‏إظهار الرسائل ذات التسميات ايمانويل كانط. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات ايمانويل كانط. إظهار كافة الرسائل

21/11/2024

حق الفرد وحق المجتمع: مشكل أخلاقي

اعلم ان بعض القراء الاعزاء يطمع في جواب للسؤال المحير الذي أثارته مقالة الاسبوع الماضي. أما أنا فلازلت آمل ان يتحمس الاصدقاء للتأمل في جوهر السؤال واحتمالاته.

احدى المسائل الهامة التي أثارتها القصة الواردة في هذا المقال ، هي القيمة النسبية لحقوق الفرد مقارنة بالجماعة. بيان ذلك: افترض انك وجهت السؤال التالي لجمع من الناس: إذا تعارضت حقوق شخص واحد مع حقوق 100 شخص.. فأي الطرفين أولى بالرعاية؟.

أتوقع ان معظم الناس سيميل لترجيح مطالب الجماعة على حقوق الفرد. هذا أمر متعارف في كافة الثقافات ، لكنه سائد بدرجة اكبر في المجتمعات التقليدية ، التي تميل لاعلاء الرابطة الاجتماعية ، ولو ادى الى خرق حقوق الافراد.

كان ايمانويل كانط ، الذي يعتبر أبرز آباء الفلسفة المعاصرة ، قد طالب كثيرا باحترام كرامة الانسان الفرد ، وعدم اتخاذه أداة او وسيلة. الانسان - وفقا لهذه الرؤية - غاية في ذاته. وكل ما يفعله هو أو غيره ، ينبغي ان يستهدف اسعاد هذا الكائن العاقل ورفعته. يمكن للفرد أن يعمل على إسعاد غيره ، في الوقت الذي يعمل لسعادته الخاصة أيضا. لكن لا يصح استغلاله أو التضحية به في سبيل اسعاد الغير.

حسنا ما هو الميزان الذي يعيننا على التمييز بين الافعال التي لا تتعدى التفاعل العادي مع الناس ، وتلك التي تنطوي على علاقة استغلال؟.

يجيب كانط بأن ملاحظة انعكاس الفعل – ولو بصورة افتراضية - على الذات ، هو الذي يكشف لنا عن حقيقته. فان اردت التحقق من سلامة فعل ما ، فافترض انك تريد جعله قانونا لكل الناس ، ومنهم أنت. وهو هنا يشير الى الجانب الآخر ، اي كيف يكون الوضع لو انتقلت انت من جانب الفاعل الى جانب المتأثر بفعل الغير. دعنا نفترض مثلا ، انك تعطي رأيا في استحقاق شريحة من الناس لقروض بنكية او منحة حكومية أو وظيفة ما ، أو ربما كنت قاضيا يصدر حكما في واقعة. تخيل لو أن حكمك هذا أو رأيك ذاك سيتحول الى قانون لكل الناس ، وان غيرك سيستخدمه مستقبلا ضدك ، اي حين تطلب قرضا او منحة او وظيفة او حين تقف امام محكمة. لو فكرت في هذا الاحتمال بجدية ، فهل ستتريث قبل اتخاذ القرار ام لا ، هل ستفضل اتخاذ الجانب اللين ام ستختار الجانب الخشن؟.

تذكرت الآن حادثة واقعية رواها ضابط عراقي سابق ، وخلاصتها انه طلب من مدير الامن العام تزويد عنابر السجناء بمراوح هواء للتخفيف من شدة الحر ، أو السماح بتدبيرها من متبرعين. فغضب المدير وهدده بالعزل لو سمعه مرة اخرى يجامل من اسماهم بالمجرمين. ومرت الايام ، فاذا بالمدير سجينا في تلك العنابر ، وكان طلبه اليومي ، هو السماح له بتركيب مروحة هواء. يقول الضابط انه ذكر المدير السابق – السجين حاليا بطلبه القديم ، فاعتذر ايما اعتذار ، لكن فرصة الاحسان فاتته ووقع أسيرا لقراره. هذا معنى ان تفكر في رأيك او قرارك ، كما لو انه سيمسي قانونا لكل الناس.

