‏إظهار الرسائل ذات التسميات الاقلية. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات الاقلية. إظهار كافة الرسائل

23/01/2025

"أيها الألماني اللعين"!

 هذه قصة نقلها د. عبد الله الغذامي ، المفكر السعودي المعروف ، وتحكي معاناة شاب أفغاني الأصل ، ولد في ألمانيا ويحمل جنسيتها ، لكنه مع ذلك واجه دائما من يذكره بأنه ليس ألمانيا حقيقيا ، "بيسري" وليس اصيلا ، حسب تعبير اشقائنا الكويتيين. وكان هذا يشعره بضيق شديد. لكنه سافر مرة الى سويسرا ، فشتمه نادل المقهى ووصفه ب "الألماني اللعين". تلك كانت اول مرة يشعر فيها بأنه الماني حقيقي. يعلق الغذامي على هذا قائلا ان تلك الشتيمة كانت صانعة لهوية الشاب التائه بين أصله وفصله ، بين ماضيه وحاضره.

ذكرني هذا بالدراسة القيمة التي وضعها أريك اريكسون ، عن المحددات السلبية للهوية. في ألمانيا ، عومل اريكسون كيهودي بغيض ، فهاجر الى أمريكا. لكن يهودها قاطعوه ، لأنه علماني ولأن زوجته مسيحية. من خلال معاناته الخاصة طور اريكسون سياقا بحثيا في علم النفس ، يدور حول "أزمة الهوية". وركز خصوصا على دور المحيط الاجتماعي في تصليب الهوية الطبيعية للفرد (الدين ، العرق ، اللون ، الجنس) ولا سيما في الاتجاه السلبي ، أي تحويلها الى خط انكسار في علاقة الفرد مع محيطه.

عالج هذه المسألة أيضا المفكر الفرنسي- اللبناني أمين معلوف ، في كتابه القيم "الهويات القاتلة". ولا بد ان الزملاء الذين قرأوا هذا الكتاب ، يستذكرون قوله الموجع: "غالبا ما نتعرف الى انفسنا في الانتماء الاكثر عرضة للتهجم". اخبرنا معلوف أن الهوية الفردية تتشكل في سياق تجاذب ، بين الترحيب من جهة والاقصاء من جهة أخرى. يسهم الترحيب في تنسيج هوية الفرد ضمن الهوية الاوسع ، بينما يؤدي الاقصاء الى تضخيم حدود الهوية الخاصة وابرازها على نحو متنافر مع الهوية العامة.

حسنا ، ما الذي يجعلنا نتذكر هذه القصة اليوم؟

الداعي لاستذكار مسألة الهوية ، هو الجدل الدائر في سوريا اليوم ، حول هوية البلد ، وبالتالي موقع الأقليات الدينية والعرقية في النظام السياسي الجديد. وقرأت تعليقا لشخص بارز في احدى الجماعات الدينية ، يعلن تبرمه بالأقليات التي حصلت على مكاسب في النظام السابق ، ومع ذلك فهي تطالب بمثلها في النظام الجديد. كما أشار خصوصا الى الجماعات الكردية التي تطالب بنوع من الحكم الذاتي ، شبيه بذلك القائم في العراق. وقال العديد من الناس مثل هذا. ولاحظت خصوصا ان الذين يصنفون انفسهم ضمن تيار الإسلام السياسي ، يتحدثون عن السلطة السياسية ، كما لو أنها "غنيمة" على النحو الذي شرحته في الأسبوع الماضي ، رغم انهم لا يقولون هذا صراحة ، بل يتحدثون عن "حق" الأكثرية في الحكم و "واجب" الأقلية في التسليم والطاعة. ونعلم ان ذلك الحق وهذا الواجب ، لا وجود له - على النحو الذي يذكرونه - في أي تشريع او فلسفة او منظور ديني او سياسي.

أمامنا أمثلة صريحة الدلالة عن أنظمة سياسية قامت على اقصاء المختلفين ، وأخرى استوعبتهم. جربت تركيا اقصاء الاكراد مدة تزيد عن 40 عاما ، وتسبب هذا في مواجهات كلفت البلاد عشرات الآلاف من القتلى وهجرت عشرات القرى ، دون ثمرة ، حتى اعترفت الدولة بالمشكلة ، وتبنت مشروعا يستهدف استيعاب الأقلية الكردية ضمن النظام السياسي القائم. فهل يريد السوريون إعادة اختراع العجلة؟.

