‏إظهار الرسائل ذات التسميات دور العقل في التشريع. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات دور العقل في التشريع. إظهار كافة الرسائل

24/08/2023

العلم والدين عالمان مختلفان

الغرض من هذه الكتابة هو إيضاح الحاجة للفصل بين الدين والعلم ، في الوظيفة والقيمة ومناهج البحث ، لا سيما أدوات النقد.

لا نريد مجادلة القائلين بان العلم جزء من الدين ، أو ان الدين قائم على العلم. فهذي تنتهي غالبا الى مساجلات لفظية قليلة القيمة ، تشبه مثلا إصرار بعضهم على ان قوله تعالى "وعلم آدم الاسماء كلها" دليل على ان العلم والدين كلاهما يرجعان لمصدر واحد ، لهذا فهما متصلان. هذا النوع من الجدل لا ثمر فيه ولا جدوى وراءه.

-         ربما يقول قائل: فلنفترض – جدلا – اننا قبلنا بهذا التمهيد ، فما هي جدوى هذه النقاشات التي أكل عليها الدهر وشرب؟.

مكانة الانسان الفرد ودوره في صناعة عالمه هو قلب اشكالية الدين/العلم

جوابا على هذا أقول ان غرض النقاش هو التشديد على استبعاد المؤثرات العاطفية عند النظر في هذه المسألة وأمثالها. وهي مؤثرات محركها – فيما اظن – ارتياب في الافكار الجديدة ، سيما اذا لامست قضايا مستقرة لأمد طويل. واقع الحال يخبرنا أن الإصرار على ربط العلم بالدين ، ادى الى إقصاء المنطق العلمي الضروري لمواجهة المشكلات. فكأن العقل الكسول يقول لنفسه: مادمنا نستطيع تحويل المشكلة على الغيب ، والخروج بحل مريح ، فلماذا نجهد انفسنا بحثا عن حلول غير مضمونة؟. ولعل بعضنا يتذكر الواعظ الذي هاجم الداعين لاغلاق الجوامع والمشاهد التي يزدحم فيها الناس ايام وباء كورونا. وقال ما معناه ان العلاج الحاسم للوباء يكمن في التوسل الى الله والاستشفاع بأوليائه كي ينعم على المرضى بالشفاء. وهذا غير ممكن الا بترك أماكن العبادة مفتوحة للمصلين والداعين ، أما المرض فهو موجود في أماكن الاثم وليس في اماكن العبادة ، المرض لايأتي الى محل التشافي منه!.

ومن ذلك ايضا التوافق القائم منذ قرون ، على ان "علم الدين" لا ينبغي ان يتجاوز الحدود التي رسمها العلماء الماضون. لهذا اقتصرت بحوث المعاصرين على شرح اقوال السابقين ، او تحقيقها او التعديل عليها قليلا. ونادرا ما تصل لنقضها او اقتراح بدائل تعارضها جوهريا. بمعنى آخر فان "علم الدين" المعاصر ليس أكثر من تأكيد على أخيه القديم.

ونظرا لشيوع هذا المفهوم وتلبسه صبغة الدين ، فقد تمدد في غالبية نظم التعليم والبحث العلمي العربية. لهذا ترى العلم القديم حاضرا بقوة في معظم الابحاث ، لا كموضوع للنقد والمجادلة ، بل كأساس يقف عليه الباحث او دليل يرجع اليه ، مع ان القاعدة العقلائية تفترض ان العلم الجديد اكمل من سابقه.

العلم والدين عالمان مختلفان في الوظيفة. فالعلم غرضه نقض السائد والموروث ، واستبداله بما هو أحسن ، ولذا فان معظمه يركز على مساءلة الأدلة والتطبيقات ، والعمل على نقضها والبحث عن بدائلها. اما الدين فوظيفته معاكسة. يوفر الدين اليقين ، اي الرؤية الكونية التي تجيب على اسئلة الانسان الوجودية ، فتولد الاطمئنان الى المصير. كما توفر الشريعة الارضية الفلسفية للقانون ، والمضمون المناسب لقواعد العمل الفردي والجمعي في المجتمع الانساني. ونعلم ان تواصل الانسان مع الكون الذي يعيش فيه ليس من نوع الآراء التي يمكن تغييرها بين حين وآخر. كذلك فان الاستمرارية جزء من طبيعة القانون ، حتى لو قلنا بامكانية تغييره وتحديثه.

نظرا لاختلاف الوظيفة ، فان منهج البحث في الدين مختلف عن نظيره في العلم. وهنا لا بد من التذكير بضرورة التمييز بين الدين والمعرفة الدينية ، حيث يراعى في الدين مصدره الالهي ، بينما المعرفة الدينية بشرية وغير معصومة ، فهي تخضع لنفس قواعد وادوات النقد المتعارفة في العلوم العادية.