 يذكرنا هذا بوصية الامام علي بن ابي طالب لولده الحسن: "يا بني اجعل نفسك ميزانا فيما بينك وبين غيرك فأحبب لغيرك ما تحب لنفسك، وأكره له ما تكره لها، ... واستقبح من نفسك ما تستقبح من غيرك، وارض من الناس بما ترضاه لهم من نفسك". ورسالة هذا النص تطابق تماما فكرة كانط "قانون لكل الناس".

خلاصة ما يقال إذن ، ان الميل العام لترجيح مصالح وحقوق الجماعة على مصالح الفرد وحقوقه ، قد ينطلق من مبررات معقولة ، في حالات كثيرة. لكنه ينطوي على مشكلة اخلاقية واضحة. فالمسألة هنا لا تتعلق بعدد المستفيدين ، بل بالفعل نفسه: اذا قبلنا بفعل خطأ ، لأنه يخدم أكثرية الناس ، فقد وضعنا تشريعا يجعل الخطأ مقبولا وقابلا للتطبيق. واذا كان ضحيته اليوم شخص واحد ، فقد يكون ضحيته غدا آلاف الناس. المسألة اذن تتعلق بالفعل نفسه وليس بعدد الذين يقع عليهم.

الشرق الأوسط الخميس - 20 جمادي الأول 1446 هـ - 21 نوفمبر 2024

https://aawsat.com/node/5083812

29/08/2024

اليد الخفية التي تدير العالم

مهما قيل في التأثير الهائل لانظمة الدعاية الحديثة على تفكير الناس وميولهم ، فلن تستطيع تحويل الانسان الى شبه آلة ، تحركها تلك الانظمة. بل أزعم ان التسليم المطلق بهذه الفكرة ، يناقض حكمة الله وتجربة البشر التاريخية. نعلم جميعا ان التقدم المستمر كان سمة ثابتة في تاريخ البشرية. وما ينتجه البشر اليوم من المعارف والمنتجات المادية ، دليل صريح على الفارق العظيم بين حالنا وحال البشرية قبل ألف عام مثلا. تزيد العلوم التي ينتجها انسان اليوم في عام واحد ، عما كان ينتجه الاسلاف في عشرات السنين. وينتج من الغذاء ومصادر الطاقة ووسائل المعيشة ، ما لم يصل اليه الأسلاف حتى في الخيال المجرد.

-         حسنا.. تأملوا معي في معنى التقدم ، أليس جوهره هو التمرد على الافكار السائدة والقناعات المعتادة والاعراف المعهودة.

تخيل أن "نيكولاس كوبرنيكوس" لم يتمرد على المبدأ الموروث ، القائل بان الارض مركز الكون وان الشمس تدور حولها ، فهل كان علم الفيزياء والفلك سيقفز تلك القفزة العظيمة التي نعيش نتائجها اليوم ، في حقل الاتصالات والطيران وتنبؤات المناخ وتطوير الانتاج الزراعي.. الخ؟. في تلك الايام كانت الكنيسة تعتمد نظرية الفلكي اليوناني القديم بطليموس ، وفحواها ان الأرض مركز الكون. ولهذا جوبه كوبرنيكوس بالعزل والتكفير ، فتردد كثيرا في نشر كتابه المتضمن نظريته الجديدة ، حتى الاشهر الاخيرة من حياته.

تخيل أيضا ان "آلان تورينج" لم يتمسك بنموذج الحاسبة الذكية التي طورها في 1938 رغم اخفاقاته الأولية وسخرية زملائه وأرباب عمله ، فهل سيكون لدينا الكمبيوتر والانترنت التي باتت محرك حياة العالم في هذا الزمان؟. هذا وذاك ، بل تاريخ البشرية كله ، دليل على ان فطرة الانسان الاولية ، هي التمرد على السائد والمتعارف ، وليس الانصياع له.

أقول هذا رغم اني – مثلكم – انظر للحياة الواقعية الماثلة امامي ، فأرى غالبية الناس ، تتأثر – كثيرا أو يسيرا - بتوجيه "الأيدي الخفية" التي تدير المسرح من وراء الستار.

-         كيف نوازن اذن بين الاستنتاج المثبت علميا ، عن تأثير الدعاية والبيئة الاجتماعية على تفكير الانسان وسلوكه ، وبين رفضنا للتسليم بهذا القول على نحو مطلق؟.