الاكراد يمثلون مشكلة داهمة ، لأنهم القوة الأكثر جاهزية للصراع ، ولأنهم يسيطرون فعليا على مساحة واسعة نسبيا. لكن يهمني التأكيد على التعامل المنهجي وليس التكتيكي مع مشكلة الهوية. سيكون على السوريين استيعاب الأقليات الدينية والقومية العديدة ، فسوريا ليست ملكا لحكامها الحاليين او السابقين ، بل لكل سكانها ، أيا كانت اصولهم العرقية أو اديانهم او مذاهبهم. لا يمكن للحكومة ان تفرض دينها ولا مذهبها ولا توجهها السياسي على مخالفيها. كما لا يصح للأكثرية (في المعنى السياسي) ان تفرض رأيها على الأقلية. ينبغي القول بوضوح ان خطابا سياسيا يستوعب الجميع ، هو الذي يؤسس للهوية الوطنية الجامعة. وان الخطابات الانكماشية والاقصائية تفتح الباب للانهيارات القادمة.  

الخميس - 23 رَجب 1446 هـ - 23 يناير 2025 م     https://aawsat.com/nide/5104200

مقالات ذات صلة

افكار للاستعمال الخارجي فقط

بدايات تحول في الازمة السورية   

برنارد وليامز : الفيلسوف المجهول

حكومة اليوم وحكومة الأمس

شراكة التراب وجدل المذاهب

الطائفية ظاهرة سياسية معاكسة للدين

عدالة ارسطو التي ربما نستحقها

العدالة الاجتماعية كهدف للتنمية

العدالة الاجتماعية وتساوي الفرص

العدالة كوصف للنظام السياسي

فكرة المساواة: برنارد وليامز

في ان الخلاف هو الاصل وان الوحدة استثناء

الليبرالية في نسخة جديدة: رؤية جون رولز

ماذا تفعل لو كنت صاحب القرار في بلدك؟

مجتمع العقلاء

مفهوم العدالة الاجتماعية

من اراء الفيلسوف ديفيد ميلر

من دولة الغلبة الى مجتمع المواطنة: مقاربة دينية لمبدأ العقد الاجتماعي

الواعظ السياسي

 

 

16/01/2025

حكومة اليوم وحكومة الأمس

 

سوريا اليوم مختبر حي لتحديد المسافة بين عالم الأفكار وبين الوقائع اليومية. وقد اعتدنا على سماع من يعيب على اهل الفكر انشغالهم بالتنظير بدل الانخراط في الجدالات اليومية. بل رأيت من يساوي بين كلمة "تنظير" وعبارة "غير مفيد". ان شياع مفهوم كهذا ، يكشف عن عيب خطير في الثقافة العامة ، فالتنظير قرين للفكر العميق الحي المتجدد.

بين المسائل المثيرة للتأمل في المختبر السوري ، مسألة العصبية ، أي النواة الصلبة التي تمثل جوهر النظام السياسي. قد تتمثل هذه النواة في الجيش ، او في القبيلة او الطائفة او الحزب الحاكم أو المجموعة القومية التي ينتمي اليها الحاكمون.

هذه مسألة معروفة منذ القدم. وتعرف العرب عليها منذ ان كانت السلطة ومصادر القوة محصورة في قبيلة او حلف قبلي. ثم أتى عبد الرحمن بن خلدون ، فوضع تصويرا نظريا لهذه الممارسة التاريخية. وأظنه بالغ شيئا ما في تصوير الدور الذي تلعبه النواة الصلبة او القاعدة الاجتماعية ، حين قرر ان بقاء الدولة رهن بتلك العصبية. فاذا ضعفت ، تقلصت قوة الدولة وسلطانها حتى تؤول الى الأفول.

