ذكرت في مقال سابق
انني مؤمن بان كل جيل من أجيال المسلمين ، له الحق في صياغة النموذج الذي يراه
مناسبا للايمان والتدين في عصره. وان هذه القناعة تعني امكانية ان يكون لكل عصر
نموذج في الحياة الدينية ، مختلف عن العصور السابقة.
وكنت قد طرحت هذه الفكرة قبل سنوات على أستاذ لي ، فأجابني بالقاعدة
المعروفة في الفلسفة اليونانية "لكل سؤال صحيح ، جواب واحد صحيح ، ولا يمكن
ان يكون اكثر من واحد". وتطبيق هذه الفكرة ان الشريعة مجموع اجوبة الدين على
أسئلة الحياة ، لكل مسألة حكم واحد هو ما قاله الله او الرسول.
أظن ان معظم من يسمع هذا الكلام ، سيأخذه كأمر بديهي. لأنه يبدو معقولا ومطابقا
لما تعلمناه منذ الصغر.
رغم ذلك ، فهو لا يمنع تساؤلات جدية ، أولها: من قال انه بديهي. واذا كانت
الشريعة كاملة ناجزة منذ حياة النبي ، فلماذا اجتهد القضاة والائمة والفقهاء على
امتداد القرون التالية حتى يومنا ، فابدعوا آلاف الاحكام والتفاسير التي لم يعرفها
زمان النبي؟.
ان استقلال
العلوم عن بعضها ، واتجاهها للتخصص الدقيق هو اهم التحولات
التي حصلت في القرنين الاخيرين. وبسببه ما عاد الفقيه قادرا على الاحاطة بعلم الطب
او الهندسة او الفلك او الرياضيات ، كما كان الحال في الماضي. بل حتى العلوم
اللصيقة بدراسة الشريعة ، تحولت الى تخصصات متوسعة ودقيقة ، لا يمكن للفقيه ان يتفوق
على المختصين فيها. ومن ذلك علوم النحو واللغة والادب والمنطق والفلسفة والتاريخ ،
وكذلك العلوم الخاصة بالاثبات وفهم النزاعات ، ومثلها العقود والتعويضات. وهي مما
يحتاجه القضاة.
ان اعتماد العلوم المختلفة في تشخيص موضوعات الحكم الشرعي ، وارتقاء فهم
الفقيه نتيجة اطلاعه على العلوم الجديدة التي تطورت بعيدا عن مدارس العلم الشرعي ،
هي ما نسميه مشاركة عامة الناس ، مسلمين وغير مسلمين ، في فهم موضوعات الشريعة ،
ثم في صياغة احكام الشريعة.
ما ندعو اليه اذن هو اقرار المشتغلين بالفقه ، بأنهم يعتمدون في كثير من
عملهم على العلماء في الحقول الاخرى. فاذا كان لعمل الفقيه قيمة ، فان جانبا منها يرجع
الى أولئك. هذا ببساطة ما نسميه مشاركة اجيال المسلمين في صوغ حياتهم الدينية
وتجربتهم الدينية. انه واقع قائم ، لكنه يحتاج الى اقرار وتنظيم.
الشرق الاوسط الخميس - 04 ربيع الثاني 1445 هـ - 19 أكتوبر 2023
م
https://aawsat.com/node/4614221
مقالات ذات علاقة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق