديولوجيا: نقد فكرة التاصيل

عن الحاجة إلى تجديد الفقه الإسلامي

عن الدين والخرافة والخوف من مجادلة المسلمات

فتاوى متغيرة : جدل المعاصرة في التيار الديني

فتوى الجمهور لا فتوى الفقيه

فقه جــديد لعصر جـديد

الفكــرة وزمن الفكـرة

في رثاء د. طه جابر العلواني

كيف تتقلص دائرة الشرعيات؟

نسبية المعرفة الدينية

نظرة على علم اصول الفقه

نفوسنا المنقسمة بين عصرين

نقد التجربة الدينية

هيمنة الاتجاه الاخباري على الفقه

هيمنة النهج الفقهي على التفكير الديني

12/10/2023

بدايات الانقسام الاجتماعي


النتيجة التي انتهى اليها مقال الاسبوع الماضي ، لم تلق هوى عند كثير من القراء الاعزاء ، بل اثارت بعض الجدل ، ولاسيما حول الربط بين ازمة الهوية وتراثنا الثقافي. فقد ذكر هناك ان هذا التراث "يريد للفرد ان يكون تابعا مطيعا ، لا مشاركا او صانعا للقيم التي تقود حياته". رأى الناقدون ان هذا ينطوي على تعريض بموقف الانسان من دينه. وتساءل أحد الاصدقاء: لماذا نجد الدين في كل جدل حول تحولات المجتمع.. الا يمكن ان نغض الطرف أحيانا؟.

يهمني هنا ايضاح فكرة ، اظنها غائبة عن أذهان بعض القراء الاعزاء. وخلاصتها ان التحولات الجارية في حياة المجتمع ، على مستوى العلاقات الداخلية والثقافة والاقتصاد والسياسة ، تتأثر من حيث السعة والعمق ، بعوامل عديدة ، سوف اركز على ابرزها في اعتقادي ، وهو الحدود الخاصة بالبنية الاجتماعية.

دعنا نتخيل النظام الاجتماعي شبيها بجسد الانسان ، الذي يتلقى تأثيرات الطقس والمشكلات الحياتية الاخرى ، فيقاوم بعضها ، ويتكيف مع البعض الاخر ، فيتعايش معه ، او يتفاعل فيؤثر فيه ويتأثر ، يزداد قوة او يضعف. ومثل هذه الحالات تحصل للمجتمع حين يتعرض للمؤثرات الخارجية ، مثل التحولات الاقتصادية والسياسية الكبرى او الحروب او الكوارث.

لا تأتي تلك المؤثرات على نسق واحد. كما ان المجتمع لا يتعامل معها بنفس الطريقة في جميع الأوقات. وقد ذكرت في الأسبوع الماضي ان التحولات العميقة في المجتمع السعودي ، ترجع للعقدين الأخيرين من القرن العشرين ، نظرا لنضج التنمية الاقتصادية وتغلغل انعكاساتها في مختلف الأوساط. وللاطلاع على بحث تفصيلي عن تأثير هذا العامل ، اقترح العودة الى كتاب د. سعيد الغامدي "البناء القبلي والتحضر" الذي قدم صورة مفصلة عن الحراك الاجتماعي ، لحظة استقبال أولى انعكاسات الاقتصاد الجديد ، في قرية زراعية جنوب المملكة. ان التأمل في هذه الحادثة تعين على فهم العديد من الظواهر التي عرفناها خلال السنوات التالية ، فيما يخص التكوين الاجتماعي وتوزيع مراكز القوة ، المعنى الاجتماعي للمال والثروة ، موقع المرأة في المجتمع والاقتصاد ، والموقف من الاخر الديني او المذهبي.