ببساطة ، رأى ابن خلدون ان استقرار الحكم مشروط باحتكار مصادر القوة من جانب فئة محددة ، تصونها كما يستأثر المقاتل بغنيمته. قد يكون صاحب السلطة قبيلة او طائفة او حزبا سياسيا او أيديولوجيا او مجموعة عرقية ، او شيئا مماثلا. ثم يقرر ابن خلدون ان هذا النوع من التنظيم السياسي ، قصير العمر ، بحسب منطق الأمور. وأن أفول الدولة راجع الى انتقالها من جيل الى جيل. فالجيل الأول يتألف عادة من الأقوياء والأذكياء ، الحريصين على صناعة القوة وإعادة انتاج مصادرها. ثم تأتي أجيال اعتادت رغد العيش وسهولة الكسب ، فلا تجهد نفسها في كسب ولا حفاظ ، بل تأخذ السلطة من دون جهد ، فتفرط في سلطانها بسبب قلة الفهم او قلة التدبير او الرغبة في السلامة.

تعكس رؤية ابن خلدون هذه نمطا من الثقافة السياسية ، يتعامل مع السلطة السياسية كغنيمة في يد القابض على زمامها. والواضح ان هذا الفهم شائع في العالم كله ، في الماضي والحاضر. لكن التحولات العلمية والاقتصادية التي شهدتها اوروبا منذ القرن التاسع عشر ، أثمرت عن تغيير هذا التصور ، باتجاه جعل السلطة السياسية وكيلا للمواطنين ، وليس ممثلا للطبقة او الحزب او الجماعة التي ينتمي اليها أهل الحكم. السر وراء هذا التحول ، ثقافي في المقام الأول ، حيث استقر فهم جديد ينظر للوطن كملكية مشتركة لجميع أبنائه ، بلا فرق بين صغير وكبير او غني وفقير. وتبعا لهذا التحول ، قيل ان الذي يمسك زمام الأمور ، هو الشخص الذي يمثل المواطنين ويدير مصالحهم باختيارهم ، فهو يعمل لهم وليس سيدا فوقهم أو جبارا يتحكم في مصائرهم.

هذه علامة فارقة في تاريخ البشرية ، تمايز عندها ما نعرفه اليوم باسم "الدولة الحديثة" عن "الدولة القديمة" سواء كانت امارة قبلية او امبراطورية.

في الدول القديمة ، لم يكن الحاكم مسؤولا امام أحد. وليس من واجباته ان يخبر الناس عما يفعل او يطلب موافقتهم على سياساته. بخلاف الدولة الحديثة التي تطلب من الوزراء وغيرهم ، تقديم "كشف حساب" للجهات الرقابية او التشريعية او للمجتمع.  وبهذا لم تعد السلطة مطلقة ، بل مقيدة بالقانون وبرأي ذوي الاختصاص ، فضلا عن الهيئات الرقابية والتشريعية.

ما الذي نتوقعه في سوريا: استمرار الدولة القديمة ، التي حكمت بالاعتماد على الجيش والحزب والطائفة ، ام دولة حديثة تستمد قوتها من مشاركة جمهور الناس ورضاهم ، بغض النظر عن اصولهم الدينية والعرقية وتصنيفهم الاجتماعي؟. سياسة تنطلق من كون جميع الناس مالكين لبلدهم ، وبالتالي شركاء في إدارة أمره ، ام سياسة تعتبر نفسها ممثلا لـ "أهل الحق" أي الشريحة الاجتماعية التي تنتمي اليها وتمثل مصالحها ، دون بقية أهل البلد؟. هذا موضوع اختبار جدي للعهد الجديد.

الخميس - 16 رَجب 1446 هـ - 16 يناير 2025 م     https://aawsat.com/node/5101794

مقالات ذات صلة

افكار للاستعمال الخارجي فقط

بدايات تحول في الازمة السورية   

الواعظ السياسي

برنارد وليامز : الفيلسوف المجهول

شراكة التراب وجدل المذاهب

الطائفية ظاهرة سياسية معاكسة للدين

عدالة ارسطو التي ربما نستحقها

العدالة الاجتماعية كهدف للتنمية

العدالة الاجتماعية وتساوي الفرص

العدالة كوصف للنظام السياسي

فكرة المساواة: برنارد وليامز

في ان الخلاف هو الاصل وان الوحدة استثناء

الليبرالية في نسخة جديدة: رؤية جون رولز

مجتمع العقلاء

مفهوم العدالة الاجتماعية

ماذا تفعل لو كنت صاحب القرار في بلدك؟

من اراء الفيلسوف ديفيد ميلر

من دولة الغلبة الى مجتمع المواطنة: مقاربة دينية لمبدأ العقد الاجتماعي

 

 

09/01/2025

ماذا تفعل لو كنت صاحب القرار في بلدك؟

 