لاستيضاح المفارقة ، دعنا نستعين برؤية ايمانويل كانط ، رائد الفلسفة الحديثة ، حول الفارق بين حقيقة الاشياء وصورتها في الذهن.

ادرك قدامى الفلاسفة ان صورة الاشياء في الذهن ، لاتطابق دائما حقيقتها الواقعية. حين يخبرك شخص عن فرس سباق ، فربما تتخيل صورة اجمل فرس رأيته. لكن حين ترى الفرس في الواقع ، ستجده مختلفا عن صورته في ذهنك.

اولئك الفلاسفة قالوا ايضا ان معاينة الشيء تنهي تلك الازدواجية ، حيث تتطابق الصورة الذهنية مع الواقع. وقالت العرب قديما "فما راء كمن سمعا". لكن ايمانويل كانط وجد انك حين تنظر للشيء فانك تراه من خلال الصورة التي في ذهنك ، والتي غالبا ما تخالف الواقع قليلا او كثيرا. اي ان الفارق يبقى حتى لو رأيت الشيء بعينيك. هذه النقطة هي موضوع

 عمل الدعاية ، التي تحاول تثبيت صورة ذهنية عن الاشياء ، بغض النظر عن واقعها.

لكن كانط يقول ايضا – وهو بالتأكيد صادق تماما – ان عقل الانسان ليس مرتبة واحدة. فهناك العقل العملي الذي يدير حياتك اليومية ، وهناك العقل النظري الذي يتأمل حقائق الاشياء ويفكك معانيها ، باحثا عما وراء ظاهرها كي يتجاوزه ، فيتحرر من الحاجة اليه ، او يستبدله بما يغني عنه. الدافع لاختراع الطائرة – مثلا – كان شعور الناس بان السيارة عاجزة عن تجاوز قيود الجغرافيا ، مع ان احدا ربما لم يتخيل يومذاك امكانية ان يطير الحديد فوق الهواء. هذا العقل هو الذي يتمرد على تاثير الدعاية والتربية والبيئة ويختار طريقه المنفرد.

سوف اعود لهذا الموضوع في وقت لاحق. لكن يهمني التأكيد على لب الموضوع ، اي وجود حالتين متوازيتين في واقع الحياة: سلوك القطيع ومسايرة الناس ، مقابل الشك في هذا الواقع والتمرد على مسلماته. الأول يكرس النظام والراحة النفسية ، والثاني يؤكد قيمة العقل وكونه ماكينة التقدم الانساني.

الشرق الاوسط الخميس - 24 صفَر 1446 هـ - 29 أغسطس 2024 م   https://aawsat.com/node/5055340/

مقالات ذات صلة

 اختيار التقدم

اسطورة العقل الصريح والنقل الصحيح

اناني وناقص .. لكنه خلق الله

اول العلم قصة خرافية

تبجيل العلم مجرد دعوى

التعصب كمنتج اجتماعي

حول الفصل بين الدين والعلم

الرزية العظمى

العقل المؤقت

لولا الخلاف في الدين لضاع العلم والدين

ماذا يختفي وراء جدل العلاقة بين العلم والدين

مثال على طبيعة التداخل بين الدين والعلم

مغامرات العقل وتحرر الانسان - كلمة في تكريم الاستاذ ابراهيم البليهي 

من العقل الجمعي الى الجهل الجمعي


 

22/03/2023

رمضان كريم


 يحل علينا هذا الأسبوع شهر رمضان المبارك ، الذي اعتاد أهل بلدنا ان يتخذوه فرصة للتواصي بمكارم الاخلاق ، لا سيما الاحسان الى ضعفاء الخلق ، وكذلك التواضع وفعل الخير ، وترك الإساءة بالقول والفعل ، حتى لمن أساء الينا ، وأمثال هذا من الآداب والمحاسن.  

وقد سمعت أحيانا من يعارض هذا الكلام بمثل القول انه اذا تكبر عليك احدهم فتكبر عليه ، واذا ضربك احدهم فرد الضربة بضربة ، واذا كان سيئا فكن سيئا معه ، ولعله يستشهد بقول عمرو بن كلثوم "الا لا يجهلن احد علينا .. فنجهل فوق جهل الجاهلينا".