الذي حصل في سنوات التحول الاقتصادي تلك ، عبارة عن عاصفة هائلة القوة ، تمثلت في برامج التنمية الاقتصادية ، هبت على مجتمع ساكن ومستقر. ازدهار الاقتصاد يؤدي – بطبعه – الى تعزيز الفردانية على حساب الروابط الاجتماعية ، كما يحرك الطبقات ومواقع الافراد في سلم التراتب الاجتماعي ، فيرفع بعض من كان في المراتب الدنيا ويهبط بمن في الاعلى ، ويأتي بأفكار جديدة متعارضة – بالضرورة – مع الموروث والسائد. وتجري هذه كلها في وقت قصير ، فلا يتسع المجال للنظام الاجتماعي كي يعيد ترتيب أوراقه او ينظر في القادم الجديد. لهذا يعود المجتمع الى موقفه المفترض في الاصل ، اي الرفض والمقاومة. هذه المقاومة تمهد – شئنا ام ابينا – لانقسام اجتماعي ، بين المستفيدين من الوافد الجديد والمستفيدين من الوضع السابق.

المثال البسيط هو الاب الذي استمد جانبا من سلطته من انفاقه على ابنائه وبناته ، وسوف يخسر هذه السلطة اذا التحق الابناء بالوظائف ، وباتوا اغنى من والديهم. هؤلاء الابناء لن يحتاجوا أيضا الى الواعظ ، فقد صار بوسعهم مراجعة الكتب التي توفر معرفة تشبه ما يقوله الواعظ. ولن يحتاجوا شيخ القبيلة او كبير القرية للواسطة او الحماية ، فلديهم الشهادة المدرسية التي تمكنهم من الالتحاق بسوق العمل دون واسطة.

اظن ان هذا الشرح الموجز قد اوضح لماذا كان الدين في قلب جدالات التحول الاجتماعي. اما ما يخص مشاركة الناس في صياغة حياتهم الدينية ، فيحتاج معالجة اوسع ، ربما اعود اليها في مقال قادم.  

الخميس - 27 ربيع الأول 1445 هـ - 12 أكتوبر 2023 م

https://aawsat.com/node/4600181/

مقالات ذات صلة

استمعوا لصوت التغيير

اعادة بناء القرية .. وسط المدينة

سجالات الدين والتغيير في المجتمع السعودي (كتاب)

صناعة الشخصية الملتبسة

طريق التقاليد

عالم افتراضي يصنع العالم الواقعي

على اعتاب الثورة الصناعية الرابعة

العولمة فرصة ام فخ ؟

غلو .. ام بحث عن هوية

 ما الذي يجعل الانترنت مخيفا للزعماء التقليديين ومحبوبا للشباب

من جيل الى جيل

النقلة الحتمية : يوما ما ستنظر الى نفسك فتراها غير ما عرفت

هكذا نتغير... مختارين او مرغمين

هوية سائلة؟

وعي المستقبل

 

19/01/2022

كثرة المتحدثين وسيولة الأفكار

 

كل تحول اجتماعي تصاحبه سيولة في الافكار والمفاهيم ، تؤثر على عقائد الناس واعرافهم ، وبالتالي مواقفهم الفكرية والاجتماعية.

-        ماذا نعني بالتحولات الاجتماعية وسيولة الافكار؟.

تأمل وضع السعودية اليوم: هل تلاحظ التغير الحاصل في الشخصيات المرجعية ، في تركيب قوة العمل ، في العلاقات الاجتماعية ، مفهوم ومحتوى "وقت الفراغ" ، نوعية القيم الموجهة ، وفي لغة النقاش العام وموضوعاته؟. وهل تلاحظ التغير في منظومات الادارة الوسطى وبعض العليا ، في الادارة الرسمية والقطاع الخاص؟.  انشغالات الناس واهتماماتهم ومواقفهم ومواقعهم؟. اذا كنت تلاحظ هذا ، فانت ترى جانبا مما نتحدث عنه.

يتحول المجتمع حين تتغير طريقة الناس في التعبير عن انفسهم ومواقفهم. وتبعا لهذا تتغير  موضوعات النقاش بين الناس ، في لغتها وفي اتجاهاتها ، من توكيد المألوف والمتعارف الى معارضته وابتداع قيم واعراف جديدة.