مطالعة النظريات السياسية ليس هواية رائجة في العالم العربي ، حتى بين نخبة البلد ، فضلا عن عامة القراء. لذا سأنتهز الفرصة السانحة للتشجيع على هذه الهواية النافعة. الفرصة التي اعنيها هي التحول الجاري في سوريا ، حيث تتكشف المسافة بين النظرية وتطبيقاتها الممكنة ، في مختلف جوانب الميدان السياسي: الدولة والسلطة السياسية ، الى سلوك الفاعلين السياسيين وموقف الجمهور ، فضلا عن العوامل المادية ، لا سيما الاقتصادية والعسكرية ، التي تسهم في صنع او توجيه الحدث السياسي.

من ذلك مثلا مفهوم "العدالة الاجتماعية" الذي أجده غائبا عن النقاشات العامة بين العرب. هذا الادعاء ليس كلاما يلقى على عواهنه ولا هو جلد للذات. وان اردت التحقق من صحته ، فابحث عن تلك العبارة في الصحف الصادرة اليوم ، او يوم امس ، وسترى بنفسك حجم الحضور اليومي لهذا المبدأ الذي نحتاجه جميعا ، الآن وغدا وفي كل وقت.

اهتمامي بالعدالة الاجتماعية خصوصا ، نابع من كونها جوهر عمل الدولة ،  إضافة الى أن غيابها هو أبرز أسباب انهيار الحكم السوري السابق. استذكر في هذه اللحظة رؤية المفكر المعاصر ديفيد ميلر ، الذي رأى ان إدراك حقيقة "العدالة الاجتماعية" مهمة بسيطة لمن أراد التأمل في معناها. يقول في هذا الصدد: افترض انك مكلف بوضع قانون للبلد ، وأمامك سؤال يتعلق بحقوق الشرائح الضعيفة (الأقليات في المعنى السياسي) وبعض هؤلاء يخالفونك في الدين او الثقافة او الجنس او العرق او العقيدة السياسية ، الخ.  فكيف ستعاملهم ، هل ستعطيهم حقوقا تساوي ما اخذته لنفسك ، ام تقرر ان الأكثرية تأخذ الأكثر والأقلية تأخذ الأقل؟.   الواقع ان هذه فكرة شائعة بين جمهور الناس ، لا سيما الذين يمسكون بمصادر القوة ، او ينتمون الى الجهة الأقوى (الأكثرية في المعنى السياسي) ، فهؤلاء جميعا يرون ان للأكثرية حق الانفراد بالقرار ، وعلى الأقلية ان تسمع وتطيع. يقول ديفيد ميلر ان هذا خداع للذات ، وان علاجه بسيط: تخيل ان ظروفك انقلبت ، فأمسيت في مكان الأقلية ، في بلدك او في بلد غريب ، فهل سترضى بالمعاملة التي كنت تميل اليها سابقا ، ام ستراها غير عادلة. اظن ان كثيرا من انصار الحكم السابق في سوريا ، سيكتشفون اليوم هذه النقطة بالذات. ترى الم يكن الأفضل لهم ان يقيموا سياسات البلد على اصل المساواة والعدالة ، أي مساواة الشرائح الضعيفة بنظيرتها القوية ، كي يكونوا في الجانب الآمن هذا اليوم؟.

هذا السؤال بذاته يوجه لمن يملكون اليوم مقاليد السلطة ومصادر القوة ، في سوريا والسودان وليبيا واليمن والصومال ، وغيرها من الدول التي انهارت حكوماتها: ايهما خير لهم.. ان يقيموا سياسات البلد على قاعدة المساواة والعدالة وعدم اقصاء أي شريك وطني ، مهما خالفهم سياسيا او أيديولوجيا او عرقيا او غيره ، او ان يواصلوا سياسات من كان قبلهم ، ممن استأثر بمصادر القوة واعتبر الدولة غنيمة له ولأهل عصبيته؟.