ولست في وارد الجدل مع أصحاب هذا الرأي. لكني وجدت حاجة لوضع قاعدة ، تكون معيارا نرجع اليه في الاخذ بهذا الرأي او نقيضه. هذه القاعدة هي فكرة الامر المطلق او القانون الكوني التي اقترحها ايمانويل كانط ، الفيلسوف الألماني الشهير.

يبدأ كانط بالنظر في داخل النفس الإنسانية ، فيراها منجذبة بطبيعتها للاستكثار من المنافع المادية ، حتى لو أدى للاستئثار بها دون الآخرين او على حسابهم. هنا يتوقف كانط ، داعيا للبحث عن مصدر  هذا الميل الأناني: هل هو غريزة التملك التي نولد وهي جزء من تكويننا العقلي ، ام هو صادر عن قناعات امتصها الانسان من محيطه ، مثل استنقاص الآخرين ، لسبب ديني او عرقي او طبقي او غيره.

يدعونا كانط للنظر الى أحكامنا وقراراتنا وافعالنا كما لو انها ستصبح قانونا كونيا يطبق على غيرنا أولا ، لكنه بعد ذلك سيطبق علينا وعلى أبنائنا واهلنا أيضا. بعبارة أخرى ، فان القانون الكوني يعني انني سأكون عرضة لنفس الحكم الذي أصدرته على غيري. فاذا حرمته من شيء ، فسيكون من حق الآخرين ان يعاملوني بنفس الطريقة ، واذا كذبت عليهم ، فقد اعطيتهم المبرر كي يكذبوا علي ، واذا استأثرت أنا وأهلي بشيء دونهم ، فقد منحتهم اذنا إن أرادوا ان يستأثروا بما شاؤوا ويحرموني من كل ما اظنه حق مشترك لي ولهم.

القانون الكوني اذن هو ما ينطبق على الجميع بنفس القدر والدرجة. فاذا أعطيت لنفسي الحق في فعل شيء يؤذي الغير ، فقد اقمت قاعدة جديدة تسمح لهم بفعل ما يؤذيني ، فاذا عارضتهم ، فلهم ان يقولوا : لقد سبقتنا ووضعت قانونا ، وقد جرى في الامثال قول بعض السلف "كما تدين تدان".

أريد الإشارة الى ان هذه الفكرة ليست جديدة تماما ، وليست من مبتكرات كانط ، فقد ورد مثلها في العديد من النصوص القديمة ، الفلسفية والأخلاقية. ولعل من أقربها الى مألوفنا ، وصية الامام علي بن ابي طالب لولده ، التي يقول فيها "يا بني اجعل نفسك ميزانا فيما بينك وبين غيرك فأحبب لغيرك ما تحب لنفسك، وأكره له ما تكره لها، ولا تظلم كما لا تحب أن تظلم، وأحسن كما تحب أن يحسن إليك، واستقبح من نفسك ما تستقبح من غيرك، وارض من الناس بما ترضاه لهم من نفسك".

يستطيع الانسان معرفة الدافع العميق لحكمه على الاخرين او تصرفه تجاههم. فهو قد يترفع عليهم ، لانه يرى نفسه صاحبا للدين الحق ، او منحدرا من عرق اصفى أو ارقى ، او منتميا الى طبقة ارفع شأنا. بل ان الانسان يسعى لاستنباط مبررات (كاذبة في بعض الأحيان) تربط ربطا اعتباطيا بين الميول الانانية وبين هذه الانتماءات. أقول ان الانسان يستطيع اكتشاف هذه الحقيقة لو تأمل بعمق في دواخل نفسه.

أتمنى لكم شهرا حافلا بالمسرات ، كما أتمنى ان تتاح لكل منا الفرصة كي يهذب ما استطاع من نوازع النفس ، كي نعود في ختامه أقرب الى حقيقة الإنسانية الصافية ، التي هي تجل من تجليات الفيض الرباني. كل عام وانتم بخير.

 الشرق الاوسط  الأربعاء - 29 شعبان 1444 هـ - 22 مارس 2023 مـ رقم العدد [16185]

https://aawsat.com/node/4226336

الإرادة العامة كخلفية للقانون

ذكرت في المقال السابق ان " الدين المدني " يستهدف وفقا لشروحات جان جاك روسو ، توفير مبرر أخلاقي يسند القانون العام. وقد جادل بعض ...