حصل هذا في اوائل القرن الجاري مع تعرف جمهور الشباب على الانترنت. وهو يعود اليوم على نطاق اوسع ، مع نضج الجيل الجديد ، لاسيما الذين أتموا تعليمهم الجامعي خلال السنوات العشر الأخيرة ، والذين يتمتعون بقدرة على الوصول الى المعلومات وجرأة على التعبير عنها ، تتجاوز كثيرا ما يملكه الجيل السابق ، فضلا عن الذي قبله.

أما سيولة الافكار ، فتعني كثرتها وتنوع مجالاتها ، وكثرة "المتحدثين في العلن". واريد استعمال هذا التعبير بدل تعبير "المتحدثين في الشأن العام" كما هو متعارف ، لأني أرى للحديث في العلن ميزات تشابه الحديث في الشأن العام ، لكنه اوسع منه وأعمق تأثيرا. الحديث في العلن يعني خروج الفرد من حالة التلقي والانفعال ، الى حالة الالقاء والفعل او التفاعل. وهذا يعادل ما نسميه تبلور "الفردانية" ، أي شعور الفرد بكينونته المستقلة ، وكونه صاحب إرادة مستقلة عن إرادة الجماعة التي ينتمي اليها او يعيش في وسطها. الحديث في العلن قد يشمل أشياء قليلة القيمة او حتى تافهة ، لكنه مع ذلك يعبر عن نزوع استقلالي.

   تكاثر المتحدثين في العلن يؤدي لظهور الافكار المخالفة للسائد ، في كل مجال ، من السائد الديني الى السياسي الى الأدبي والفني والمهني والتجاري.. الخ. وهذا يستثير رد فعل الطبقات المحافظة والمستفيدة من  الاعراف الموروثة ، فتشتبك مع المتحدثين الجدد ، فينقسم المجتمع بين هذا القطب وذاك ، ويزداد تبعا لذلك عدد المتحدثين على الطرفين وعدد الافكار المطروحة ، كما ان الجدل فيها يزيدها عمقا ومتانة ، حيث ان التراكم الكمي يولد تراكما كيفيا ، كما يقال.

 لكن سيولة الافكار ، وظروف التحول ذاتها ، تسبب فوضى عارمة في المفاهيم ، اي اختلاف الصور الذهنية للشيء الواحد بين شخص وآخر. اظن ان كثيرا من الناس قد لاحظ النقاشات التي تشابه ما يسمونه حوار الطرشان ، حين يتجادل اشخاص كثيرون حول مفهوم معين ، ثم يتبين لاحقا ان هذا المفهوم مجرد اسم ، أما صورته الذهنية ومضمونه فمتعدد بعدد الذي يتجادلون حوله.

لست متشائما من سيولة الأفكار ولا فوضى المفاهيم ، فهي ظرف انتقالي يصعب تفاديه. وأظنه سيوصلنا الى نمط حياة ليبرالي وعقلاني. لكنني أردت لفت نظر القراء الأعزاء للتدقيق في المفاهيم والمسميات التي يسمعونها او يقرأونها ، للتحقق من مطابقتها لتصورهم الذهني عن ذات المفهوم او المسمى. لقد لاحظت هذا بشكل واسع حين كتبت حول العدالة الاجتماعية والمساواة والحرية ، وعن المسافة بين المصلحة الشخصية والعامة ، لاحظت ان الناس يتحدثون عن العدالة وهم يبررون التمييز بين الناس ، او ينكرون الحرية بدعوى صون المصلحة العامة .. وهكذا.

الشرق الاوسط الأربعاء - 16 جمادى الآخرة 1443 هـ - 19 يناير 2022 مـ رقم العدد [15758]

https://aawsat.com/node/3422476/

 

مقالات ذات علاقة

 

 

استمعوا لصوت التغيير

التعليم كما لم نعرفه في الماضي

حان الوقت كي يتوقف الحجب الاعتباطي لمصادر المعلومات

سجالات الدين والتغيير في المجتمع السعودي (كتاب)