اما النقطة الثانية التي تثير اهتمامي في المشهد السوري ، فهي الحاجة الى ترتيب أولويات العمل السياسي. ثمة من ينادي اليوم بتطبيق الشريعة الإسلامية ، وفهمه للشريعة لا يتجاوز الجوانب المظهرية والشعائرية. وثمة من يطالب بإقرار فوري للحكم اللامركزي ، وذهب احدهم الى انكار سيادة لبنان ، واعتبر ان ضمه الى سوريا واجب وطني. فهذه الدعوات وامثالها تنم عن حالة انفعالية ، ينبغي للفاعلين السياسيين وأصحاب القرار ، ان يتجنبوا الانسياق اليها. ان اهم أولويات النظام السوري الجديد – في رأيي – هو ضمان الأمن للجميع ، حتى المجرمين والسفلة ، فضلا عن عامة الناس. هذا سيجعل الدولة الواحدة مرجعا للجميع وملجأ للجميع ، ويقي البلد من دعوات الفتنة والتفكيك والتسلط ، ويقطع الطريق على الانتهازيين والشعبويين الذين يصطادون في مياه الفتنة.

الخميس - 09 رَجب 1446 هـ - 9 يناير 2025   https://aawsat.com/node/5099400

مقالات ذات صلة

افكار للاستعمال الخارجي فقط

بدايات تحول في الازمة السورية
الواعظ السياسي

برنارد وليامز : الفيلسوف المجهول

شراكة التراب وجدل المذاهب

الطائفية ظاهرة سياسية معاكسة للدين

عدالة ارسطو التي ربما نستحقها

العدالة الاجتماعية كهدف للتنمية

العدالة الاجتماعية وتساوي الفرص

العدالة كوصف للنظام السياسي

فكرة المساواة: برنارد وليامز

في ان الخلاف هو الاصل وان الوحدة استثناء

الليبرالية في نسخة جديدة: رؤية جون رولز

مجتمع العقلاء

مفهوم العدالة الاجتماعية

من اراء الفيلسوف ديفيد ميلر

من دولة الغلبة الى مجتمع المواطنة: مقاربة دينية لمبدأ العقد الاجتماعي

هكذا انتهى زمن الفضائل

18/04/2006

طريق الاقلية في دولة الاكثرية


تصريحات الرئيس حسني مبارك والضجة التي اثارتها هي مثال آخر على المشكلات المتأصلة في الثقافة العربية المعاصرة وفي النظام السياسي العربي بشكل اخص .

