‏إظهار الرسائل ذات التسميات الكهف. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات الكهف. إظهار كافة الرسائل

31/10/2024

من يهذب الاخلاق في المجتمع السياسي

هل يمكن للحكومة ان تهذب شعبها ، بمعنى ان تجعلهم اكثر التزاما بالفضائل ومكارم الاخلاق؟.

اثير هذا السؤال في نقاش حول معاني الاخلاق السياسية وتطبيقاتها في المجال العام. واستعرض احد المتحدثين رؤية افلاطون ، الفيلسوف اليوناني المعروف ، الذي قرر ان الدولة مسؤولة عن تربية الشباب ، وتلقينهم المعارف وتدريبهم على الحرف والعادات الحسنة.

ونعلم ان هذه الفكرة لازالت سائدة حتى يومنا الحاضر. فالناس جميعا ، في شرق العالم وغربه ، متفقون على ان ابسط واجبات الحكومة ، هو انشاء وتشغيل نظام التعليم العام ، من مستواه الأدنى ، اي رياض الأطفال حتى الدرجة الاخيرة في التعليم الجامعي.

لكنا نعلم أيضا ان مبررات هذه الرؤية تختلف - في نموذجها المعاصر - عن تلك التي تحدث عنها افلاطون. كان افلاطون يرى امكانية جعل الفضيلة سلوكا عاما ، يمارسه جميع الناس دون تكلف. كما رأى ان الجهل هو السبب الرئيس لارتكاب الاثم ، لأن الفضيلة في جوهرها هي الحقيقة ، او هي قرين الحقيقة. ونحن نصل الى الحقائق من خلال الدراسة والتعلم والتجربة. بعبارة اخرى ، فان الدراسة تؤدي الى ادراك حقائق الحياة ، وأدرك الحقائق يكشف الفضائل ، لان الفضيلة هي الحقيقة او قرينها. فاذا امست الفضيلة سلوكا عاما ، تحقق ما أسماه الفيلسوف "المدينة الفاضلة" وهو ما يعرف في الأدبيات الغربية الحديثة باسم "اليوتوبيا".

أما في نموذج الدولة الحديثة ، فان التزام الحكومة بانشاء نظام لتعليم الناشئة ، معلل بالحاجات الاقتصادية في المقام الأول. لقد توصل البشر بعد قرون من التجارب الى ان حياتهم تدور حول محور الاقتصاد. وهذا وان لم يشمل كافة أطراف الحياة ، الا انه – في حقيقة الامر – المحرك الرئيس لمعظم أطرافها. ومن هنا بات عمل الدولة مركزا – في معظمه – على الاقتصاد. وبالنسبة للبلدان النامية على وجه الخصوص ، فان سياسات التعليم تستهدف ، في المقام الاول ، انشاء قوة عمل كفوءة ، لادارة المشروعات الاقتصادية والادارة الرسمية (التي تنظم هي الاخرى على ضوء احتياجات السوق والاقتصاد). وهذا يفسر القول السائر بان التعليم الناجح هو الذي يلبي حاجات سوق العمل ، وكذا الدعوة لجعل سياسات التعليم متوافقة مع حاجات السوق.

ويبدو لي ان مفهوم الاخلاق ، السائد في علم السياسة المعاصر ، اكثر انسجاما مع اغراض الدولة ومبررات وجودها ، من ذلك المفهوم الذي ناقشه قدامى الفلاسفة ، او نظيره الذي عرفته الدول الدينية.

رؤية افلاطون عن اهمية التعليم ، مبعثها ارتيابه العميق في طبيعة الانسان. فرغم اقراره بقابلية العقلاء لاكتشاف الخير والعدل واتخاذ طريق الحكمة ، إلا انه نظر الى جمهور الناس كأسرى لشهواتهم وأوهامهم وجهلهم بحقائق الحياة. وقد صور هذا المعنى في مثاله الشهير عن الاشخاص المقيدين في داخل الكهف ، الذين لا يرون غير انعكاس ظلال الحركة التي تحدث في الخارج ، فيتوهمون انها هي كل ما يجري في عالمهم.

في التحليل يظهر ان افلاطون نظر الى افعال الانسان كانعكاس لميوله الداخلية ، سواء تهذبت بفعل التعليم ام لا. ولذا تحدث عن التعليم كوسيلة لتهذيب النفس.

خلافا لهذا ، ينظر علم السياسة المعاصر الى الميول النفسية ، كمحصلة لتاثير العوامل البيئية والاجتماعية في المحيط الحيوي للانسان. الانسان السوي الميال للحلول العقلائية والتعاون ، هو ذلك الذي ينشأ في مجتمع يوفر الأمان والعيش الكريم لأهله. وبعكسه المجتمع الذي يسوده النزاع والانقسام او شحة مصادر العيش ، وكذا المجتمع الذي يعاني الاحتقار والاذلال والقهر لزمن طويل. فمثل هذا الحالات تنعكس بشكل سلبي جدا على روحية اعضاء المجتمع ، فتعزز فيهم الميول اللاعقلانية والارتياب والرغبة في الاستئثار.

زبدة القول ان علم السياسة الحديث ، يرى ان الدولة قادرة على تحسين المستوى الاخلاقي في المجتمع الوطني. لكن ليس باضافة مادة الأخلاق الى نظام التعليم ، ولا بزيادة عدد الوعاظ ، بل بتوفير سبل العيش الكريم وتعزيز الشعور بالامان والكرامة عند الافراد.

الشرق الأوسط الخميس - 28 ربيع الثاني 1446 هـ - 31 أكتوبر 2024 م

https://aawsat.com/node/5076634

20/04/2022

أصنام الحياة

"صنم المسرح" هو العنوان الذي أطلقه الفيلسوف الانجليزي فرانسيس بيكون (1561-1626) على الآراء والتقاليد والعناصر الثقافية الأخرى ، التي نرثها عن أسلافنا ، وتسهم في تشكيل الجانب الأبرز من ذهنيتنا ، اي خلفية سلوكنا وتفكيرنا في الحياة والأشياء.  

كلنا نتأثر بتراث الأسلاف ، فهو الوسط الطبيعي لحياتنا المبكرة. وهو الذي يربطنا بالأشخاص الآخرين في محيطنا العائلي ، منذ لحظة ولادتنا. وحين نشب عن الطوق ، ونبدأ في التعرف على العالم خارج إطار العائلة ، عندها نتعرض لمصادر تأثير أخرى ، أطلق عليها بيكون اسم "صنم السوق".

فرانسيس بيكون

"صنم السوق" هو ما نسميه اليوم الرأي العام  أو الثقافة العامة ، اي الانطباعات الاجمالية التي يحملها غالبية الناس ، وطريقة تعبيرهم عن مواقفهم تجاه ما يحبون وما يكرهون ، ومنها أيضا نظرتهم للآخرين: الزعماء والشخصيات المشهورة ومصادر التأثير الثقافي ، وكذا نظرتهم للحوادث والنزاعات والقضايا المثيرة للاهتمام.

"صنم المسرح" و "صنم السوق" اثنان من أربعة أصنام ، اتخذها الفيلسوف نموذجا تحليليا لفهم حركة العقل البشري ، والطريقة التي يتبعها في تفكيك الاشياء وانتاج المعاني التي تعيد ربطها بحركة الحياة. كان بيكون يسعى للاجابة على سؤال في غاية الجدية ، نلخصه على الوجه التالي:

-         حين نفكر في موضوع ، هل تعمل عقولنا بصورة مستقلة ، فتنظر للاشياء نظرة محايدة. ام أنها – على العكس - تعمل كمرآة تكثف ما يوجد في البيئة الاجتماعية ، وتقرأ الخط الجامع فيما بينها ، ثم تعيد انتاجه على شكل قاعدة أو فكرة؟.

حاول بيكون والعديد من الفلاسفة وعلماء الاجتماع الذين جاؤوا من بعده ، وضع خط يميز ما هو نتاج حقيقي للعقل ، اي ما نسميه التفكر ، عما هو مجرد تكرار لما يعرفه الناس وما اعتادوا عليه. حاول هؤلاء المفكرون ايضاح ان العقل لا يعمل في فراغ ، بل هو عرضة للتأثر بعوامل مختلفة ، بعضها نابع من داخل الانسان (مثل حاجاته الشخصية وهمومه وميوله ونتائج التجارب التي خاضها بنفسه) وبعضها الآخر هو انعكاس للمعارف والمواقف والهموم الدائرة في المجتمع ، والتي توجب على اعضائه ان يتبنوا منها موقفا منسجما مع التيار الاجتماعي الاوسع.

بعبارة اخرى فان عقل الانسان – من حيث المبدأ – ابن بيئته. لكن هذا الاساس لا يبقى على الدوام. بقدر ما ينفتح الانسان على أجواء مختلفة ويلتقي مع اشخاص جدد ، ويقرأ أفكارا غير مألوفة ، فان عقله سيبدأ باكتشاف ذاته المستقلة عن تأثيرات المحيط وتراث الاسلاف. في هذه المرحلة يتخذ العقل دور المحقق الذي يسائل ما استقر في تلافيف الذاكرة ، ويجادل ما يتوجه اليه من الخارج ، قبل ان يقبله أو يرفضه.

هذه هي مرحلة الانعتاق والتحرر الداخلي ، التي ينبغي لكل انسان ان يجاهد كي يبلغها. وهي مرحلة لا تخلو من عسر ، بل كفاح مرير للتحرر من هيمنة القناعات التي ترسخت في ذهن الانسان وتحولت الى بديهيات لا يفكر فيها الانسان ولا يسائلها ، واشياء ارتبطت بها مصالحه وعلاقاته ونظام معيشته ، فليس من السهل ان يتنكر لها او يخاتلها. هذه هي الاصنام التي اسماها بيكون "اصنام المسرح" و "اصنام السوق".  

من المهم ان نفهم جيدا هذا السياق ، لأننا سوف نواجه – اليوم او غدا – تلك الاسئلة العسيرة. نحن بحاجة لتوجيه الأسئلة الصحيحة الى انفسنا قبل الغير ، الاسئلة الضرورية لتنوير انفسنا وعقولنا ، سواء اقتنع الآخرون بها ام لا.

الشرق الأوسط الأربعاء - 19 شهر رمضان 1443 هـ - 20 أبريل 2022 مـ رقم العدد [15849]

https://aawsat.com/node/3601166


مقالات ذات علاقة

اشكالية الهوية والتضاد الداخلي

حزب الطائفة وحزب القبيلة

حول الانقسام الاجتماعي

الخيار الحرج بين الهوية والتقدم

الـدين والمعـرفة الدينـية

الصنم الخامس

عن الهوية والمجتمع

القبيلة والطائفة كجماعات متخيلة

كهف الجماعة

كيف تولد الجماعة

نسبية المعرفة الدينية

الهوية المتأزمة

 