شغب الشباب في اليوم الوطني   

صناعة الشخصية الملتبسة

عالم افتراضي يصنع العالم الواقعي

على اعتاب الثورة الصناعية الرابعة

العولمة فرصة ام فخ ؟

من جيل الى جيل

غلو .. ام بحث عن هوية

الفقر والإحباط والغضب

فلان المتشدد

ما الذي يجعل الانترنت مخيفا للزعماء التقليديين ومحبوبا للشباب ؟

معنى ان يكون التعليم العام واسع الافق

نقد مقولة "التغرير"

النقلة الحتمية : يوما ما ستنظر الى نفسك فتراها غير ما عرفت

هكذا نتغير... مختارين او مرغمين

هوية سائلة؟

وعي المستقبل

 

17/11/2021

عالم افتراضي يصنع العالم الواقعي

 

يرجع اهتمامي بعالم الاجتماع الامريكي مانويل كاستلز الى تحليله البارع لمفهوم "الشبكة" ، ودورها المحوري في تشكيل عالم اليوم. وقد تعرفت عليه خلال دراستي لتحولات الهوية الفردية ، ودور انظمة الاتصال الجديدة والصراعات السياسية ، في تفكيك الهويات الموروثة.

يمتاز المفكرون الأذكياء بهذه القدرة الباهرة على التقاط الافكار العميقة ، واستخدامها مفتاحا لمسار او نسق فكري جديد. اميل الى الاعتقاد بأن كاستلز التقط فكرة "الشبكة" من كتابات كارل ماركس. فهي تمثل عنصرا محوريا في تحليل ماركس لنشوء الراسمالية ، ولا سيما في شرحه لدور التواصل الفعال بين قوى الانتاج ، في تكوين فائض القيمة ، ومن ثم اعادة تكوين راس المال ، وهي المعادلة التي اعتبرها مفتاحا لفهم الاقتصاد الرأسمالي.

كارل ماركس

التقط كاستلز فكرة الشبكة ، واتخذها مدخلا لنقاش مبتكر ، حول الصيغ والاشكال الجديدة لقوى الانتاج (التكنولوجيا) ، لاسيما مع حلول الاجهزة الالكترونية محل نظيرتها الميكانيكية في الصناعة والسوق ، خلال الربع الأخير من القرن العشرين.

 احد الاسئلة المحورية التي طرحها كاستلز يتناول العلاقة بين قوى الانتاج والمكان. فقد لاحظ ان موقع الانتاج ، سواء كان مصنعا او مزرعة او سوقا تجارية ، يمثل قيدا على حجم ومستوى التواصل بين أطراف العملية الانتاجية. إذا كنت (في اوائل القرن العشرين) تصنع المحركات في وسط انجلترا على سبيل المثال ، فان وصولها الى اي نقطة في العالم خارج الجزر البريطانية ، مشروط بحجم الناقل (السفينة) وزمن الوصول ، فضلا عن القيود المرتبطة بالأمن والسلامة.

اختلف الامر تماما في أواخر القرن العشرين. حيث باتت الاجهزة "الالكترونية" قاطرة التطور التقني على مستوى العالم. هذه الاجهزة الصغيرة الحجم الخفيفة الوزن ، تعمل بشكل رئيسي في معالجة البيانات ، وليس الحركة الميكانيكية للاجزاء. ومع وصولنا الى عصر الانترنت ، فقد أمست البرامج والتطبيقات "البيانات/السوفتوير"  قوة الانتاج الرئيسية في كل أجزاء الاقتصاد ، من المصارف والمؤسسات المالية الى المصانع الى انظمة الاتصال والنقل ، الى التعليم والصحة والاعلام والترفيه.. الخ.

لاحظ كاستلز ان قوة الانتاج الجديدة (البيانات) ليست مشروطة بالمكان ولا تحتاجه ، مثلما كان الحال في عهد الاجهزة الميكانيكية. كل ما تحتاجه قوة الانتاج هذه هو "مساحة" للتدفق ، مساحة يمكن صناعتها أو تطويرها في العالم الافتراضي. ومن هنا فان المسافات لم تعد ذات اهمية أو تأثير. اذا كنت تستطيع الدخول على شبكة الانترنت في الرياض مثلا ، فانت قادر على التواصل مع اي شخص لديه حساب على الشبكة في ساوباولو او لوس انجلس او نيودلهي ، حتى أصغر مدينة في قلب سيبريا. المسألة لا تنحصر في التواصل الشخصي ، بل بات بالامكان القيام بعمل كامل في عالم يسمونه افتراضيا ، لكنه يصنع العالم الواقعي. الشبكة تحولت الى نسيج هائل الحجم ، يماثل العالم الحقيقي. كما ان قوى الانتاج لم تعد محصورة في اطراف السوق ، بل بات كل شخص في العالم جزء من شبكة المعلومات ، فاعلا او متفاعلا او منفعلا.

على هذه الارضية ، تساءل كاستلز: كيف يؤثر هذا التحول على مفهوم الدولة ، وعلى الرابطة الاجتماعية وهوية الفرد؟.

انتبهت اليوم الى سؤال لم اجده عند كاستلز ، يتناول العلاقة بين اتساع الاعتماد على سلاسل البيانات المشفرة (البلوكشين) ، وبين الضمور المتوقع لدور الدولة كضامن للملكية الخاصة. البلوكشين يلغي الحاجة الى "كاتب العدل/الشهر العقاري" وسجلاته ,، فهل سيؤثر هذا على مفهوم الدولة وادوارها؟.

الشرق الأوسط الأربعاء - 12 شهر ربيع الثاني 1443 هـ - 17 نوفمبر 2021 مـ رقم العدد [15695]

https://aawsat.com/home/article/3307956/

مقالات ذات صلة

النقلة الحتمية : يوما ما ستنظر الى نفسك فتراها غير ما عرفت

هل تعرف "تصفير العداد"؟

ما الذي يجعل الانترنت مخيفا للزعماء التقليديين ومحبوبا للشباب ؟

حان الوقت كي يتوقف الحجب الاعتباطي لمصادر المعلومات

استمعوا لصوت التغيير

على اعتاب الثورة الصناعية الرابعة

معنى ان يكون التعليم العام واسع الافق

العولمة فرصة ام فخ ؟

التعليم كما لم نعرفه في الماضي

 

