09/03/2016

في رثاء د. طه جابر


احتمل ان القليل من شبابنا قد عرف د. طه جابر العلواني ، الذي رحل عنا نهاية الاسبوع الماضي (4 مارس 2016). لم يكن العلواني من نوع الدعاة الذين يعيشون على الصراعات ، ولا ممن يحسبون قيمتهم بعدد المستمعين والقارئين ، رغم انه مثل اي رجل علم آخر كان يتمنى ان يستمع اليه الناس وان يجادلوه.

خلال الثلاثين عاما الاخيرة عاش العلواني في مجتمعات مفتوحة ، فواجه الاشكالات التي يطرحها الناس من خارج الدين ، طمعا في معرفته او اعتراضا على أحكامه. والمؤكد ان تصديه لهذه النقاشات ، هو الذي اخذه الى التعمق في دراسة القيم الدينية وكشف له عيوب التراث الموروث ونقائصه. لو بقي المرحوم في مدينة الفلوجة ، وسط العراق ، حيث ولد ، او في بلد مماثل ، فهو بالتاكيد لن يواجه تلك الاشكالات الجدية والعميقة ، وسيكتفي على الارجح بالاجوبة الاعتذارية والتبريرية او الانشاء المتعارف في امتداح الارث الديني ، أي تكرار مقولات الاسلاف في قالب لغوي جديد.
كرس د. طه حياته لتجديد مناهج العلم الشرعي ، سيما أصول الفقه ، واهتم بمقاصد الشريعة وغاياتها ، باعتبارها معايير حاكمة على استنباط الاحكام. وفي منتصف الثمانينات سعى لاقناع الدعاة والكتاب الاسلاميين بالتعمق في علم الاجتماع. في احدى المناسبات تحدث قائلا ان بعض ما يقال على المنابر وفي ادبيات الاسلاميين يتعارض – في العمق - مع اغراض الرسالة المحمدية ، رغم تزيينه بالايات والاحاديث والقصص التاريخية التي توهم المتلقي بانه دين او دفاع عن الدين. وكان يرى ان هذا التناقض ثمرة لجهل الداعية بديناميات الحركة الاجتماعية والعوامل المؤثرة فيها.
المسألة ببساطة – يقول د. طه – ان لكل ايديولوجيا اغراض محددة تسعى لانجازها ، او على الاقل تذكير الناس بها كي لا تنسى. وان على الناشطين في المجال الديني ، استيعاب اغراض الرسالة ومقاصدها وفهم تصريفاتها وتطبيقاتها الواقعية ، كي لا ينزلقوا جهلا او غفلة ، الى تبرير المفاهيم المعاكسة. هذا يتطلب ان تدرك بعمق المسارات التي يسلكها الحدث او الظاهرة الاجتماعية قبل ان تتجلى أمامك في المشهد ، او تتحول الى مشكلة يسألك الناس عن موقف الدين منها او علاجه لها.

تحدث العلواني عن حرية التفكير والتعبير والاعتقاد ، واعتبرها من اعظم القيم التي اراد الاسلام اقرارها وضمانها للناس كافة. وتحدث عن العدل في مختلف صوره وتطبيقاته باعتباره ابرز تجليات الايمان في العلاقات الاجتماعية والتعاملات بين البشر.
لكنه لاحظ في الوقت نفسه ان المنهج الموروث في قراءة التراث الديني ودراسته ، قد يحمل القراء على تبجيل الظلم ومعاداة الحرية ، متوهمين انهم يحمون ساحة الدين. وتساءل حينئذ: هل يمكن ان نحمي الدين اذا تناسينا اغراضه ، وتساهلنا في الدعوة لما يعارضها او ينقضها؟.

كتابه الهام "لا اكراه في الدين: اشكالية الردة والمرتدين" نموذج واضح عن الرؤية الجديدة التي يتبناها الفقهاء الاصلاحيون كبديل عن طرق الاستدلال القديمة. رغم ان الكتاب مكرس لنفي مفهوم الردة وما يعرف بحد الردة. الا ان طريقته في الاستدلال ، تلقي ضوء كاشفا على الفرصة المتوفرة لتطوير ادوات جديدة للاجتهاد ، تنطلق من المصدر الاهم للشريعة ، اي القرآن الكريم ، كما تلتزم بمقاصد الشريعة والمستقلات العقلية كمعايير حاكمة على كل حكم فرعي.
ترك د. طه جابر العديد من الكتب والابحاث التي يستحق جميعها الاشادة والاهتمام. رحم الله د. طه وغفر له وجزاه خيرا عما قدم. 
الشرق الاوسط 9 مارس 2016

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...