الشرق الاوسط الخميس - 08 صفَر 1445 هـ - 24 أغسطس 2023 م

https://aawsat.com/node/4504281

مقالات ذات صلة

أحدث من سقراط
 أن تزداد إيماناً وتزداد تخلفاً
تأملات في حدود الديني والعرفي   
تبجيل العلم مجرد دعوى

تشكيل الوعي.. بين الجامع والجامعة.. دعوة مستحيلة 
حول الفصل بين الدين والعلم

الـدين والمعـرفة الدينـية
الرزية العظمى
الشيعة والسنة والفلسفة وتزويق الكلام: رد على د. قاسم
العلم في قبضة الايديولوجيا: نقد فكرة التاصيل
في الاعجاز والاختبار والعذاب الالهي
كي لايكون النص ضدا للعقل
لولا الخلاف في الدين لضاع العلم والدين
ماذا يختفي وراء جدل العلاقة بين العلم والدين
مثال على طبيعة التداخل بين الدين والعلم
مرة اخرى : جدل الدين والحداثة
نفوسنا المنقسمة بين عصرين
 حول تطوير الفهم الديني للعالم

 

16/08/2023

تبجيل العلم مجرد دعوى

زميل عزيز كتب لي عاتبا على الحاحي غير المبرر – كما قال - على دور العقل في التشريع ، ومساواته بالنص ، فكأنه لم تبق في العالم قضية غير هذه ، وكأن أحوالنا كلها صلحت واستقامت ، فلم يبق سوى اصلاح دين الله.

والحق اني لم اجد جوابا مناسبا على عتاب الصديق. لكني تساءلت عن الداعي للعتاب ، مع ان جدل العقل والنقل دائر منذ قرون. ولم اعرف الجواب في أول الأمر. ثم تذكرت لاحقا ان زميلي لا يتحدث عن "دور العقل" على النحو المتعارف في مجامع العلم الشرعي ، بل يركز خصوصا على ما زعمته من تنافر بين العلم والدين. ويهمني التذكير بأن هذا هو قلب اشكالية العقل والنقل ، في رايي.

علاقة الدين بالعلم ، تبدو عند عامة الناس محسومة. لكنها في واقع الامر محكومة بفرضيات متوهمة. وسأعرض هنا لواحدة منها ، وهي الفرضية القائلة بانه لا خلاف مطلقا بين العلم والدين ، والدليل عليه الآيات والروايات التي تبجل العلم وأهله ، فضلا عن تبجيلنا للعلماء الذين عرفهم تاريخ الاسلام القديم.

ولهذه الفرضية نصيب من الحقيقة ، على المستوى النظري البحت. لكنها تستعمل دائما في الموقع المضاد للنظرية. وهذا سبب وصفها بالوهم ، لأننا نتحدث في مستوى الفعل الواقعي اليومي للناس ، وليس في مستوى المجردات.

يعلم القراء الاعزاء بأن المجتمع الديني يطلق وصف "العالم" على دارس العلوم الشرعية فقط. فالطبيب والمهندس والفيلسوف والفيزيائي واللغوي وأمثالهم ، لا يعتبرون – في العرف الديني – علماء.

-         لكن .. ما الداعي لهذه الاشارة؟.

هذه الاشارة مهمة ، لأن مدارس العلم الشرعي تعتبر العلم حجة على صاحبه. فلو علمت باتجاه القبلة مثلا ، وجب عليك الاتجاه اليها في الصلاة ، حتى لو خالفك جميع الناس. حجية العلم من القواعد المشهورة في أصول الفقه. لكن – وهنا يأتي دور العرف المذكور سابقا – جرى التعارف على ان تلك الحجية محصورة في العلوم التي يألفها طلاب الشريعة ، وهي عدد قليل جدا ، أبرزها علوم اللغة ، فقول اللغوي عندهم حجة في فهم النص. ويميل الاكثر الى قبول رأي بقية العلماء في تشخيص موضوعات الحكم ، وليس أدلة الحكم. ومنه مثلا قبول راي الطبيب في تحديد قدرة المريض على الصوم او عدمها. لكنهم لا يقبلون رأيه أو رأي غيره من حملة العلوم الحديثة ، في الامور التي تحدث فيها قدامى علماء الشريعة ، مثل عدد سنوات الحمل ، وتحديد سن البلوغ والرشد ، وتعيين اوقات الصلاة واثبات الهلال ، والشهادة في القضاء. كما لا يقبلون رأيه إذا تعلق بأدلة الاحكام (وليس موضوع الحكم). ومن هنا فهم لا يقبلون رأي عالم اللسانيات او الفيلسوف في تفسير النص او تأويله. ولا يقبلون رأي عالم الاقتصاد في تحديد المفيد والضار من المعاملات المالية والمصرفية. كما انهم يرفضون – من حيث المبدأ – اي بحث يعتمد معايير ومناهج العلم الحديث ، في موضوعات مثل المساواة بين الذكور والاناث ، في الحقوق والواجبات ، وامثالها.

هذه الامثلة ، وهي قليل من كثير ، توضح المسألة التي بدأت بها ، وهي ان نقاشنا في دور العقل في أمور الدين ، لا يتعلق بالموازنة بين العقل والنقل ، كما يفهمه غالب الناس ، بل بالتناقض الحاصل بسبب ادعاء بعضهم امتلاك العلم وتبجيل اهله ، بينما يرفضون اي علم غير العلم الذي ألفوه واعتادت عليه نفوسهم. والحق ان العلم دليل على الواقع ، وصفا أو تفسيرا ، فينبغي ان يكون – بذاته - حجة مقبولة في اي امر شرعي ، كي يبقى الدين متصلا بالواقع. ولو قبلنا بهذه القاعدة ، فسوف ينفتح الباب لتطورات عظيمة في الفكر الديني وفي القانون.

الشرق الأوسط الأربعاء - 30 مُحرَّم 1445 هـ - 16 أغسطس 2023 م

https://aawsat.com/node/4489901

مقالات ذات صلة

أحدث من سقراط
 أن تزداد إيماناً وتزداد تخلفاً
تأملات في حدود الديني والعرفي
تشكيل الوعي.. بين الجامع والجامعة.. دعوة مستحيلة 
حول الفصل بين الدين والعلم
الـدين والمعـرفة الدينـية
الرزية العظمى
الشيعة والسنة والفلسفة وتزويق الكلام: رد على د. قاسم
العلم في قبضة الايديولوجيا: نقد فكرة التاصيل
في الاعجاز والاختبار والعذاب الالهي
كي لايكون النص ضدا للعقل
لولا الخلاف في الدين لضاع العلم والدين
ماذا يختفي وراء جدل العلاقة بين العلم والدين
مثال على طبيعة التداخل بين الدين والعلم
مرة اخرى : جدل الدين والحداثة
نفوسنا المنقسمة بين عصرين
 حول تطوير الفهم الديني للعالم

24/08/2022

الحكم اعتمادا على العقول الناقصة

كيف نوكل امورنا الدينية والحياتية الى عقل تتغير استنتاجاته بين يوم وآخر وبين شخص وآخر؟.

 وأي عقل هو المعيار .. عقل الفقيه ام عقل الفيلسوف ، ام عقل الطبيب ام عقل السياسي ، ام عقول عامة الناس؟.

 وما العمل اذا اختلفت عقول الناس واختلفت آراؤهم ، في أمور كبيرة تستدعي وحدة الرأي والموقف؟.

هذه الردود هي الاوسع انتشارا بين معارضي دور العقل في التشريع. والحق انها صحيحة في ذاتها ، لكنها لا تصلح للاستدلال. بعبارة أخرى ، فان العقل لا يتوقف عن نقد نفسه ، فقد يتبنى اليوم رأيا وينقضه غدا. كما ان الناس ينظرون الى نفس الموضوع او يستعملون نفس الأدلة ، لكنهم يتوصلون لنتائج مختلفة. وهذا ينافي الثبات والوحدة المفترضة في الاحكام الشرعية والقوانين العامة. ان استقرار القانون وقابلية التنبؤ مسبقا بنتائج الالتزام به او مخالفته ، ركن مهم من اركان العدالة.

هذا يوضح ان تلك الاعتراضات ليست ضعيفة او هامشية. بل هي موقف العقلاء جميعا. لكنها مع ذلك ، لا تصلح لانكار دور العقل/العلم في التشريع.

بيان ذلك: ان نقاشنا يتناول مرحلتين:

الأولى يوضحها سؤال: هل يستطيع العقل/العلم كشف الحسن والقبح في الفعل ام لا؟. هذا سؤال قائم بذاته ، اصلي وتأسيسي ، يجب قبوله أو رفضه من حيث المبدأ ، وبغض النظر عن كون الكشف المدعى طويل الأمد ام قصير الأمد ، ثابتا ام متغيرا.

المرحلة الثانية: اذا قبلنا بفرضية ان العقل/العلم قادر على كشف الحسن والقبح في الأفعال ، فما هي الطريقة الصحيحة ، لتحويل هذا الكشف من رأي لم يتفق عليه الناس ، وهو قابل للتغيير ايضا ، الى رأي ثابت ومورد اجماع ، كي يشكل أساسا سليما للحكم الشرعي والقانون؟.

قلت سابقا انه لا توجد طريقة لاقناع معارضي دور العقل/العلم بتغيير موقفهم. اكثر ما نستطيع هو دعوتهم للتأمل في علاقتهم هم بالعلم والعقل والعرف ، التأمل من دون قيود او مخاوف ، فذلك هو الطريق. لكن دعنا في الوقت الحاضر نفترض انهم قبلوا بالمرحلة الأولى ، أي قابلية العقل/العلم لكشف المصالح والمفاسد. لكن اعتراضهم مركز على المرحلة الثانية ، أي اتخاذ قرارات العقل/العلم أساسا للحكم الشرعي. والجواب على هذا يعرفه كل العقلاء. فالعلماء في مختلف الحقول يدرسون المسائل ويتوصلون الى نتائج (دعنا نطلق عليها رايا علميا او فتوى علمية). ثم تقدم هذه الآراء والفتاوى لصاحب الشأن ، فيختار  منها ما يراه مناسبا للمسألة الحاضرة. 

صاحب الشأن هذا ، هو الشخص او الهيئة المخولة بوضع الاحكام الشرعية او القوانين: ربما يكون قاضي المحكمة ، او مجلس الشورى او البرلمان او رئيس الدولة او الفقيه المرجع او المفتي. بعبارة أخرى فان الراي العلمي قد يصدره فقيه في الشريعة او أستاذ في القانون او خبير في الاقتصاد او كبير مهندسين او كبير أطباء او غيرهم ، فيعامل باعتباره رايا علميا محترما. لكنه غير ملزم لأحد. فاذا اختاره صاحب السلطة المختصة ، فسوف يتحول الى رأي ملزم لكل الناس ، مثل حكم القاضي او قانون البلد. واذا تم إصداره على هذا النحو ، فسوف يكون مستقرا لفترة زمنية معقولة ، ولن يلغى اذا تغير راي العالم او تغيرت قناعة القاضي او رئيس الدولة.

 ان تغيير الحكم او القانون الذي دخل مرحلة التطبيق العام ، سيخضع لنفس الإجراءات التي يمر بها حين ينتقل من راي علمي شخصي الى حكم عام.

الأربعاء - 27 محرم 1444 هـ - 24 أغسطس 2022 مـ رقم العدد [15975] https://aawsat.com/node/3833036

13/07/2022

دين العقلاء .. أي دين نتحدث عنه؟

دعوت في مقال الأسبوع الماضي للاعتراف بالعقل مرجعا مستقلا ، في وضع الاحكام الشرعية ، موازيا للكتاب والسنة. وقلت يومها ان هذا نقاش قديم في الفكر الإسلامي.

سوف أعرض اليوم ما احسبه امورا بديهية ، تجيب على السؤال الذي زعمت انه مركز الجدل في دور العقل ، سؤال: هل الفعل بذاته ينطوي على قيمة (صحيح/خطأ ، حسن/قبيح). وهل العقل قادر على تشخيص تلك القيمة في الأفعال؟.

اعتقد ان كل عاقل "في هذا الزمان" يعرف الجواب. ويطبقه فعليا: تخرج من بيتك صباحا فترى الاف الناس قاصدين أعمالهم مثلك. تراهم يقودون سياراتهم في الاتجاه الصحيح وليس العكس. وحين يصلون أعمالهم ، سينجزونها بالصورة المتفق عليها. وفي نهاية الدوام سيقصدون بيوتهم وسيأكلون ما يعرفون انه صحي. خلال هذا اليوم نقابل عشرات الناس ، ونراهم يحددون مصالحهم ويتبادلونها فيحصل معظمهم على بعض ما أراد. في اليوم نفسه نكتشف أشياء نعتبرها خاطئة ، مثل شخص يسوق سيارته بتهور ، او موظف يتلاعب في معاملة ، او ربما نذهب للبقالة فنجد الحليب فاسدا ، او نقرأ خبرا في جريدة فنقبله او نرفضه.

أطباء بلاحدود

نحن نقوم بهذه الأفعال اليومية لأننا نظنها صحيحة. ونعترض على أخرى نراها خاطئة. فهل قرأنا في أي نص ديني وصفا لهذه الأفعال وحكما عليها ، ام أن عقولنا هي التي عرفتها فحكمت بصحتها او خطئها وبأنها تستحق الشكر او  التنديد؟.

هذا ببساطة ما نسميه ذاتية الحسن والقبح في الأفعال ، وقدرة العقل على ادراكها. ترى هل يختلف الناس في الموقف من السائق المتهور ، أو تحديد قيمة الموظف المتلاعب ، او وصف الطالب المجتهد في دراسته؟.

دعنا الان نضرب امثلة من تاريخ البشرية القريب. ونبدأ باتفاقيات جنيف (1949) التي وضعت ضوابط الزامية لتصرفات المقاتلين في الحرب ، غرضها حماية المدنيين ومنع الإبادة ، وتخفيف الخسائر في البشر والعمران. خذ أيضا المواثيق الدولية لحماية البيئة الكونية ، مثل اتفاقية باريس للمناخ (2015) التي غرضها تنظيم الجهد الإنساني الطويل الأمد ، لتلافي الكوارث البيئية. وخذ أيضا المبادرات الكبرى ، مثل منظمة أطباء بلا حدود ومنظمات السلام الأخضر ، ومنظمة الأغذية والزراعة الدولية ، وغيرها. ثمة امثلة كثيرة جدا من التاريخ القديم والحديث ، تخبرنا عن قدرة الانسان على تحديد ما يصلح حياته وما يفسدها. ان المسيرة التصاعدية في التاريخ البشري دليل قاطع على هذه القابلية.

تلك الأمثلة تحقق دون شك ، غايات يريدها الدين ، كالتراحم بين الناس وتنظيم مجتمعهم وتطوير معارفهم وحماية بيئتهم ومصادر عيشهم ، وكبح انزلاق النزاعات الى فجائع. هذه الأمثلة وكثير غيرها ، تبلورت ونضجت خارج اطار الدين ، أقامها عقلاء البشر حين رأوها  مصلحة راجحة او دفعا لفساد جسيم.

لاحظ اننا نتحدث عن اتفاقات تنظم العلاقات بين دول ، ويشارك في تنفيذها ملايين الافراد ، جميعهم يسعى نحو هدف واحد. ترى.. اذا كان العقل البشري مؤهلا لانجاز مهام كهذه ، فما هي المهام التي يعجز عنها في اطار الدين؟. واذا كان العقلاء قادرين على إدارة الاختلاف بين عقولهم ، على نحو يقيم اتفاقات بالحجم الذي اشرنا اليه ، فلماذا تعجز العقول المختلفة عن فعل الشيء نفسه في الاطار الديني؟.

اليس موضوع الدين هو سلوك البشر وافعالهم. اليس مقصود الفقه هو تنظيم هذا السلوك ، كي يؤدي اغراضا محددة .. فما هي الصعوبة الهائلة التي تسمح لعقل الانسان بوضع اتفاقية تنظم العمل المشترك في 194 دولة ، لكنه يعجز عن وضع حكم شرعي ينظم العلاقة بين شخصين؟.

هل نريد الحديث عن دين في واقع الحياة ، وقد عرضنا بعض جوانب هذا الواقع ، ام نتحدث عن دين اسطوري يحلق في أجواء الخيال وبين الكتب؟.

الشرق الأوسط الأربعاء - 13 ذو الحجة 1443 هـ - 13 يوليو 2022 مـ رقم العدد [15933]

https://aawsat.com/node/3754591


مقالات ذات صلة

 الاستدلال العقلي كاساس للفتوى

تأملات في حدود الديني والعرفي

جدل الدين والتراث ، بعد آخر

حول الفصل بين الدين والعلم

حول المسافة بين الدين والمؤمنين

حول تطوير الفهم الديني للعالم

دور الفقيه ، وجدلية العلم والحكم

الـدين والمعـرفة الدينـية

شرع العقلاء

عقل الاولين وعقل الاخرين

عن الدين والخرافة والخوف من مجادلة المسلمات

كي لايكون النص ضدا للعقل

كيف تتقلص دائرة الشرعيات؟

ماذا يختفي وراء جدل العلاقة بين العلم والدين

مثال على طبيعة التداخل بين الدين والعلم

نسبية المعرفة الدينية

نقاشات "عصر التحولات"

هكذا خرج العقل من حياتنا

هيمنة الاتجاه الاخباري على الفقه

06/07/2022

الرزية العظمى


سؤالان ، الأول: لماذا لا يستطيع عامة الناس مناقشة احكام الدين والمشاركة في استنباطها. الثاني: لماذا لا يسمح باخضاع الأحكام والقيم الدينية للنقد ، بناء على مستخلصات العلم وأحكام العقل؟.

لكلا السؤالين جواب واحد ، خلاصته ان فقهاء المسلمين لا يرون العقل أهلا لتشخيص المصالح والمفاسد ، او الانفراد بتحديد الحسن والقبيح من الأفعال ، وتبعا تحديد ما يترتب على الفعل من ثواب او عقاب.

وهذا نقاش قديم في الفكر الإسلامي ، تناول مصدر القيم ، والمرجع في تحديد ما هو حق وما هو خير ، وما يعاكس ذلك. وبسببه انقسم العلماء بين أقلية تدعي أن العقل مؤهل لادراك الحق وتحديد الحسن والقبح ، وأكثرية ترى أن تبني هذا الرأي سيقود للتساهل في الالتزام بأحكام الشريعة ، سيما تلك التي تنطوي على كلفة. كما قالوا ان اتباع أحكام العقل في العقائد ، سيفتح بابا لنفوذ افكار أجنبية غريبة عن روح الإسلام ومقاصده.

هل تفكر ثم تصدق ، ام العكس؟

ربما يظن القاريء أن إحياء النقاش في هذا الأمر قليل الجدوى. واقع الأمر اننا نواجه اليوم النتائج المريرة لتراجع الاتجاه العقلي (وتبعا قيمة العلم) في الثقافة الإسلامية ، حتى صرنا نقرأ لفقيه او استاذ جامعي او محام بارع او طبيب مشهور ، كلاما من قبيل (ان ابليس كان ملكا يعبد الله ، ثم انحرف عن الجادة حين استخدم عقله ، فقاس خلقه على خلق آدم) او تقرأ كتابة لفقيه يتبعه آلاف الناس ، ينقل فيها رواية فحواها (لو كان الدين بالرأي لكان باطن القدمين أحق بالمسح من ظاهرهما). ومثل هذه الأقوال تعامل اليوم معاملة المسلمات ، بل البديهيات ،  ثم تتخذ حجة على قضية في غاية الأهمية والخطر ، أعني مكانة العقل والعلم ودوره في تحديد قيم الأفعال ، وهي اهم قضايا القيم في حياة الانسان كلها.

انني اتفهم تماما بواعث القلق الذي يعبر عنه المعارضون لدور العقل. لكني أود أيضا ان يتأملوا معي في سؤال بسيط: كيف فهموا ذلك الباعث ، وكيف فهموا بالتحديد الربط بين الباعث والمخاطر التي اثارت قلقهم؟. هل استعملوا عقولهم في التوصل الى هذا الرأي ، وهل يثقون في هذا النتاج العقلي؟. خذ ايضا مبرر التساهل في الالتزام بالشريعة.. هل يرونه لازما من لوازم القبول بنتائج العلم وحكم العقل ، أي هل الاخذ بحكم العقل علة للتساهل ، بحيث لا يمكن الفصل بين الاثنين. وهل نستطيع القول بلا تحفظ ان التساهل يعني التفريط ، ام انه ينصرف غالبا الى معنى الاخذ بأيسر الخيارين اذا تراوح الامر بين اليسر والعسر ، كما هو الحال في موارد اختلاف الفقهاء؟.

لكن هذا ليس جوهر المشكلة. جوهرها هو ادعاء إمكانية الاعتماد التام على النقل ، وتهميش دور العقل.  أقول ان هذا جوهر المشكل ، لأنه ينتهي (دائما) بولادة واجبات ومحرمات اصطناعية ، لا أصل لها سوى الميل للاحتياط الشديد. ونعرف هذا بوضوح في احكام السفر والعلاقة مع غير المسلم ومكانة المرأة والتشريعات الاقتصادية والمسافة بين الاخلاقيات والشرعيات.. والكثير من القضايا التي حولت الدين الحنيف الى موضع للجدل والسخرية ، كما ساعدت في انحساره يوما بعد يوم في المجال العام.

لهذه الأسباب ، لا أراني مجازفا لو زعمت أن تهميش مكانة العلم ودور العقل ، وأعني به العقل العام او ما يعرف ببناء العقلاء ، كان من اكبر الرزايا في تاريخ الإسلام وفي حاضره ، واننا في أمس الحاجة للعودة الى جوهر ديننا ، الذي جعل العقل في مرتبة واحدة مع نص القرآن وكلام الرسول ، في التشريع وفي إدارة الحياة وفي صناعة القيم أيضا.

الشرق الأوسط الأربعاء - 6 ذو الحجة 1443 هـ - 06 يوليو 2022 مـ رقم العدد [15926]

https://aawsat.com/node/3742416

مقالات ذات صلة

 

الاستدلال العقلي كاساس للفتوى

تأملات في حدود الديني والعرفي

جدل الدين والتراث ، بعد آخر

حول الفصل بين الدين والعلم

حول المسافة بين الدين والمؤمنين

حول تطوير الفهم الديني للعالم

دور الفقيه ، وجدلية العلم والحكم

الـدين والمعـرفة الدينـية

شرع العقلاء

عقل الاولين وعقل الاخرين

عن الدين والخرافة والخوف من مجادلة المسلمات

كي لايكون النص ضدا للعقل

كيف تتقلص دائرة الشرعيات؟

ماذا يختفي وراء جدل العلاقة بين العلم والدين

مثال على طبيعة التداخل بين الدين والعلم

نسبية المعرفة الدينية

نقاشات "عصر التحولات"

هكذا خرج العقل من حياتنا

هيمنة الاتجاه الاخباري على الفقه

 

29/06/2022

التخصص ام سلطة المتخصص؟


موضوع هذا المقال سؤال يتردد كثيرا في هذه الأيام ، ولا يحظى بالجواب المناسب. فحوى هذا السؤال: هل يصح لكل شخص ان يناقش في أمور الدين.. اليس علم الدين مجالا تخصصيا ، مثل الهندسة والطب والادب والتاريخ. هذا سؤال يتردد عادة على السنة الدعاة ، الذين يصعب عليهم رؤية مجالهم الخاص مستباحا لكل عارف ونصف عارف.

ما الذي يجري على وجه الدقة.. لماذا يرغب اهل هذا الزمان في نقد المواقف والأفكار التي تنسب للدين. وما الذي يثير القلق تجاه هذا النقد؟.

الارض على قرن ثور: النصب التذكاري لضحايا زلزال 1948 في عشق آباد-تركمنستان

اعتقد ان فكرة التخصص قناع يخفي مشكلة أخرى هي المرادة بالكلام. ونستطيع فهم هذا المراد اذا تجاوزنا ظاهر القول الى ما وراءه. ليس المقصود البحث عن "نية القائل" بل تأويل القول. وخطوتنا الأولى هي التحرر من قيد اللفظ ، والتفكير في الشواغل المحتملة للقائل ، أي: ما هو الباعث على السؤال وما الذي يبحث عنه السائل؟.

والذي أرى ان الباعث هو عدم القدرة على تجسير الهوة بين زمنين او نسقين من التفكير: يمكن ان نسمي الأول زمن التلقين ، أي الزمن الذي كانت المعرفة محصورة بمجملها تقريبا بين المشتغلين بالعلم الديني ، والقليل ممن يدور حولهم ، بينما كان بقية الناس اميين او شبه اميين. يومها كانت المعرفة تمنح صاحبها نوعا من النفوذ او السلطة. وكان بوسعه الإيحاء بالتطابق بين كلامه وكلام الله والانبياء والائمة ، فلا يعارضه أحد. كان العرف الجاري يومذاك ان يتقبل الناس ما يقال لهم ، لأنه كان النافذة الوحيدة لمن أراد المعرفة.

ثم مر الزمان وتوفرت المدارس ومصادر المعرفة لعامة الناس ، فبات في وسعهم مجادلة المعارف الدينية رجوعا الى مصادرها ، او محاكمتها رجوعا الى قواعد علمية أخرى. كان يمكن لأحد الفقهاء في الماضي ، ان يقول مثلا ان الله أقام الأرض "على حوت في البحر ، ووضع البحر على صخرة يحملها قرن ثور أملس" ، فيستمع اليه الناس مندهشين ، وربما هزوا رؤوسهم اعجابا بعلمه. اما اليوم فالمرجح ان بعضهم سينكر هذا القول او يسخر منه. وسيضطر الفقيه الى وضع شروح واحتمالات ، لكن أحدا لن يحمل قوله على محمل الجد.

نحن اذن ننتقل من زمن التلقين ، الى زمن المجادلة.

لكن الامر لا يقتصر على طريقة انتقال المعرفة. فلدينا أيضا الفارق في تقدير الذات والمسافة بينها وبين السلطات الاجتماعية (او الشخصيات المرجعية). كان انحصار المعرفة يسمح بحصر النفوذ او السلطة الاجتماعية. فلما انتشرت المعرفة ، لم يعد ثمة فارق يسمح بقيام سلطة او نفوذ. بات بوسع عامة الناس ان يختاروا نوع المعرفة التي تناسبهم ، وطبيعة العلاقة التي تربطهم بالآخرين. نحن اذن نتحدث عن زمن جديد ، تتسم علاقات الناس فيه بانها اقرب للتعاقدية الاختيارية (ربما المؤقتة في غالب الأحيان).

الثور والحوت يحملان الأرض. كتاب عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات للقزويني

اظن ان الصورة قد اتضحت الآن. فالكلام عن التخصص ، مجرد قناع لمشكل آخر ، ربما كان غير واضح لطرفي النقاش. هذا المشكل هو انهيار علاقة السلطة التي قامت في اطار التلقين ، لان الزمن تغير ، فانتهى الظرف الثقافي الذي استوجبها. الذي يتحدث عن التخصص يطالب – في حقيقة الامر – بالعلاقة القديمة التي كانت تعطيه نوعا من السلطة. والذي يجادل انما يرفض هذا التراتب ، ويطالب بان يكون ندا وشريكا في صناعة  الفكرة ، أي مساويا للطرف الثاني في العلاقة.

لو أخذنا التحليل الى نهاياته المنطقية ، فقد يسعنا القول ان الذين يمارسون النقد في الاطار الديني ، او الذين يسخرون من الأفكار والممارسات غير العقلانية ، انما يعبرون عن رفض للتبرير الديني او الثقافي ، الذي انشلسلطة انشأ سلطة اجتماعية مغلقة او غير مرنة. الموضوع اذن ليس المعرفة بذاتها بل تجلياتها في التراتب الاجتماعي.

الأربعاء - 29 ذو القعدة 1443 هـ - 29 يونيو 2022 مـ رقم العدد [15919]

https://aawsat.com/home/article/3729966


21/08/2019

في القيمة الدنيوية لاحكام الدين



لا تستهدف هذه المقالة تمجيد الفيلسوف والفقيه الاندلسي ابي الوليد بن رشد (1126-1198م) مع أنه يستحق التمجيد دون أدنى شك. غرضي محدود في بيان سبق ابن رشد الى مسائل في فلسفة الدين ، لازالت محل نقاش حتى اليوم. ربما يؤخذ هذا دليلا على ان أذهاننا لا تزال حبيسة الماضي وجدالاته. وهذا وارد طبعا. لكن دلالته الاقوى هي ان عبقرية الرجل قد سبقت زمنه.
تمثال ابن رشد في قرطبة-اسبانيا
كتب ابن رشد ما يزيد عن 100 كتاب في مختلف العلوم ، من الفقه الى الفلسفة والفيزياء والمنطق والفلك. لكن غالبية من اطلعوا عليها مالوا الى تركها جانبا ، لأن نهاياتها المنطقية ، لا تلائم الرؤية السائدة بين أهل العلم الديني ، في ذلك الزمان وفي هذا الزمان على السواء.
سوف اعرض باختصار مسألة واحدة أثارها ابن رشد ، وهي لازالت مثيرة لاهتمامنا اليوم ، أعني بها المعيار الدنيوي للبرهنة على صلاح الدين. فقد قرر ابن رشد أولا ، ان احكام الشريعة قائمة كلها على اساس منطقي عقلاني. إذ يستحيل ان يحصر الخالق التكليف في العقلاء ، ثم يأمرهم بما لا يقبله العقل. ويترتب على هذا ، ان عقول البشر قادرة على استيعاب حكم الاحكام ومناسباتها وكيفية تطبيقها. وبالنسبة للاحكام الناظمة للتعاملات بين الناس ، فان معنى كونها عقلانية هو استهدافها لمصالح مقبولة عند العقلاء. ويخرج من هذا أمران ، الأول: الاحكام التي لا نعرف حكمتها او حقيقة المصالح التي تستهدفها ، فهذه تبقى مفتوحة لغيرنا ممن يعرف ، اليوم او في المستقبل. والثاني: ان بعض ما يقبله العقلاء من أهل بلد بعينه او دين بعينه ، قد لا يقبله غيرهم. وهذا لا يخل بعقلانية الحكم او حكمته. ذلك ان بعض المعقولات مشترك بين كافة عقلاء العالم ، وبعضها مقيد بأعراف محلية ، أو قيم أخرى تسهم في تشكيل مفهوم المصلحة ، لكن قبولها لا يتجاوز نطاقا جغرافيا او ثقافيا محددا.
تتعارض هذه الفكرة جوهريا مع فرضية مشهورة في التفكير الديني ، تصل الى حد المسلمات ، اعني بها قولهم ان عقل البشر محدود فلا يستطيع ادراك بعض احكام الشريعة او عللها. مع انه لا يستطيع - في الوقت نفسه - انكار كونها جزء من الشرع.
تتعارض هذه الفكرة أيضا مع الرؤية التي يتبناها كافة الاخباريين وبعض المتاثرين بهم من الاصوليين ، وفحواها ان المصالح والمفاسد او الحسن والقبح الذي يراه البشر في الافعال ، لا يترتب عليه قيمة شرعية من حيث الاصل والمبدأ ، الا اذا أقرها الشارع. اي ان الدنيا ليست دار اختبار او تعيين لما يصلح وما لا يصلح. يعتقد هذا الفريق (وهو يشكل التيار العام في التفكير الديني التقليدي) ان الغرض الاول للدين هو تعبيد الناس لرب العالمين ، عسى ان يحضوا بالنجاة في الآخرة. أما الدنيا فهي مجرد طريق يعبره الانسان الى دار القرار ، لا نربح شيئا اذا كسبناها ولا نخسر شيئا اذا فقدناها.
خلافا لهذا رأى ابن رشد ان صلاح الدنيا غرض جوهري من اغراض الدين. وان افساد الانسان لدنياه قد يذهب بآخرته. بناء عليه فان صلاح الاحكام والاعمال الدينية بشكل عام ، يجب ان يظهر أثره في الدنيا ، وليس في الآخرة ، مثل القول: افعل هذا وستعرف فائدة الاستجابة بعدما تموت. لقد نزل الدين رحمة للعالمين ، في الدنيا أولا. وان اثبات فائدته لا يتحقق الا برؤية أثره الدنيوي.
الشرق الاوسط الأربعاء - 20 ذو الحجة 1440 هـ - 21 أغسطس 2019 مـ رقم العدد [14876 https://aawsat.com/node/1865066/

29/05/2019

هيمنة الاتجاه الاخباري على الفقه

|| لم يعد للعقل دور مستقل. فقهاء اليوم يبحثون عن حلول لمشكلات الحياة الحديثة في كتب الحديث وفي تراث اسلافهم ، رغم علمهم بان هذا حل مستحيل||
تأسس علم الفقه في القرن الثاني للهجرة ، حين وجد المسلمون أن ما وصلهم من حديث الرسول لا يغطي المسائل الجديدة. وصور ابو الفتح الشهرستاني هذا المعنى بقوله ان "الحوادث والوقائع .. مما لا يقبل الحصر والعد. ونعلم قطعا أنه لم يرد في كل حادثة نص... والنصوص إذا كانت متناهية والوقائع غير متناهية ، وما لا يتناهى لا يضبطه ما يتناهى ، علم قطعا أن الاجتهاد والقياس واجب الاعتبار".
مسجد وضريح الامام الشافعي-القاهرة
مسجد وضريح الامام الشافعي-القاهرة
والمشهور ان الامام الشافعي (ت 204ه) هو الذي وضع القواعد الأولية للاجتهاد واستنباط الاحكام في كتابه"الرسالة". أما أول من مارس الاجتهاد فالمشهور انه الامام ابو حنيفة النعمان وتلاميذه (ت 150ه). ومنذئذ انقسم المشتغلون بالفقه الى فريقين: الفريق الذي يسمى اهل الرأي او الاصوليون ، وهو يدعو للبحث عن قواعد عامة نستفيدها من النصوص ، ونجعلها مرجعا لتكييف الحوادث الجديدة ، ان تطلبت حكما شرعيا. مقتضى هذا الرأي في نهاياته المنطقية ، ان الشريعة ليست مجموعة احكام مدرجة في نصوص ، بل منهج وفلسفة عمل ، جرى توضيحها من خلال امثلة واحكام في قضايا ، ذكرت في القرآن او حديث الرسول. وان الاعتماد الكامل على الادلة العقلية ، سيضمن جعل التشريع متجددا مستجيبا لعصره. هذا يقتضي بطبيعة الحال ان تخضع احكام الشريعة للمراجعة المستمرة. ولذا يتوقع ان يختلف الحكم في الموضوع الواحد ، بين زمن وزمن وبين مكان وآخر ، اذا اختلفت البيئة المادية او الثقافية لموضوع الحكم.
اما اهل الحديث ، ويطلق عليهم ايضا الاخباريون ، فهم يأخذون برؤية انكماشية نوعا ما ، تحصر التشريع في حدود المنصوص ، وتمنع انشاء الزامات شرعية اعتمادا على اجتهاد مستقل. ومقتضى هذا الراي في نهاياته المنطقية ، هو ان قبول اصل الدين والشريعة ، يعني الاقتصار على ماحدده الشارع ، وعدم التصرف بموازاته على اي نحو ، حتى لو كان صلاح التصرف ظاهرا للعيان.
تختلف الحجة القيمية بين الفريقين. إذ يرى الاصوليون ان الدين غرضه صلاح الدنيا. ومن صلحت دنياه ، نجا في الآخرة. بينما يرى الفريق الثاني ان غاية الخلق هي عبادة الخالق وان غرض الدين هو النجاة في الاخرة ، على النحو الذي عرفه التنزيل الحكيم. ولذا فواجب المؤمن هو الاعداد للآخرة ولو على حساب الدنيا.
ويتضح مما سبق ان الاتجاه الاول (الاجتهاد) اكثر قابلية للتفاعل مع التطور المادي والثقافي للمجتمع. لكن انتشاره سيفضي الى تلاشي الفاصل بين الديني والدنيوي ، وضمور ما يسمى بالصبغة الدينية للحياة. اما الاتجاه الثاني (الاخباري) فهو يميل الى نوع من الثنائية الحيوية ، حيث يتعايش الديني والدنيوي ، كلا في مجال خاص به. وفي هذا الاطار يعمل اهل الفقه على ابراز الصبغة الدينية والتاكيد على خطوط الفصل بين العالمين.
رغم ان ظهور الاجتهاد كان تعبيرا عن حاجة المسلمين لتطوير حياتهم الدينية ، الا انهم – لأسباب عديدة – تراجعوا عنه مبكرا ، وهيمن الاتجاه الاخباري بشكل صريح او ضمني. وفي وقتنا الحاضر لم يعد للعقل دور مستقل. بل اصبح تابعا ثانويا. ولهذا تجد الفقهاء يبحثون عن حلول لمشكلات الحياة الحديثة في كتب الحديث او في تراث اسلافهم ، رغم علمهم بان الحل مستحيل ، ما لم نعط العقل دورا مستقلا موازيا للكتاب والسنة. لكن قرارا مثل هذا يتطلب تعديلا في التصور الاساسي او الفلسفة التي ينطلق منها الفقيه ، على النحو الذي شرحته آنفا.
الشرق الاوسط الأربعاء - 24 شهر رمضان 1440 هـ - 29 مايو 2019 مـ رقم العدد [14792]
https://aawsat.com/node/1743631

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...