07/01/2015

استعادة الايمان بالذات




قد يكون الاحباط من اكثر المشاعر التصاقا بالاجيال الجديدة ، في الامم المتقدمة والمتخلفة على السواء. هذا يرجع الى سعة الفوارق بينها وبين الاجيال السابقة ، في انماط المعرفة والحاجات والتوقعات. اسئلة مثل: لماذا عجزنا عن حل الازمات الصغيرة التي تجاوزها العالم ، تشكل هما مؤرقا للاجيال الجديدة ، تنقض شرعية النظام الاجتماعي.
الامم التي واجهت هذا التحدي عالجته بواحدة من ثلاث وسائل: أ) تصدير أزماتها الى الخارج بافتعال صراعات مع دول اخرى. ب) توسيع قاعدة النظام السياسي باشراك عامة الناس ، سيما الاجيال الجديدة ، في الحياة العامة وصناعة القرار ، الامر الذي يوسع دائرة المسؤولية ويولد روحية جديدة في مواقع القيادة. ج) اطلاق ثورة وطنية في مسار او اكثر ، بهدف تحقيق انتصار حاسم وملموس ، يحيي الايمان بالذات ويعزز الاجماع الوطني.
نتحدث عادة عن معالجة تدريجية للازمات العامة ، تؤدي مع الزمن الى تطوير مؤسسي للمجتمع السياسي. لكن الواضح اليوم ان لدينا كما كبيرا من القضايا التي تحولت الى معضلات مزمنة بسبب الاهمال او اتباع حلول ترقيعية او ناقصة. قضايا مثل ازمة السكن والبطالة والاتكال المفرط على مبيعات البترول الخام وأمثالها ، كانت معروفة منذ زمن طويل. كانت خطة التنمية الاولى التي اطلقت في 1971 قد لاحظت هذه التحديات وأكدت على محوريتها. ومع هذا فلا زلنا نتحدث عنها كما لو انها اكتشاف اليوم. هذا يشير الى اهمال او غفلة يصعب تبريرها.
مرور الزمن لا ينسي الناس الازمات التي تؤرقهم. ربما يتكيفون معها ، وربما يستسلمون لها ، لكنهم لن يشعروا ابدا بانهم يعيشون وضعا طبيعيا. ان تعبيراتهم البسيطة عما يواجهون من عسر في حياتهم ، تؤدي مع التكرار الى نقض الايمان بالذات وتثبيط ارادة الاصلاح ، حتى في الامور الصغيرة. ويرجح عندي ان هذه المشاعر تساهم على نحو غير مباشر في تغذية الميول المتطرفة ، سيما بين الشباب.
اعتقد ان زمن الحلول المؤقتة والتدريجية قد فات ، وان العالم العربي كله بحاجة الى ثورة تجديد جذري وواسع النطاق ، ثورة تشارك فيها الحكومات والأهالي على نحو يكسر حلقة الفشل المريرة التي تشكل ربما اهم نواقض الايمان بالمستقبل ، كما تضعف شرعية النظام الاجتماعي.
نحن بحاجة الى ثورة صناعية تحررنا من الارتباط الحرج باسواق البترول العالمية. نحن بحاجة الى ثورة في مجال الادارة العامة تقود الى توسيع قاعدة النظام الاجتماعي – السياسي وارساء عقد اجتماعي جديد يكفل الحقوق والحريات المدنية ، كما يستوعب تطلعات الجيل الجديد.
قد يكون سهلا على اناس في مثل عمري ان يتكيفوا مع الواقع القائم ، مهما كان عسيرا. لكن هذا ليس حال الاجيال الجديدة التي تريد مستقبلا مختلفا. الانتقال للمستقبل يتوقف على اعادة بناء الاجماع الوطني على اسس تستوعب تحديات عصرنا والزاماته. ويجب ان نبدأ اليوم قبل فوات الاوان.
الشرق الاوسط 7 يناير 2015 العدد 13189

http://classic.aawsat.com/leader.asp?section=3&article=800987&issueno=13189#.VL6V9SuUcbg

16/07/2014

سجالات الدين والتغيير في المجتمع السعودي (كتاب)

يطرح الكتاب اشكالية موقع الدين في الحياة العامة. يناقش ابرز عوامل التحول في ثقافة الشباب السعودي ، وكيف تنعكس على الذهنية الدينية ودور الدين في الحياة الاجتماعية ، كما يدعو الى التفكير في الدين بمنحى تجديدي ينبذ التقاليد الموروثة ، ويؤكد على استيعاب تحديات العصر وحاجات المسلم المعاصر.

مقدمة الكتاب

ما ظننت المجتمع السعودي يعج بهذا الكم الهائل من الاسئلة قبل الاجتياح العراقي للكويت في اغسطس 1990. وما  ظننت ان تبقى تلك الاسئلة دائرة حول نفسها سنوات وسنوات حتى رأيت ما جرى بعد هجوم تنظيم "القاعدة" على نيويورك في سبتمبر 2001.

حين أتامل اليوم في المسائل التي يدور حولها جدل الصحافة المحلية ومواقع التواصل الاجتماعي على الانترنت ، اجد انها ذاتها المسائل التي اهلكناها جدالا خلال ربع القرن المنصرم. ومع ذلك فلا زلنا ندور حول نقاط البداية نفسها ، وكأننا ما تحدثنا ولا ناقشنا ، او كأننا ندير حوار طرشان ، يقول كل منا ما يشتهي ، فيسمع الاخر فكرة مختلفة ، فيعود الاول الى تكرار ما قال ، فيستعيد الاخر ما كان يود ان يسمعه.