14/06/2017

كهف الجماعة



أنت وأنا ننظر الى واقعة واحدة ، فأرى شيئا وترى شيئا آخر. انا وأنت لا نرى الواقعة كما هي ، بل نرى صورتها التي في أذهاننا. لا يختلف الناس في حكمهم على الاشياء لأنهم يجهلون الحقائق ، بل لأنهم يرونها على صور متباينة. قدم الفيلسوف الالماني مارتن هايدغر صياغة مبسطة لهذا المفهوم فقال ان كل فهم جديد مشروط بالفهم السابق. ولا فهم من دون فهم مسبق. لهذا السبب على الارجح رأى توماس كون ، المفكر الامريكي المعاصر ، ان ما يكتشفه البشر في مراحل العلم العادي ليس سوى اعادة ترتيب لما يعرفونه سلفا.
قبل ذلك بزمن طويل ، رأى افلاطون ان عامة الناس سجناء للذاكرة الفردية او الجمعية التي تحدد رؤيتهم للعالم. تخيل افلاطون كهفا يتسلل اليه بصيص ضوء ، فتنعكس على جدرانه ظلال من حركة الحياة في خارجه ، فيتخيل أهل الكهف انهم يرون الحياة بذاتها. لكنهم في حقيقة الامر لا يرون غير ظلالها. قلة قليلة ممن يملكون البصيرة أو يتحلون بالشجاعة ، يتمردون على كهف الذاكرة فيخرجون الى النور ، فيرون العالم كما هو ويرون الحياة كما هي. وحين يصفونها لأهل الكهف فان قليلا منهم سيجرأون على تقبل فكرة ان هناك ، خارج جدران الكهف ، عالما ينبض بالحياة أو يتحرك في اتجاه مختلف عما تخيلوه طوال حياتهم.

أعاد فرانسيس بيكون شرح الفكرة في نظريته الشهيرة عن أصنام العقل الاربعة ، أي منظومات الأوهام الساكنة والنشطة التي تتحكم في رؤية العقل للحقائق ، وبينها أصنام الكهف.
اصنام الكهف او كهف الذاكرة تنطبق بصورة بينة على المسار الاجتماعي الذي نسميه التمذهب. نحن ننظر الى معتقداتنا فنراها صحيحة دائما. بينما ينظر اليها اتباع مذهب مختلف ، فيرونها خاطئة دائما. نأتي بالادلة والشواهد ، فيأتون بأدلة وشواهد مقابلة. وفي نهاية النقاش ، يزداد الطرفان قناعة بما كانوا عليه أصلا. وكأن النقاشات كلها حوار بين طرشان أو مجرد نفخ في الهواء.
ليس بين الطرفين جاهل او قليل العلم ، وليس بينهما من لا يفهم الادلة او طرق الاستدلال. المسألة وما فيها انهم يفكرون في قضايا تتحد في الاسماء ، وربما تتحد في الجوهر ، لكنهم لا يهتمون بجوهر الاشياء ولا باسمائها ، بل يهتمون بالمعاني المتولدة من تلك الاشياء.
معنى الشيء هو الصلة التي تربط بينه وبين الناس. ولا قيمة لأي شيء ما لم تتحدد علاقته بالاشخاص الذين يتداولونه. جرب ان تعرض على طفل خمسمائة ريال او لعبة بعشرة ريالات ، فما الذي سيختار؟. المؤكد انه سيختار اللعبة ، لانها تعني له شيئا. اما الخمسمائة ريال فليست – بالنسبة اليه – سوى ورقة.
اتباع الأديان والمذاهب وأعضاء الجماعات السياسية ، بل كافة الناس على وجه التقريب ، لايجادلون قناعاتهم الاساسية ، ولا يتخلون عن مسلماتهم ، حتى لو رآها الاخرون غير معقولة. لانها ليست عناصر هائمة في الفضاء ، بل هي اجزاء متناغمة ملتحمة في صورة كاملة مستقرة في ذاكرتهم ، تشكل كهفهم الخاص ، اي عالمهم الحقيقي ، الذي قد يماثل عالم الناس او يختلف عنه ، لكنهم يعرفون انفسهم والعالم على هذا النحو.
هل يستطيع أحد البرهنة على ان عالمك اكثر معقولية من عالمي ، أو ان كهفك اوسع من كهفي؟. ربما. لكننا نتحدث في نهاية المطاف عن كهف ، واسعا كان أو ضيقا.
الشرق الاوسط 14 يونيو 2017

مقالات ذات علاقة


الإرادة العامة كخلفية للقانون

ذكرت في المقال السابق ان " الدين المدني " يستهدف وفقا لشروحات جان جاك روسو ، توفير مبرر أخلاقي يسند القانون العام. وقد جادل بعض ...