تتحدث معظم دساتير الدول العربية والاسلامية عن حقوق متساوية لجميع مواطنيها بغض النظر عن اديانهم او مذاهبهم او اعراقهم القومية. لكن الوضع على الارض هو ابعد ما يكون عن هذه الصورة المثالية . فالاقليات في معظم البلدان العربية لا تتمتع بتمثيل مناسب في الدولة ، كما ان حقها في التعبير عن هوياتها وثقافاتها مقيد او مغفل .
 ويرجع هذا الى افتقار الثقافة السياسية وتركيبة النظام الاجتماعي في عموم المنطقة الى مفهوم التعدد الثقافي والقومي في المجتمع الواحد . فالثقافة السائدة لا  تنظر الى الدولة باعتبارها ملكا لجميع المواطنين . وهي تعامل الاقليات باعتبارها "آخر" يناظر الاكثرية . ومن جانبها فان الاكثرية تتعامل مع وجود الاقليات باعتباره عبئا على النظام الاجتماعي او مشكلة ، وفي بعض الحالات تهديدا للوحدة ومصدرا للمشكلات ، وليس فرصة لاغناء الثقافة والحياة المشتركة في وطن واحد يتسع للجميع. وفي هذا الاطار يتساوى وضع البلوش في ايران مع وضع الاقباط في مصر ويتساوى اكراد سوريا مع سكان جنوب السودان . ففي جميع هذه الاقطار تنتسب الحكومة الوطنية حصرا الى الاكثرية ، بينما ينظر الى بقية المواطنين باعتبارهم "خلقا آخر" ليس لهم من الحقوق غير ما تتكرم به الاكثرية او من يمثلها في السلطة .
الى ذلك ، تتميز الدولة الشرق اوسطية بمركزية شديدة ، فالشؤون الوطنية وتوزيع الموارد المشتركة تدار كليا من العاصمة وتخضع تماما لهيمنة النخبة المقيمة فيها. هذه النخبة مهمومة بالامن والسيطرة ، ولهذا فهي تنظر الى كل "مختلف" باعتباره غريبا او مصدرا محتملا للتهديد . وفي هذا الاطار تنظر تلك النخبة الى الاقليات كمسارب محتملة للمشكلات الواردة من وراء الحدود ، وخصوصا حين تقع توترات على الجانب الاخر ، واخص من ذلك حين تقع التوترات في مجتمعات تربطها مع هذه الاقلية روابط اثنية او ثقافية او غيرها .
كانت نهاية الحرب الباردة ، وتراجع قيمة الايديولوجيات الشمولية في اواخر القرن العشرين بارقة امل للمجموعات الاثنية التي اعتقدت ان رياح الاصلاح ستهب على الشرق الاوسط لتنهي سياسات التمييز التي سادت فيما مضى . ولحسن الحظ فان بعض التقدم قد تحقق خلال السنوات القليلة الماضية في بعض الاقطار على الاقل . لكن ما يزال امامنا الكثير قبل الوصول الى علاج شامل وجذري . نحن بحاجة الى مواجهة جدية مع العوائق البنيوية المتاصلة في النظام الاجتماعي والدولة بشكل عام ، والتي يتطلب رفعها ما هو اكثر من الاقرار اللفظي ، بل وحتى الدستوري بحقوق الاقليات. تحتاج كل دولة الى اعادة صياغة مفهومها للعلاقة بين المجتمع والدولة على نحو يختلف عن المفهوم القديم الذي يبرر او يسمح بهيمنة الاكثرية وتهميش الاقلية . وهذا الاجراء ليس ضروريا فقط لتسريع التحول الديمقراطي ، بل وبالدرجة الاولى لصيانة وتعزيز مصداقية النظام الاجتماعي والاستقرار على المدى البعيد. وهذا لا يتحقق بتصويرات بلاغية مجردة عن حقوق الانسان والمساواة ، او حتى الاقرار بالتقصير في حق الاقليات او التاكيد عليها في الدستور والبرامج السياسية ، وان كانت بطبيعة الحال ضرورية . مشكلة الاقليات عميقة جدا ومتأصلة في التركيب الاجتماعي – السياسي للبلاد ، وهي نتاج لعوامل عديدة ومتشابكة ، بعضها سياسي وبعضها اقتصادي ، وبعضها ثقافي ، تفاعلت لزمن طويل جدا حتى انتجت الوضع الراهن . ولهذا فان امكانية العلاج محصورة في استراتيجية شاملة ، متعددة الابعاد وشجاعة ، تستهدف على المدى القصير تمكين الاقليات من الخروج من حالة العزلة والانكماش على الذات. لا بد من الاقرار كخطوة اولى بالهوية الخاصة لكل من هذه الاقليات ، وما يترتب عليها من حقوق تتعلق بالتعبير عن ثقافتها الخاصة ، مهما كانت مختلفة مع ثقافة الاكثرية . كما ان من الضروري تمكينها من الحصول على تمثيل في الجهاز السياسي والاداري للدولة يتناسب مع حجمها البشري . وقد يقتضي الامر هنا تجاوز المعايير الاعتيادية المتعلقة بمنح المناصب العامة ، وتطبيق ما يوصف احيانا بسياسة تمييز ايجابي لفرض هذا التمثيل على البيروقراطية التي تابى في العادة التخلي عن امتيازاتها الاحتكارية لاي وافد جديد الى النظام .

من ناحية اخرى فان الاقليات الاثنية في العالم العربي بحاجة الى فهم جوهر مشكلتها التي لا علاقة لها بالدين او المذهب او اللغة ، رغم ان كلا من هذه العناصر يستخدم سياسيا من جانب جميع الاطراف . جوهر المشكلة يكمن في فلسفة الحكم وتركيب الاجتماع السياسي . ويجب على كل اقلية تركيز كفاحها على الحصول على تمثيل يتناسب وحجمها الحقيقي في جميع منظومات الدولة السياسية والادارية . عدا عن القيمة الرمزية لهذا التمثيل ، فانه الوسيلة الاكثر فاعلية لادماج الاقلية في النظام السياسي ، وهو الخطوة الحاسمة لالغاء التمييز واصلاح الثقافة السياسية .

http://www.alayam.com/ArticleDetail.asp?CategoryId=5&ArticleId=205050

الإرادة العامة كخلفية للقانون

ذكرت في المقال السابق ان " الدين المدني " يستهدف وفقا لشروحات جان جاك روسو ، توفير مبرر أخلاقي يسند القانون العام. وقد جادل بعض ...