نقاشاتنا لم تؤد الى تطوير الاسئلة ، ولا هي اوصلتنا الى اي جواب. في 2013 قررت وزارة العمل معالجة البطالة المستفحلة بتحميل المشكلة على القطاع الخاص ضمن البرنامج الذي اطلق عليه اسم "نطاقات". مشكلة البطالة لم تبدا اليوم بل كانت واضحة منذ العام 1983وقد اثارت في وقتها نقاشات لم تتوقف حتى اليوم.  وفي ذلك العام ايضا حاولت النساء اقناع الحكومة برفع الحظر المفروض على حقهن في قيادة السيارة ، ونعلم ان المطالبة العلنية بهذا الحق بدأ في نوفمبر 1990 في اطار المظاهرة النسائية المشهورة. لا زلنا ايضا في العام 2014 نناقش الاسباب التي تدعو شبابنا للالتحاق بالتنظيمات المتطرفة مثل "القاعدة" و "داعش" واخواتها ، مع ان القاعدة ظهرت ونفذت العديد من العمليات الارهابية في المملكة في 1995. ومنذ ذلك الوقت اريقت براميل من الحبر وسمع الناس مئات الساعات من الخطب حول هذه القضية. هذا الكلام عينه يقال عن قضايا التعليم والاصلاح الاداري والقضاء والخدمات العامة وتعزيز الهوية الوطنية وارساء سيادة القانون وعشرات من القضايا الاخرى.

استطيع الادعاء ان كل القضايا المطروحة في المجال العام اليوم ، كانت كذلك قبل عقد من الزمن او عقدين او اكثر. واستطيع الادعاء اننا ما نزال في نفس دائرة الجدل التي كانت قبل عقد او عقدين ، اي اننا لم نقترب في الواقع الى اي حل او تصور عن حل. ولا استبعد ان نعود بعد عشر سنين او عشرين سنة لنجد انفسنا في نفس الدائرة ، ندور حول نفس النقاط ، وكاننا ما زلنا في ثمانينات القرن العشرين او تسعيناته.

نحن ببساطة مجتمع يتسلى بالجدل حول القضايا الحرجة ، وطبيعة التسلية انها قصيرة الامد ، تظهر ثم تكبر فتثير الجدل ثم يظهر غيرها فينشغل الناس بالمسألة الجديدة ، وهكذا. ثم تمر سنين وتعود الازمات غير المحلولة فنتذكر انها اثارت النقاش في وقت سابق ، لكنها تعود – من جديد – الى نفس الدائرة ، وتبقى دون حل. ولهذا السبب فلا زلنا نناقش مسائل انتهى العالم منها  وطواها قبل عقود. 

اعلم ان القرار ليس بيد الناس ، وان صوتهم غير مسموع بالقدر الكافي. وهم – لهذا السبب – معذورون ان عادوا لمناقشة ما فرغت منه المجتمعات الاخرى ، فكل شيء معلق على رف الانتظار. اظن ان ضعف الثقافة السياسية وانعدام الاطار القانوني الذي ينظم المجتمع المدني ، وبالتالي عدم وجود منظمات مجتمع مدني فاعلة، اضافة الى هيمنة رأي واحد وما يعانيه اصحاب الرأي المختلف من عسر وتضييق ، كل هذه الاسباب تقف وراء الحالة التي وصفتها. لكننا مع ذلك بحاجة الى مواصلة النقاش ، حتى لو كان الامل في تأثيره ضئيلا. بحاجة الى تعميق النقاش وتفصيح الاسئلة ودعوة جيل الشباب خصوصا الى المشاركة في هذه النقاشات ، فليس امامنا طريق آخر غير ان نواصل التمسك بالوعي والدعوة للوعي وتعميق الوعي.

يضم هذا الكتاب مقالات كتبت ونشرت في اوقات مختلفة ، تحاول جميعها تفصيح الاسئلة التي تثير الجدل واقتراح مسارات للجدل ، على أمل ان تسهم في تعميق الوعي بقضايا الشأن العام الرئيسية. ليس هدف هذه الكتابة تقرير حلول او اقتراح حلول ، فغاية ما تريده هو تفصيح النقاش وتعميقه.



للقراءة براحة اكبر ، اضغط هنا
لتنزيل الملف ، اضغط هنا

}

مقالات ذات علاقة

·         تجارة الخوف
·         تجريم الكراهية
·         طريق التقاليد
·         فلان المتشدد

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...